عناصر الخطبة
1/ أهمية تقويم سلوك الأطفال. 2/طرق تقويم الأطفال. 3/خطورة التقصير في تقويم الأطفال.اقتباس
وَعَلَى عَكْسِ مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُ التَّرْبَوِيِّينَ الْغَرْبِيِّينَ فَإِنَّ الْعِقَابَ سَوَاءٌ كَانَ حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا وَسِيلَةٌ نَاجِعَةٌ مِنْ وَسَائِلِ التَّقْوِيمِ، وَقَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ وَمَعَ بَعْضِ الْأَوْلَادِ، خَاصَّةً مَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْخَطَأُ عَامِدًا غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]؛ أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الطِّفْلَ يَخْرُجُ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ صَفْحَةً بَيْضَاءَ لَمْ يُكْتَبْ فِيهَا شَيْءٌ، لَا عِلْمَ لَهُ، وَلَا خِبْرَةَ لَهُ؛ (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)[النَّحْلِ: 78]؛ فَطَبِيعِيٌّ أَنْ تَقَعَ مِنْهُ الْأَخْطَاءُ وَالِانْحِرَافَاتُ، وَأَنْ يَتَسَبَّبَ فِي الْمُشْكِلَاتِ؛ وَلِذَا فَإِنَّهُ فِي حَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلَى مَنْ يُوَجِّهُهُ وَيَدُلُّهُ وَيُؤَدِّبُهُ وَيُرْشِدُهُ، فَيُقَوِّمُ سُلُوكِيَّاتِهِ، وَيُصَوِّبُ أَخْطَاءَهُ، وَيُوَجِّهُ آرَاءَهُ، وَيُعَدِّلُ مَفَاهِيمَهُ... وَمَا مِنْ طِفْلٍ يَسْتَغْنِي عَنْ هَذَا أَبَدًا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِتَقْوِيمِ سُلُوكِ الطِّفْلِ أَهَمِّيَّةً بَالِغَةً فِي صَلَاحِهِ طَوَالَ حَيَاتِهِ، وَفَلَاحِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ؛ لِذَا فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِذَلِكَ أَمْرًا مُبَاشِرًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[التَّحْرِيمِ: 6]، يَقُولُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُفَسِّرًا: "عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ".
وَالْوَالِدَانِ مَسْئُولَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ تَقْوِيمِ أَوْلَادِهِمَا وَتَأْدِيبِهِمْ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى).
فَإِنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلطِّفْلِ -بَعْدَ عِنَايَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ- إِلَّا بِتَأْدِيبِ وَالِدَيْهِ لَهُ وَتَقْوِيمِهِمَا لِأَخْطَائِهِ وَانْحِرَافَاتِهِ، وَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ: "وَالصَّبِيُّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ مَا نُقِشَ، وَمَائِلٌ إِلَى كُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَشَارَكَهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ إِهْمَالَ الْبَهَائِمِ شَقِيَ وَهَلَكَ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ عَلَيْهِ"، وَيَقُولُ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
وَأَنَّ مَنْ أَدَّبْتَهُ فِي الصِّبَا *** كَالْعُودِ يُسْقَى الْمَاءَ فِي غَرْسِهْ
حَتَّى تَرَاهُ مُورِقًا نَاضِرًا *** بَعْدَ الَّذِي أَبْصَرْتَ مِنْ يَبَسِهْ
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- يَسْأَلُ الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ، فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِهِ حَقًّا فَلِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ حَقٌّ".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: هُنَاكَ أَسَالِيبُ مُتَعَدِّدَةٌ وَطُرُقٌ كَثِيرَةٌ لِتَقْوِيمِ السُّلُوكِ لَدَى الْأَطْفَالِ، فَلَوِ اسْتُعْمِلَ كُلٌّ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهِ وَأَصَابَ مَحَلَّهُ الْمُنَاسِبَ آتَى ثَمَرَتَهُ الْمَرْجُوَّةَ، فَمِنْهَا:
التَّجَاهُلُ وَالْإِعْرَاضُ: وَهُوَ كَالسَّوْطِ الَّذِي يُلْهِبُ ظَهْرَ الْوَلَدِ ذِي الْحِسِّ الْمُرْهَفِ، وَهُوَ كَفِيلٌ بِتَعْدِيلِ سُلُوكِهِ، وَقَدِ اسْتَخْدَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِرَارًا، فَفِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، يَقُولُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: "فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَلَقَدْ صَوَّرَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مِقْدَارَ تَأْثِيرِ هَذَا الْأُسْلُوبِ التَّقْوِيمِيِّ فِيهِمْ حِينَ قَالَ: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ)[التَّوْبَةِ: 118].
