أساليب تربوية (11) أثر شخصية الوالدين وتصرفاتهما العفوية في تربية الأطفال

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/المقصود بالتصرفات العفوية وأمثلة عليها 2/أثر التصرفات العفوية في توجيه سلوك الأطفال 3/ضرورة ضبط الآباء والمربين لتصرفاتهم.

اقتباس

مَا أَشْبَهَ أَطْفَالَنَا بِقِطْعَةِ الِاسْفِنْجِ الَّتِي تَمْتَصُّ كُلَّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ حَسَنٍ وَمِنْ قَبِيحٍ، لِذَا فَالْخَطَرُ الْخَطَرُ أَنْ يَرَى الْأَوْلَادُ مِنْ آبَائِهِمْ أَوْ مِنْ أُمَّهَاتِهِمُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّائِنَةَ وَالْقَبِيحَةَ؛ فَإِنَّهُمْ -لَا مَحَالَةَ- يَتَأَثَّرُونَ بِهَا...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ بَرَّ وَصَدَقَ مَنْ قَالَ: "أَوْلَادُنَا يُعِيدُونَ تَرْبِيَتَنَا"، فَإِنَّ الْمَرْءَ لَيَخَافُ أَنْ يَزِلَّ الزَّلَّةَ أَوْ يَقَعَ فِي هَفْوَةٍ أَوْ يَنْطِقَ بِالْكَلِمَةِ الْمُوهِمَةِ فَلْيَحْفَظَهَا عَنْهُ وَلَدُهُ فَيَقْتَدِيَ بِهِ فِيهَا؛ فَيَحْمِلَ وِزْرَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ! بَلْ إِنَّ الْمَرْءَ لَيَتْرُكُ التَّرَخُّصَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ -مَعَ إِبَاحَتِهَا- كَيْ يُعَلِّمَ وَلَدَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالْعَزْمِ وَلَا يَتَتَبَّعَ الرُّخَصَ! فَحَقًّا إِنَّ أَوْلَادَنَا يُعِيدُونَ تَرْبِيَتَنَا، فَهُمْ يَتَأَثَّرُونَ جِدًّا بِتَصَرُّفَاتِنَا حَتَّى تِلْكَ "التَّصَرُّفَاتِ الْعَفْوِيَّةِ" الِاعْتِيَادِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ دُونَ تَعَمُّدٍ وَلَا قَصْدٍ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يُرَادُ بِكَلِمَةِ "تَصَرُّفَاتٌ عَفْوِيَّةٌ" عِدَّةُ مَعَانٍ، فَمِنْهَا: التَّصَرُّفُ بِتِلْقَائِيَّةٍ وَمُبَاشَرَةٍ وَعَدَمِ تَكَلُّفٍ، وَمِنْهَا: الْبَسَاطَةُ فِي التَّعَامُلِ وَعَدَمُ التَّظَاهُرِ بِغَيْرِ مَا عَلَيْهِ النَّفْسُ، وَمِنْهَا: الصِّدْقُ وَعَدَمُ التَّصَنُّعِ، وَمِنْهَا: إِخْرَاجُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ وَمَكْنُونٌ فِي الذَّاتِ دُونَ تَعْدِيلٍ وَلَا تَهْذِيبٍ، وَمِنْهَا: التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يَصْنَعُهَا الْإِنْسَانُ بِشَكْلٍ رُوتِينِيٍّ غَيْرِ إِرَادِيٍّ بِدُونِ إِعْدَادٍ وَلَا تَجْهِيزٍ مُسْبَقٍ... وَلَقَدْ عَرَّفُوا الْعَفْوِيَّةَ فِي الْمَعَاجِمِ اللُّغَوِيَّةِ بِأَنَّهَا: "مَا نَقُومُ بِهِ بِدَافِعٍ ذَاتِيٍّ بِدُونِ تَأْثِيرٍ خَارِجِيٍّ، غَيْرِ مُكْتَسَبٍ بِالتَّعْلِيمِ".

 

وَإِنَّنَا نَقْصِدُ بِالتَّصَرُّفَاتِ الْعَفْوِيَّةِ هُنَا: تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ الْيَوْمِيَّةُ الْعَادِيَّةُ، وَالَّتِي تَخْلُو مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّصَنُّعِ، وَالَّتِي يُمَارِسُهَا الْوَالِدَانِ فِي الْبَيْتِ وَالطَّرِيقِ وَالْعَمَلِ وَمَعَ الْجِيرَانِ وَالضُّيُوفِ وَالْأَرْحَامِ وَمَعَ بَعْضِهِمُ بَعْضًا.

