عناصر الخطبة
1/مكانة سورة الأعلى 2/تفسير سورة الأعلىاقتباس
والْيَومَ نَحْتَاجُ أَنْ نَتَأَمَّلَ، عَنْ سِرِّ سُورَةٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّها كَثِيرًا! وَيُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءتِهَا فِي صَلاةِ الْوَتْرِ وفِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَفِي صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَرُبَّمَا..
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا)، أَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، العَلِيُّ الأَعْلَى، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى). وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ بَشَّرَهُ رَبُّهُ بِقَولِهِ: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى) (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) نَشْهَدُ أَنَّهُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَنَصَحَ لِلأُمَّةِ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكِ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاحْمَدُوهُ عَلى إكْمَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ، وَحُضُورِ الْعِيدِ السَّعِيدِ، وَإكْمَالِ السِّتِّ الفَاضِلاتِ، وَاسْأَلُوا الرَّبَّ القَبُولَ والتَّوفِيقَ والتَّسدِيدَ.
عَبادَ اللهِ: لَقَدْ عِشْنَا مَعَ الْقُرْآنِ الكَريمِ طِيلَةَ شَهْرِ رَمَضَانَ تِلاوَةً وَتَدَبُّراً فَحَمْدًا لَكَ يَارَبُّ على نِعْمَةِ الْقُرْآنِ. والْيَومَ نَحْتَاجُ أَنْ نَتَأَمَّلَ، عَنْ سِرِّ سُورَةٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّها كَثِيرًا! وَيُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءتِهَا فِي صَلاةِ الْوَتْرِ وفِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَفِي صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَيَقْرَأُهَا، هِيَ سُورَةٌ مَكِيَّةٌ قِيلَ أَنَّهَا ثَامِنُ سُورَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ قَالَ: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ". وَكَانَ كُلَّمَا قَرَأَهَا قَالَ: "سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى". وَهِيَ السُّورَةُ الوَحِيدَةُ التي افْتَتَحَهَا اللهُ تَعَالى بِصِيغَةِ التَّسْبِيحِ بِفِعْلِ الأَمْرِ! تَقُولُ أُمُّنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ”.
عَبادَ اللهِ: قَطْعًا لِهَذِهِ السُّورَةِ حِكَمًا لَا يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نَجْهَلَهَا. فَلْنَقِفْ مَعَ هَذِهِ السُّورَةِ الْعَظِيمَةِ دِرَاسَةً وَفَهْمًا وَتَدَبُّرًا، فَقَدْ ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ في العِيدَيْنِ وَيَومَ الْجُمُعَةِ بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، وعن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، و(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، و(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). أخرجه أحمد وصححه الألباني. سَمَّاهَا رَبُّنَا: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وَفِي الْمُصْحَفِ: سُورَةُ الْأَعْلَى، وَأَمُّنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تُسَمِّيهَا: بِسُورَةِ سَبِّحْ.
أَيُّهَا الْمُؤمِنُونَ: سُورَةُ الْأَعْلَى تُعَلِّمُنَا بِأَنَّنَا نَتَعَامَلُ معَ اللهِ الْعَلِيِّ الأَعْلَى عَلى كُلِّ شَيءٍ، أَعْلَى مِنْ كُلِّ الظُّرُوفِ والأَحْدَاثِ والأَشْخَاصِ، وَأَنَّكَ أَيُّهَا الْمُسْلمُ أَعْلَى وَأَغْلى مَا في الوُجُودِ، وَأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ هِيَ الأَعْلَى، وَأَنَّ مَنْهَجَهَا هُوَ الأَقْوَمُ وَالأَعْلَى، فَهَذَا الاسْمُ لَهُ دِلالَتُهُ، وَبِشَارَتُهُ، كَمَاَ قَالَ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلا: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
عَبادَ اللهِ: في سُورَةِ الْأَعْلَى؛ يَأْمُرُنَا اللهُ جَلَّ وَعلا بِتَسْبِيحِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ صِفَةِ نَقْصٍ، لِأَنَّ صِفَاتِ اللهِ جَمِيعَهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، لا نَقْصَ فِيهَا ولا خَلَلٍ. فَاللَّهُ تَعَالى لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى. وهَذا التَّسْبِيحُ يَتَضَمَّنُ الثِّقَةَ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَيَتَضَمَّنُ كَذِلكَ الخُضُوعَ لِجَلالِهِ وَالاسْتِكَانَةَ لِعَظَمَتِهِ، تَسْبِيحًا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ اللهِ ِوَجَلالِهِ، لِذا كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ يُسَبِّحُ اللهَ وَيَذْكُرَهُ كُلَّ وَقْتٍ وَحِينٍ، فَيُعْمَرُ ْمَجَالِسَهُ بِالتَّسْبِيحِ، وَ يَخْتِمُ صَلَوَاتِهِ بِالتَّسْبِيحِ، وَإذَا أَوى إلى فِرَاشِهِ وَمَنَامِهِ نَامَ على التَّسْبِيحِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ". بِلْ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ التَّسْبِيحَ مَقَامَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: "إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً".
