أسماء يوم القيامة في القرآن ومعانيها

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2024-10-06 - 1446/04/03
عناصر الخطبة
1/الرحلة القصيرة إلى الدنيا 2/كثرة أسماء يوم القيامة في القرآن 3/غايات ذكر أسماء كثيرة ليوم القيامة في القرآن 4/من أسماء يوم القيامة.

اقتباس

كم في يوم القيامة من حسرات، وكم فيها من دموع وآهات، وكم فيها من عذاب الندامة الأليم، وصور الأسف العظيم! ولكن لا ينفع أولئك المتحسرين تحسرٌ ولا ندامة، ولا حزن يحزنونه يوم القيامة؛ لأن الصحف قد...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71]؛ أما بعد:

 

أيها المسلمون: رحلة يسيرة، إلى حياة قصيرة، تختلط فيها الأتراح بالأفراح، والضحك بالبكاء، والراحة بالعناء، كلما تمر أيام تلك الرحلة يقترب الإنسان من حياة أبدية، وأوقات سرمدية، تختلف في أحوالها وأحوال أهلها فيها عما كان الأمر عليه في الحياة التي سبقتها.

 

وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلٌ *** يَحُثُّ بِهَا حَادٍ إلى الْمَوْتِ قَاصِدُ

وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا *** مَنَازِلُ تُطْوَى والمسافرُ قَاعِدُ

 

أنت -أيها الإنسان- صاحب هذه الرحلة القصيرة بسنوات عمرية محدودة إلى هذه الدنيا الفانية، التي تنتظرها الآخرة الباقية؛ (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:64].

 

ولقد خلقك الله على هذه الدنيا لتعبرها لا لتستقر فيها، وتمر بها لا لتخلد حيًا عليها، وتعمل فيها للآخرة الذي ينجيك، لا لتنشغل عنها بما يلهيك؛ فكم من إنسان عرف الغاية من خلقه، والحكمة من وجوده فاستغل سنوات عمره القليل، بما يسعده في عمره الطويل، وزرع في الحياة الوهمية، ما يحصد خيره في الحياة الحقيقية؛ فالدنيا خيال، والآخرة حقيقة؛ قال الشِّبْلِيّ: "الدُّنْيَا خَيَالٌ، وَطَلَبُهَا وَبَالٌ، وَتَرْكُهَا جَمَالٌ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا كَمَالٌ".

 

عباد الله: هذا كتاب الله بين أيدينا، فيه هدايتنا، ووسائل سعادتنا وشفائنا، وموعظة بليغة من ربنا؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس:57].

فلو تأملنا فيه فإننا سنجد في آيات كثيرة منه حديثًا بليغًا عن يوم القيامة وما فيه، ومن ذلك: الحديث عن أسماء يوم القيامة؛ فقد جاء في كتاب الله أسماء كثيرة ليوم القيامة، والشيء إذا شرف وعظم كثرت أسماؤه وصفاته، وقد جاءت تسمية هذا اليوم العظيم بإضافة كلمة يوم إلى اسم بعدها مرتبط بما يجري ذلك اليوم الكبير؛ كما وردت هذه الأسماء تصف شدة ذلك اليوم وهوله، وما يحصل للخلق فيه من الثواب والعقاب، والرفعة والإكرام، والضعة والإذلال.

 

ولو نظرنا -معشر المسلمين- في حِكم ذكر تلك الأسماء وغاياته؛ فإننا سنجد منها: تربية المهابة في قلوب المكلفين ليحثهم ذلك على الاستعداد لذلك اليوم بصالح العمل، وتركِ التلهي بالدنيا والتعلقِ بالتسويف والأمل؛ "خَطَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه -بِالْكُوفَةِ؛ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ طُولُ الْأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، فَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فيُنْسِي الْآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدْبِرَةً، وَالْآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ".

 

ومن حكم ذلك -أيضًا-: تحذير الظالم، والتخفيف عن المظلوم، وتصبير المؤمن على مضض الدنيا ولأوائها؛ ففي ذلك اليوم ينتصف المظلوم من الظالم، ويستريح المؤمن من عناء الدنيا وأحزانها؛ قال الله: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر:34].

 

 وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه -أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: "العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ"(متفق عليه).

 

أيها المؤمنون: فمن أسماء يوم القيامة: يوم القيامة، وهو أشهر أسمائها، وقد ذُكِر في القرآن مرات عديدة؛ مرتبطًا بكونه يوم القيام من المقابر، لجميع الأوائل والأواخر، لإقامة الحساب، وتمييز الناس بالثواب أو العقاب، وبكونه يوم الفصل والجزاء، والخسارة لمن كان لله من الأعداء، وبجعله يوم الفوز لعباده المتقين، وتوفيةِ أجور الصالحين، ووقوف الظالمين أذلاء بين يدي رب العالمين.

 

فيا من أسرف على نفسه بالعصيان، ارجع إلى ربك بالتوبة والندامة، قبل أن تقف بالخزي يوم القيامة، ويا من يعمل مخلصًا بشرائع الإسلام ويموت على ذلك، أبشر بحسن الجزاء يوم مآلك؛ قال تعالى:(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران:185].