وَمِنْهَا: الْعِقَابُ الْحِسِّيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ: وَعَلَى عَكْسِ مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُ التَّرْبَوِيِّينَ الْغَرْبِيِّينَ فَإِنَّ الْعِقَابَ سَوَاءٌ كَانَ حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا وَسِيلَةٌ نَاجِعَةٌ مِنْ وَسَائِلِ التَّقْوِيمِ، وَقَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ وَمَعَ بَعْضِ الْأَوْلَادِ، خَاصَّةً مَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْخَطَأُ عَامِدًا غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ، وَالْأَصْلُ فِي تَقْوِيمِ الْأَطْفَالِ بِالْعُقُوبَةِ الْبَدَنِيَّةِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، وَكَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَهُمْ أَدَبٌ"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ)؛ وَالْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ بِالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُبَرِّحِ وَلَيْسَ ضَرْبَ انْتِقَامٍ، كَمَا يَحْصُلُ مِنْ بَعْضِ الْمُرَبِّينَ.
وَمِنْهَا: الْمُكَافَأَةُ: وَتَكُونُ كَذَلِكَ حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، فَيُكْرَمُ الْوَلَدُ وَيُقَدَّمُ وَيُثْنَى عَلَيْهِ إِذَا أَحْسَنَ، وَيُلَامُ وَيُوَبَّخُ وَيُعْرَضُ عَنْهُ إِذَا تَعَمَّدَ الْخَطَأَ، وَمِنَ الْمُكَافَأَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ"، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَلُومَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى تَقْصِيرِهِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، فَقَدْ قَوَّمَهُ عَنْ طَرِيقِ تَشْجِيعِهِ بِمَنْحِهِ مُكَافَأَةً مَعْنَوِيَّةً؛ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ إِنْ هُوَ قَامَهُ.
وَقَدْ يَكُونُ مَنْعُ الْوَلَدِ مِنَ الْمُكَافَأَةِ -الَّتِي تَعَوَّدَ عَلَيْهَا- وَحَجْبُهَا عَنْهُ أُسْلُوبًا نَاجِحًا لِتَقْوِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ، فَيُحْرَمُ الِابْتِسَامَةَ مِنْ أَبِيهِ أَوِ الِاهْتِمَامَ مِنْ أُمِّهِ.. فَإِنَّ هَذَا كَفِيلٌ بِتَعْدِيلِ سُلُوكِهِ وَتَقْوِيمِهِ.
وَمِنْهَا: النُّصْحُ وَالْإِرْشَادُ: وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّقْوِيمِ، وَالْبَابُ الْأَوْسَعُ فِي تَعْدِيلِ السُّلُوكِ، وَالَّذِي كَثِيرًا مَا اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَهُوَ الْقَائِلُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ بَالَغَ فِي الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ: "فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَهُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقَائِلُ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ لَمَّا طَاشَتْ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ: "يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ"، يَقُولُ: "فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طُعْمَتِي بَعْدُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْهَا: الْقُدْوَةُ الْحَسَنَةُ: فَلِلْقُدْوَةِ بَالِغُ الْأَثَرِ فِي تَقْوِيمِ السُّلُوكِ، الَّذِي رُبَّمَا فَاقَ الْوَعْظَ وَالنُّصْحَ بِاللِّسَانِ، فَإِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمَّا تَثَاقَلَ فِي التَّحَلُّلِ مِنَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ إِبْرَامِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِأَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَشَارَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَلَى زَوْجِهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلَةً: "اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ؛ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، فَقَوَّمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُلُوكَهُمْ عَنْ طَرِيقِ تَقْدِيمِ الْقُدْوَةِ لَهُمْ.