 

وَأَمْثِلَةُ التَّصَرُّفَاتِ الْعَفْوِيَّةِ كَثِيرَةٌ، كَأَنْ يَكُونَ مِنْ عَادَةِ الْوَالِدِ الْإِشَارَةُ بِيَدِهِ أَوْ بِذِرَاعِهِ فِي وَجْهِ مُحَدِّثِهِ، أَوْ كَأَنْ تَنْفَعِلَ الْأُمُّ وَيَعْلُوَ صَوْتُهَا لِأَبْسَطِ الْأَسْبَابِ، أَوْ أَنْ يَتَأَثَّرَ الْأَبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُبْتَلَيْنِ وَالْمَحْرُومِينَ وَيَهُمُّ لِمُسَاعَدَتِهِمْ، وَكَأَنْ يُلَبِّيَ الْوَالِدُ دَعَوَاتِ أَقَارِبِهِ بَادِيَ الِانْشِرَاحِ، وَكَأَنْ تَكُونَ عَادَةُ الْأَبِ فِي جُلُوسِهِ أَنْ يَسْتَنِدَ عَلَى ذِرَاعِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَالْأَوَّلُ مُبَاحٌ وَالثَّانِي مَنْهِيٌّ عَنْهُ... ثُمَّ التَّصَرُّفَاتُ الْعَفْوِيَّةُ كَثِيرَةٌ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ.

 

وَالْحَقُّ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- أَنَّ لِتَصَرُّفَاتِ الْوَالِدَيْنِ -أَيًّا كَانَ مُسَمَّاهَا أَوْ وَصْفُهَا- بَالِغَ الْأَثَرِ عَلَى سُلُوكِ أَطْفَالِهِمْ، فَالطِّفْلُ يَرَى فِي وَالِدَيْهِ الْقُدْوَةَ وَالْمَثَلَ الْأَعْلَى، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ مَا يَفْعَلَانِهِ هُوَ الصَّوَابُ الْمَحْضُ، فَهُمَا -فِي عَقْلِهِ الصَّغِيرِ- لَا يُخْطِئَانِ!

 

فَكُلُّ مَا يُمَارِسُهُ الْوَالِدَانِ يَنْطَبِعُ أَثَرُهُ فِي قُلُوبِ الْأَطْفَالِ وَعُقُولِهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ، وَيَمْتَزِجُ بِشَخْصِيَّاتِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ وَيُؤَثِّرُ فِي حَاضِرِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ، وَقَدِيمًا قَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ لِمُعَلِّمِ وَلَدِهِ: "لِيَكُنْ أَوَّلُ إِصْلَاحِكَ لِوَلَدِي إِصْلَاحَكَ نَفْسَكَ، فَإِنَّ عُيُونَهُمْ مَعْقُودَةٌ بِعَيْنِكَ، فَالْحَسَنُ عِنْدَهُمْ مَا صَنَعْتَ، وَالْقَبِيحُ عِنْدَهُمْ مَا تَرَكْتَ"(الْعِقْدُ الْفَرِيدُ، لِابْنِ عَبْدِ رَبِّهِ)، وَيُؤَكِّدُ كَلَامَهُ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزُّخْرُفِ: 23].

 

فَعِنْدَمَا يُشِيحُ الْأَبُ بِوَجْهِهِ كَارِهًا إِذَا مَا سَمِعَ صَوْتَ أَخِيهِ كَثِيرِ الطَّلَبَاتِ مُنَادِيًا عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ عَفْوِيٌّ يَنْطَبِعُ فِي نُفُوسِ أَطْفَالِهِ، وَعِنْدَمَا يُلَاحِظُ الْوَلَدُ غَضَبَ وَالِدِهِ إِذَا تَأَخَّرَتِ الْأُمُّ فِي تَجْهِيزِ الطَّعَامِ، فَإِنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ عَفْوِيٌّ يَتْرُكُ أَثَرَهُ عَلَى الْأَوْلَادِ أَيْضًا، وَإِذَا رَأَى الْأَوْلَادُ الْبِشْرَ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِمْ إِذَا مَا سَمِعَ الْأَذَانَ فَإِنَّ هَذَا يُحَبِّبُ الْأَوْلَادَ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَى الْعَكْسِ عِنْدَمَا يَنْشَطُ الْوَالِدَانِ لِمَوْعِدِ الْمُسَلْسَلِ الَّذِي حَانَ، وَيَتَكَاسَلَانِ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَالطَّاعَاتِ فَإِنَّ الْأَوْلَادَ سَيُقَلِّدُونَ هَذَا لَا مَحَالَةَ، وَحِينَ يَسْتَقْبِلُ الْأَبُ أُخْتَهُ فِي سَعَادَةٍ وَحُبُورٍ وَيَتَفَنَّنُ فِي إِكْرَامِهَا فَسَيَقْتَدِي بِهِ أَبْنَاؤُهُ فِي إِكْرَامِ أَخَوَاتِهِمْ... وَهَكَذَا يُؤَثِّرُ كُلُّ تَصَرُّفٍ لِلْأَبِ أَوْ لِلْأُمِّ فِي شَخْصِيَّةِ وَسُلُوكِ أَوْلَادِهِمَا.