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى). فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَعْلَى عَلَى كُلِّ شَيءٍ الذِي لَهُ الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ: عُلُوُّ الذَّاتِ وُعُلُوُّ الصِّفَاتِ، سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ. وَنَسْتَطِيعُ أَنْ نَقُوَلَ أَنَّ عُنْوَانَ السُّورَةِ الأَعْظَمَ هُوَ تَرْسِيخُ عُلُوِّ اللهِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنينَ، وَبالتَّالي أنْ تَكُونَ هِمَمُ الْمُسْلِمِ وَتَطَلُّعَاتِهِ عَالِيَةً، وهَذا مَا كَانَ يَغْرِسُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي أَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ، فَإنْ رَأَى سَائِلاً مُعَافًى نَشِيطًا وَجَّهَهُ بِقُولِهِ: ”وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا، فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ”.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَمَّا قَولُ اللهِ سُبْحَانَهُ: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى). لَمْ يُحَدِّدْ سُبْحَانَهُ مَخْلُوقًا مُعَيَّنًا لِيُشِيرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وسَوّى كُلَّ مَخْلُوقٍ فِي أَحْسَنِ الْهَيْئَاتِ. وَتَأَمَّلْ خَلْقَ الإنْسَانِ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَمَا اخْتَصَّهُ مِنَ التَّفْضِيلِ وَالتَّكْرِيم. وَأَعْظَمُهُ أَنْ هَدَاهُ لِدِينٍ قَوِيمٍ، وَأَرْشَدَهُ لِصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، يُوصِلُ إلى جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ فَاللهُمَّ انْفَعْنَا وارْفَعْنَا بِالقُرآنِ الْعَظِيمِ وَبِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينِ.
أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِر الْمُسْلِمين فاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ إلَهِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرينَ، أَشْهَدُ ألَّا إلَهَ إلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ الْمَلِكُ الْمُبِينُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ البَرُّ الأَمِينُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَك عَليهِ، وَعلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلى يَومِ الدِّينِ. أَمَّا بَعدُ. فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَتَأَمَّلُوا قَولَهُ: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى). فَقَدْ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ بِمَقَادِيرَ مَضْبُوطَةٍ مُتْقَنَةٍ وَلِحِكَمٍ مُحكَمَةٍ، ثُمَّ هَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ لِمَا يَصْلُحُ لَهَا، فَصِغَارُ الْحَيَوانَاتِ هَدَاهَا كَيْفَ تَشْرَبُ حَلِيبَ أُمَّهَاتِهَا؟!
وَقَدْ قَالَ التَّابِعِيُّ مُجَاهِدٌ بنُ جَبْرٍ رَحِمَهُ اللهُ أي: قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى). أَيْ: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، فَأَنْبَتَ بِهِ الْعُشْبَ الذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الإِنْسَانُ وَالْحَيَوَانُ. (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) أَي صَيَّرَ هَذَا الْعُشْبَ هَشِيمَاً أَسْوَدًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عُودًا أَخْضَرًا، لِيَتَيَقَّنَ الْمُؤمِنُ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ نِهَايَةٌ. وَأَنَّكَ أَيُّهَا الإنْسَانُ سَتَمُرُّ بِتِلْكَ الْمَرِاحِلِ حَتْمًا! وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى). فَهِيَ بِشَارَةٌ مِنَ اللهِ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ُ سَيُعَلِّمُهُ عِلْمًا لا يَنْسَاهُ. وَسَيُحَفِّظُكَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ، وَيُرَسِّخُهُ فِي قَلْبِكَ فَلا تَنْسَى مِنْهُ شَيْئَاً، (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) أَنْ يُنْسِيَكَهُ مِمَّا أَرَادَ اللهُ نَسْخَهُ، بِأَنْ َيُبَدِّلَهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ بِمِثْلِهِ. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى). فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ لِعِبَادِهِ؛ فَيَشْرَعُ مَا أَرَادَ، وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَعِلْمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ شَامِلٌ لِكُلِّ ظَّاهِرٍ وَخَفِيٍّ، فَالْكُلُّ فِي عِلْمِ اللهِ وَاحِدٌ.