وَقَدْ قَالُوا: "حَالُ رَجُلٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، أَبْلَغُ مِنْ مَقَالَةِ أَلْفِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ"، وَقَدْ صَاغَ أَحَدُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى فِي قِصَّةٍ شِعْرِيَّةٍ فَقَالَ:
مَشَى الطَّاوُوسُ يَوْمًا بِاعْوِجَاجٍ *** فَقَلَّدَ شَكْلَ مِشْيَتِهِ بَنُوهُ
فَقَالَ: عَلَامَ تَخْتَالُونَ؟ قَالُوا: *** بَدَأْتَ بِهِ وَنَحْنُ مُقَلِّدُوهُ
فَخَالِفْ سَيْرَكَ الْمُعْوَجَّ وَاعْدِلْ *** فَإِنَّا إِنْ عَدَلْتَ مُعَدِّلُوهُ
أَمَا تَدْرِي أَبَانَا كُلُّ فَرْعٍ *** يُجَارِي بِالْخُطَى مَنْ أَدَّبُوهُ
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ تَقْوِيمَ سُلُوكِ أَطْفَالِنَا أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا، وَإِنَّ التَّفْرِيطَ أَوِ التَّقْصِيرَ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ خِيَانَةٌ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْأَنْفَالِ: 27]، وَهِيَ كَذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ تَتَمَثَّلُ نَتَائِجُهَا فِي النِّقَاطِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلًا: خُرُوجُ جِيلٍ مُشَوَّهٍ كَثِيرِ الْعُيُوبِ: فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حِينَ خُلِقَ "لَا يَعْلَمُ شَيْئًا"، وَإِنْ كَانَ كَمَا عَبَّرَ الْقُرْآنُ: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النِّسَاءِ: 28]، وَ(خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)[الْأَنْبِيَاءِ: 37]، وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ: (خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)[الْمَعَارِجِ: 19-21]، فَلَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ بِلَا تَقْوِيمٍ وَلَا تَأْدِيبٍ وَلَا تَعْلِيمٍ، فَمَا عَسَاهُ أَنْ يَصِيرَ إِلَّا وَقَدِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ النَّقَائِصُ وَالْعُيُوبُ كُلُّهَا!
أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ: *** إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ
ثَانِيًا: حِسَابٌ عَسِيرٌ لِلْمُقَصِّرِ فِي تَقْوِيمِ أَوْلَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يُحِطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ"، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ".
وَمِنْهَا: عُقُوقُ الْأَوْلَادِ لِلْآبَاءِ: فَقَدْ "رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَيْهِ بِابْنِهِ فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي هَذَا يَعُقُّنِي، فَقَالَ عُمَرُ لِلِابْنِ: أَمَا تَخَافُ اللَّهَ فِي عُقُوقِ وَالِدِكَ، فَإِنَّ مِنْ حَقِّ الْوَالِدِ كَذَا، وَمِنْ حَقِّ الْوَالِدِ كَذَا، فَقَالَ الِابْنُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَمَا لِلِابْنِ عَلَى وَالِدِهِ حَقٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ حَقُّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَنْجِبَ أُمَّهُ، وَيُحْسِنَ اسْمَهُ، وَيُعَلِّمَهُ الْكِتَابَ، فَقَالَ الِابْنُ، فَوَاللَّهِ مَا اسْتَنْجَبَ أُمِّي، وَمَا هِيَ إِلَّا سِنْدِيَّةٌ اشْتَرَاهَا بِأَرْبَعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَا حَسَّنَ اسْمِي؛ سَمَّانِي جُعَلًا (خُفَّاشًا)، وَلَا عَلَّمَنِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آيَةً وَاحِدَةً، فَالْتَفَتَ عُمَرُ إِلَى الْأَبِ وَقَالَ: تَقُولُ: ابْنِي يَعُقُّنِي! فَقَدْ عَقَقْتَهُ قَبْلَ أَنْ يَعُقَّكَ!".
وَيُجْمِلُ ابْنُ الْقَيِّمِ الْأَمْرَ حِينَ يَقُولُ: "وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْآبَاءِ بِأَوْلَادِهِمْ سَابِقَةٌ عَلَى وَصِيَّةِ الْأَوْلَادِ بِآبَائِهِمْ.. فَمَنْ أَهْمَلَ تَعْلِيمَ وَلَدِهِ مَا يَنْفَعُهُ وَتَرَكَهُ سُدًى فَقَدْ أَسَاءَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ، وَأَكْثَرُ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فَسَادُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَإِهْمَالِهِمْ لَهُمْ، وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ فَرَائِضَ الدِّينِ وَسُنَنَهُ، فَأَضَاعُوهُمْ صِغَارًا فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ كِبَارًا، كَمَا عَاتَبَ بَعْضُهُمْ وَلَدَهُ عَلَى الْعُقُوقِ فَقَالَ: يَا أَبَتِ إِنَّكَ عَقَقْتَنِي صَغِيرًا فَعَقَقْتُكَ كَبِيرًا، وَأَضَعْتَنِي وَلِيدًا فَأَضَعْتُكَ شَيْخًا".
فَاللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى حُسْنِ تَقْوِيمِ أَوْلَادِنَا وَتَأْدِيبِهِمْ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات