عناصر الخطبة
1/ ضرب القرآن للمثل بالبعوض والسر في ذلك 2/ اتصاف بعض فئات الناس بصفات البعوض 3/ التآلف والترابط في الإسلاماهداف الخطبة
اقتباس
قد يعجب البعض من ضرب الله مثلاً بالبعوضة في القرآن الكريم، تلك الحشرة الصغيرة التي تبحث عن أكثر أماكن الإنسان نورًا لتحطّ رحالها فيه، فتحيل هدوءَه إلى تضجُّر وتبرّم، فتختفي مرة وتبدو مرة أخرى، محاولةً الانقضاض عليه في وقتٍ قد أخلدت جوارحه فيه إلى...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
اتقوا الله -عباد الله-، وراقبوه في سركم وجهركم، واعلموا أنه يراكم في ليلكم ونهاركم، وحِلّكم وسفركم، ويعلم ما تكنّه صدوركم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
أحبتَنا الكرام: يقول الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [البقرة: 26].
قد يعجب البعض من ضرب الله مثلاً بالبعوضة في القرآن الكريم، تلك الحشرة الصغيرة التي تبحث عن أكثر أماكن الإنسان نورًا لتحطّ رحالها فيه، فتحيل هدوءَه إلى تضجُّر وتبرّم، فتختفي مرة وتبدو مرة أخرى، محاولةً الانقضاض عليه في وقتٍ قد أخلدت جوارحه فيه إلى السكون والراحة، ثم تهبط بخلسة على ذلك الجسد الآمن، وصاحبه لا يشعر بهذا التخطيط، ولا يحسّ بذلك الكيد، ثم تسلّط رمحها البغيض على جسده المستقر، وفي برهة من الزمن ينتبه ذلك المسكين بأنه طعِن غيلة، وسُرق أفضل دمه من جسده، فيتلفّت يمنة ويسرة ليرى بأم عينيه أنها البعوضة، تلك الحشرة التي تعيش على الآخرين، تهجم عليهم في غفلاتهم، وتمتصّ منهم دماءهم، فلا يملك حين يراها قد أفلتت طائرةً من بين يديه إلا أن يطلق دعوات ممتزجة بزفرات التظلُّم والقهر بأن لا يحالفها التوفيق، وأن يشفي غيظ قلبه فيها بأن يراها ميتة ودمه يقطر منها.
عذرًا -أيها الأحبة- إن كنت اليوم قد جرحت مشاعركم وآذيت مسامعكم بالكلام عن هذه الحشرة -أعزكم الله-، غير أني وجدتها في هذا الزمن تقود فئامًا من الناس إلى قذارتها، وتنهج بهم سبيلها المظلم القاتم، فساروا خلفها، واتبعوا أثرها، يبنون حياتهم على أذى الآخرين، ويسعدون أنفسَهم على حساب غيرهم، فارتضى بعضهم أن يلوكَ لحمَ أخيه ميتا، فهو لا يشغل وقته إلا بذكر أسوأ أحوال إخوانه المسلمين، يتلذّذ باستنقاصهم، ويستطعم النيلَ منهم، يصفهم بأقبح الأوصاف، ويسمِهم بأشنع السِّمات، يُضحك القومَ بأخبارهم، ويبهج الأعداءَ بشرّ أقدارهم، سلِم من لسانه اليهود والنصارى، ولم يسلم إخوانه منه.
فيا عجبًا من هؤلاء! كيف وقر الوقر في آذانهم من قول الباري -سبحانه وتعالى-: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات: 12]؟! أم كيف جهلوا قول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" (رواه أبو داود)؟!
فاتق الله -يا عبد الله- أن تكون ممن يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار من نحاس، بل واتق الله أن تكون ممن ينصت لهؤلاء في طعنهم في أعراض الناس والأكل من لحومهم، لا تتردّد أن تسكتَ ألسنتهم عن هذا الحرام، وكن درعًا لظهر أخيك في الغيب، ليردّ الله عنك النار يوم القيامة؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ردَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن").