وَمِنْ بِشَارَاتِ اللهِ لِرَسُولِهِ أَيضًا قَولُهُ: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى). بِأَنْ يَهْدِيهِ لِمَا هُوَ أَيْسَرُ، وَيَجْعَلُ شَرْعَهُ وَدِينَهُ يُسْرَاً سَهْلاً. (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى). فَذَكِّرْ يَا مُحَمَّدُ قَومَكَ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَبِشَرْعِهِ وَبِالدَّارِ الآخِرَةِ مَا دَامَتِ الذَّكْرَى مَسْمُوعَةً مَقْبُولَةً. (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) فَقِسْمٌ سَيَمْتَثِلُ وَيَنْتَفِعُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى. (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى). وَقِسْمٌ آخَرُ سَيُعْرِضُ عَنْ هَذِهِ الذَّكْرَى وَلا يَأْبَهُ بِهَا وَهُو الْكَافِرُ الذِي بَلَغَ فِي الشَّقَاءِ مُنْتَهَاهُ، فَهَذا: (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى). فَمَصِيرُهُ نَارًا يُقَاسِي عَذَابَهَا وَيَصْطَلِي بِلَهَبِهَا. وَتِلْكِمُ النَّارُ عَظِيمَةٌ كَبِيرَةٌ مُرْعِبَةٌ، كَمَا وَصَفَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَولِهِ:" يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَأَمَّا حَرَارَتُهَا فَإِنَّهَا أَشَدُّ مِنْ كُلِّ نَارٍ فِي الدُّنْيَا بِتِسْعٍ وَسِتِّينَ مَرَّةٍ!
(ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى). فَالْكَافِرُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَذَابَاً مُسْتَمِرَّاً، فِي شَقَاءٍ أَبَدِيٍّ. أَمَّا مَنْ انْتَفَعَ بِالْمَوعِظَةِ فَ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى). فَمَنْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّرْكِ وَالْبِدْعَةِ وَابْتَعَدَ عَنِ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ مَعَ النَّاسِ. (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)؛ فَمَا يَزَالَ ذَاكِرَاً للهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، ثُمَّ هُوَ يُقِيمُ صَلَاتَهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ، فَهُوَ فِي طَاعَةٍ للهِ دَائِمَاً، وَفِي سَعَادَةٍ وَهَنَاءٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالى حَالَ أَغْلبِ النَّاسِ فَقَالَ: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا). فَإنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الدُّنْيَا على الآخِرَةِ، وَيَخْتَارُونَ نَعِيمَهَا الْمُؤَقَّتَ الزَّائِلَ، مَعَ أَنَّ الآخِرَةَ تَفْضُلُ الدُّنْيَا بِمَرَاحِلَ لا تُقَدَّرُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أَيْ: وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَبْقَى مِنْهَا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الأَوَامِرِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُسْتَحْسَنَةِ: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)؛ فَقَدْ أَعْطَى اللهُ كُلَّاً مِنْ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صُحُفَاً فِيهَا الْأَخْبَارُ الصَّادِقَةُ وَالْأَحْكَامُ العَادِلَةُ وَالعَقَائِدُ الْمُسْتِقِيمَةُ. وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ”.
فَاشْكُرُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- أَنْ خَلَقَكُمْ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ، وَأَرْسَلَ لَكُمْ خَيرُ نَبِيِّ وَدِينٍ، وَهَدَاكُمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَوَعَدَكُمْ بِجَنَّةِ نَعِيمٍ. فَاللَّهُمَّ اَجْعَلِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلُوبِنَا وَنُورَ صَدُرِنَا وَجَلَاءَ أحْزانِنَا وَذَهَابَ هُمُومِنَا، اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مِنْهُ مَا جَهِلْنَا وَذَكِّرْنَا مِنْهُ مَا نُسِّينَا، واجْعَلْهُ شَاهِدَاً لَنَا لا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ كَمَا بَلَّغْتَنَا رَمَضَانَ فَتَقَبَّلْهُ مِنَّا يَا مَنَّانُ يَا رَحْمَانُ، وَأَعْتِقْ فِيهِ رِقَابَنَا وَرِقَابَ وَالِدِينا وَذَرَارِينَا مِنَ النَّارِ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ. نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوطَانِنَا وَوَفِّقْ وُلاةَ أُمُورِنَا لِمَ تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ يا ذا الجلالِ والإكْرَامِ.
اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
التعليقات