 

ومن أسماء يوم القيامة: اليوم الآخر، وقد سمي بهذا الاسم؛ لأنه لا يوم بعده، وأكثر نصوص الوحي التي ذكرت هذا الاسم ربطته بقضية مركزية في هذا الدين ألا وهي قضية الإيمان به، الذي يعني الإيمان بجميع ما فيه إيمانًا صحيحاً، ابتداءً بما بعد الموت إلى الاستقرار في الجنة أو النار؛ ولهذا جُعل الإيمان باليوم الآخر ركنًا من أركان الإيمان الستة التي لا يصح إسلام أحد إلا بالإقرار بها.

 

وإننا -أيها الكرام- لو نظرنا إلى النصوص القرآنية والنبوية التي تذكر هذا الاسم لوجدنا أنها تجعل الإيمان به حاثًا على القيام بالطاعات، وناهيًا عن السيئات؛ قال الله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[البقرة:228]، وقال: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[التوبة:18].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"(متفق عليه).

 

فيا أيها المسلم: قوِّ إيمانك باليوم الآخر؛ ليكون معينًا لك على النهوض إلى الطاعات، وترك السيئات؛ ولا يذهب عن بالك أنه يوم لا يوم بعده، فهو حياة الأبد، فاجعل نفسك سعيداً فيه بصلاحك اليوم في حياة الأمد؛ حتى لا تقول في اليوم الآخر: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الفجر:24].

 

أيها الإخوة الفضلاء: ومن أسماء يوم القيامة: يوم الحسرة؛ قال -تعالى-: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)[مريم:39].

 

وقد سمي ذلك اليوم بيوم الحسرة لشدة التحسر والحزن الذي يلحق المفرِّطين، الذين أسرفوا على أنفسهم في الدنيا بعصيان رب العالمين؛ فكم في يوم القيامة من حسرات، وكم فيها من دموع وآهات، وكم فيها من عذاب الندامة الأليم، وصور الأسف العظيم، ولكن لا ينفع أولئك المتحسرين تحسرٌ ولا ندامة، ولا حزن يحزنونه يوم القيامة؛ لأن الصحف قد طويت، والنفوس على ما كسبت قد جُزيت.

 

 فاسمعوا من تلك الحسرات: حسرة من أضله جليس السوء عن اتباع الحق: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا*يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا)[الفرقان:27-29]؛ فاحذر جلساء الشر؛ حتى لا تكون من أهل هذه الحسرة.

 

واسمع حسرة من ضيع دنياه فيما لا ينفعه في أُخراه؛ قال الله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[الزمر:56-59].

 

فاحذر -أيها الإنسان-أن تذهب سنوات عمرك فيما يضرك في قبرك ويوم حشرك.

 

ومن أعظم الحسرات في يوم الحسرة: حين يقال لأهل النار: خلود ولا موت؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)[مريم: 39](متفق عليه).

 

وإذا كان يوم الحسرة حاصلاً في حق المسيئين فإنه هو ابتداء الفرحة الحقيقية في حق المحسنين؛ قال الله -تعالى-: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر:34].

 

أيها الأحبة الكرام: ومن أسماء يوم القيامة: يوم الحساب؛ قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ)[غافر:27].

 

وقد سمي ذلك اليوم بيوم الحساب؛ لأن الله تعالى يوقف عباده فيه بين يديه، فيحاسبهم على ما قدموا من العمل صغيره وكبيره، وسره وعلنه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

 

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رضي الله عنه -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"(متفق عليه).

 

فيا -أيها الإنسان- لا تنس يوم الحساب فتضل عن العمل له؛ فإن نسيانه سبب للعذاب فيه؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[ص:26].

 

ويا من يؤمن بيوم الحساب، لا تترك الصلاة ولا تقصر فيها؛ فإن الصلاة أول ما تحاسب به هناك من عملك الذي بينك وبين خالقك؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ؛ قال الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ"(متفق عليه).

 

ويا من يؤمن بيوم الحساب: إياك أن تظلم أحداً في دمه، أو ماله، أو عرضه، أو عمله، أو سائر حقوقه؛ فإن الحساب يوم الحساب على الظلم كبير؛ قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ"(متفق عليه).

 

وقال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(متفق عليه).

 

آهٍ ما أعظمها من كلمة، وأوجعها من عبارة لدى الظالم يوم يقول له المظلوم الذي لا يجد له اليوم ناصراً من البشر: بيني وبينك يوم الحساب.

 

 ربما لا يشعر الظالم بوجع هذه الكلمة اليوم، لكن سيشعر بها غداً يوم العرض الأكبر.

 

فاعْمَلْ لِنَفْسِكَ صالِحَاً تُجَزْي بِهِ *** يَومَ الحِسَاب فإن عُمْرَكَ مَوسِمُ

 

 نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

 

أيها المسلمون: ومن أسماء يوم القيامة كذلك: يوم الخلود؛ فيوم القيامة يوم لا انقطاع له، ويوم متصل لا نهاية فيه، فأهل الجنة فيها خالدون، وأهل النار من الكافرين هم فيها خالدون كذلك؛ قال -تعالى-: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[الحديد:12].