أيها المسلمون: وحملت فئة من كتائب البعوض لواءَ السعي بين الناس بالإفساد وإفشاء العداوة بين الأشقاء والأصدقاء، فلا يهدأ لهم بال حتى يرَوا الصديقين الحميمين قد تعاديا، والزوجين الحبيبين قد تفرّقا، والقريبين المتآلفين قد اختلفا، سرى حبّ النميمة مجرى الدم في عروقهم، يحرقهم صفاء الأفئدة، ويغيظهم حب التآلف، مرضت نفوسهم، واسودّت قلوبهم، فأيّ ذمّ نذمهم بعد ذمّ خالقهم لهم في كتابه العزيز حين قال: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم: 11]؟! وأيُّ وعيد يذكر لهم بعد وعيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين مرَّ بقبرين فقال: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" (رواه البخاري)؟! فإذا كان هذا الحال الموحش لصاحب النميمة في قبره فما حاله يوم يقف بين يدي ربه وأمام خصمه؟!
وتستطيب فئة من معسكر البعوض البحثَ عن عيوب الناس، فيرون القذاةَ في أعين إخوانهم، ولا يرون الجذع في أعينهم، أصبح الاستهزاء لهم طبعًا، والسخرية لهم سمتا، ما إن يعثر أحدهم على عيب لأخيه ليس من كسب يده إلا ضخّموه، وأضافوا إليه الزور والبهتان، وطاروا به يذيعونه في المجالس والبيوت، يضحكون به أقرانهم، ويشفون به مرض نفوسهم، وقد حادوا بذلك عن منهج الله القويم في كتابه الكريم حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11]، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" (رواه مسلم).
أحبتنا الكرام: لا تقلّ فئة من هؤلاء أذًى على المسلمين اعتادت أن تترصّد لأفعالهم وأقاولهم، فيستمعون منهم ما يكرهون سماعه، ويتجسّسون على ما يحبون إخفاءه، وقد تناسوا أن لعباد الله أسرارًا، بل قد تناسوا أن الله ينهاهم عن ذلك ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول الحبيب: "إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت تفسدهم" (رواه أبو داود بإسناد صحيح).
ويضيف هؤلاء على خطيئتهم خطيئة حينما يلحقون هتكهم لأعراض الناس بالغيبة والنميمة وغيرها، بالشماتة عليهم والفرح بمصائبهم، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك" (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن").
اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وتوبوا إلى الله أيها المؤمنون لعلكم ترحمون.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته أن تستظل بظل الإخاء والترابط، محذّرًا من العوامل التي تنقض عرى ذلك الرباط، ومخوّفًا من إنشاء العداوات وأسبابها الخفية منها والظاهرة، وإلا كيف يكون لهذا الدين كيان به تطبّق أحكامه ويهابه به أعداؤه؟! ولا سبيل -أيها الأحبة في الله- إلى هذه الغاية السامية إلا بتطهير القلوب من درن الغل المؤدي إلى تلك المساوئ التي تقدَّم الحديث عنها، والتي جمعها قول الهادي البشير حينما قال: "لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا" وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ" (رواه مسلم).
والخطر إنما يكمن في كون كثير ممن استمرأ الحياة على حساب الآخرين أن جعل الغيبة عنده تسلية، والنميمة نصيحة، والسخرية مزاحًا، والتجسّس حبّ اطلاع فحسب، والواقع أن العبرةَ إنما هي بالمعاني وليست بالألفاظ والأسامي.
لنعلم جميعًا أن كل هذه المحرمات توغر في الصدور الحقدَ والحسد، وتبني في القلوب صروحًا مظلمة من الشحناء والبغضاء، وإن أولها المزاح واللهو، ويكفي أنها تملأ الصحائف لغوًا ينكّس رأس الإنسان بين يدي خالقه يوم القيامة، ويخجله أمام خلقه، بل إنه وسيلة للإفلاس يوم لا سبيل إلى الغنى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" (رواه مسلم).
فليتق الإنسان ربه، وليعط إخوانه المسلمين حقوقهم، لتحفظ له حقوقه، فما لا يرضاه لنفسه فيجب أن لا يرضاه لغيره.
صلوا -بعد ذلك- وسلموا على حبيب الله ومصطفاه، كما أمركم ربكم فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
التعليقات