 

وقال الله -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[التوبة:68].

 

أفلا عملنا-معشر المسلمين-في دار الفناء لدار البقاء، واستعدينا بصالح العمل في الحياة الزائلة، للحياة الأبدية الخالدة!

 

 ألا إن حمقى المخلوقين يعيشون في هذه الحياة عن الآخرة لاهين، أفحسبوا أنفسهم في الدنيا خالدين، أفلم يعتبروا بمرور الليالي والأيام على العالمين؛ حتى يَصحوا من سبات الغافلين!

 

قال الشاعر:

مَنَعَ الْجَديدانِ البَقاءَ وأَبْلَيا *** أُمَمًا خَلَوْنَ مِنَ الْقُرونِ قَديما

أَغْفَلْتَ مِنْ دارِ الْبَقاءِ نَعيمَها *** وطَلَبْتَ في دارِ الْفَناءِ نَعيما!

 

أيها المؤمنون: ومن أسماء يوم القيامة: يوم الدِّين؛ ومعنى الدين: الجزاء. فيوم القيامة هو يوم الجزاء على الأعمال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)[الزلزلة:7-8].

 

إنه يوم عظيم، والخطب فيه جسيم؛ لأنه وقوف للجزاء بين يدي الملك العظيم، وعاقبته: إما إلى عيش مقيم في جنات النعيم، وإما إلى عذاب أليم في وسط الجحيم؛ ولهذا عظم الله هذا الاسم ليوم القيامة فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)[الانفطار:17-19].

 

في ذلك اليوم الكبير يفوز المؤمنون به الذين أحسنوا الاستعداد له؛ قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)[المعارج:26]. إلى قوله: (أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)[المعارج:35].

 

ويخسر المكذبون له؛ قال -تعالى-: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)[المدثر:42]. فأجابوا بذكر أسباب ذلك، فكان منها قولهم :(وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ)[المدثر:46].

 

 ويدعون على أنفسهم بالويل والثبور؛ قال -تعالى-: (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ)[الصافات:20].

 

يا -أيها الإنسان- عمرك هو المزرعة ويوم الدين هو الحصاد، وأنت اليوم تعمل وغداً تحاسب على هذا العمل، فاعمل ما شئت، لكن تذكر أنك ستحاسب وستجزى؛ قال الله تعالى:(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف:29].

 

وحتى لا ننسى هذا اليوم فنسرف على أنفسنا بالعصيان، ونتكاسل عن طاعة الرحمن؛ فقد جعل الله لنا مذكِّراً يوميًا نمر به في اليوم عدة مرات؛ حتى نستعد ولا نغفل؛ فنحن نقرأ في كل صلاة في كل ركعة سورة الفاتحة وفيها؛ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة:4].

 

فهلا تذكرنا ذلك اليوم كل يوم ونحن نقرأ هذه الآية!

 

ومن أسماء يوم القيامة: يوم التلاق؛ قال -تعالى-: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ)[غافر:15].

 

 فيوم القيامة يومٌ يلاقي العبد فيه ربه فيحاسبه على ما عمل في دنياه، ويلاقي فيه المظلوم ظالمه، فيأخذ حقه منه وافيًا غير منقوص، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الْمَقْتُولَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقًا رَأْسَهُ بِيَمِينِهِ - أَوْ قَالَ: بِشِمَالِهِ - آخِذًا صَاحِبَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ: رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟"(رواه أحمد).

 

ومن أسماء يوم القيامة -أيضًا-: يوم الآزفة؛ قال -تعالى-: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)[غافر:18]، وسميت بذلك لقرب وقوعها.

 

فلا تسوِّف –أيها العاصي-التوبةَ؛ ظنًا بأن القيامة بعيدة، فربما لا تكون إلا أنفاس أو لحظات أو أيام أو شهور أو سنون قليلة ويأتيك الموت، ومن مات فقد قامت قيامته؛  فعجِّل الرجوع إلى ربك قبل الانتقال إليه.

 

عباد الله: إن أسماء يوم القيامة كثيرة، فيكفينا للعظة ما سمعنا لو كانت لنا قلوب حية، وألباب نقية؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق:37].

 

وقال الشاعر:

تكفي اللبيب إشارة مرموزة *** وسواه يُدعى بالنداء العالي

 

فطوبى لمن جعل يوم القيامة نصب عينيه، وقدّم من دنياه لما بين يديه، واستعد له بما ينجيه فيه، وأطاع ربه في حياته بما يرضيه حين يلاقيه، وصبر على غصص الدنيا؛ لينال في الآخرة ما يرضى، وخرج من حياته خفيف الظهر من حقوق المخلوقين، ومظالم المظلومين، فيسعد يوم التناد بلقاء رب العالمين؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان:33].

 

وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير..

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life