مَشَى الطَّاوُوسُ يَوْمًا بِاعْوِجَاجٍ *** فَقَلَّدَ شَكْلَ مِشْيَتِهِ بَنُوهُ

فَقَالَ: عَلَامَ تَخْتَالُونَ؟ قَالُوا: *** بَدَأْتَ بِهِ وَنَحْنُ مُقَلِّدُوهُ

فَخَالِفْ سَيْرَكَ الْمُعْوَجَّ وَاعْدِلْ *** فَإِنَّا إِنْ عَدَلْتَ مُعَدِّلُوهُ

أَمَّا تَدْرِي أَبَانَا كُلُّ فَرْعٍ *** يُجَارِي بِالْخُطَى مَنْ أَدَّبُوهُ

وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ

 

فَالْوَلَدُ يَخْرُجُ نُسْخَةً مِنْ وَالِدَيْهِ؛ يَحْمِلُ مِنْهُمَا الْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ، فَهُمَا -فِي الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ- سَبَبُ سَعَادَتِهِ أَوْ سَبَبُ شَقَائِهِ، وَمَا أَشَدَّ كَلَامَ ابْنِ الْقَيِّمِ حِينَ يَقُولُ: "كَمْ مِمَّنْ أَشْقَى وَلَدَهُ وَفِلْذَةَ كَبِدِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِإِهْمَالِهِ وَتَرْكِ تَأْدِيبِهِ وَإِعَانَتِهِ لَهُ عَلَى شَهَوَاتِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُكْرِمُهُ وَقَدْ أَهَانَهُ، وَأَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَقَدْ ظَلَمَهُ وَحَرَمَهُ، فَفَاتَهُ انْتِفَاعُهُ بِوَلَدِهِ وَفَوَّتَ عَلَيْهِ حَظَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ الْفَسَادَ فِي الْأَوْلَادِ رَأَيْتَ عَامَّتَهُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ".

 

وَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ نَجِدُ الطِّفْلَ يَعْتَادُ الصَّالِحَاتِ وَيُحِبُّ الْقُرُبَاتِ إِذَا مَا رَأَى مِنْ وَالِدَيْهِ الْقُدْوَةَ فِي ذَلِكَ، يُحَدِّثُنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَيَقُولُ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا يُخَفِّفُهُ -عَمْرٌو: وَيُقَلِّلُهُ-، وَقَامَ يُصَلِّي، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَأَثَّرَ الْغُلَامُ بِتَصَرُّفَاتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَتَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِهِ وَقَامَ مُصَلِّيًا مِثْلَ صَلَاتِهِ.

 

وَلَعَلَّ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ: "إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، أَنْ يَرَى الْبَنَاتُ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْبَنِينَ صَلَاةَ وَالِدِهِمْ فَيُقَلِّدُونَهُ وَيَقْتَدُونَ بِهِ.

 

وَإِنَّ مِنْ آثَارِ التَّصَرُّفَاتِ الْعَفْوِيَّةِ عَلَى الْأَطْفَالِ -غَيْرَ كَوْنِهِمْ يَقْتَدُونَ بِهَا وَيُقَلِّدُونَهَا-: أَنَّ النُّصْحَ لَهُمْ لَا يُجْدِي مَا دَامَتْ تَصَرُّفَاتُ نَاصِحِهِمْ تُخَالِفُ كَلِمَاتِهِ؛ فَكَيْفَ يَنْتَفِعُونَ بِنَهْيِ آبَائِهِمْ لَهُمْ عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَهُمْ يَرَوْنَهُمْ يَقَعُونَ فِيهَا؟! وَكَيْفَ يَمْتَثِلُونَ لِأَمْرِ وَالِدِيهِمْ بِالرِّفْقِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ وَهُمْ يَرَوْنَ آبَاءَهُمْ يَنْتَهِجُونَ الْعُنْفَ فِي كُلِّ حَيَاتِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ؟! وَكَيْفَ يَجُودُونَ وَيُكْرِمُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَمَا عَايَنُوا آبَاءَهُمْ يَوْمًا يُخْرِجُونَ صَدَقَةً أَوْ يُعِينُونَ ضَعِيفًا؟! إِنَّ الْأَوْلَادَ لَنْ يَمْتَثِلُوا -وَالْحَالُ هَذِهِ- لِنَصِيحَةِ الْوَالِدَيْنِ، بَلْ سَيَكُونُ لِسَانُ حَالِهِمْ لَوْ أَدْرَكُوا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصَّفِّ: 2-3]، أَوْ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ *** هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى *** كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ

وَنَرَاكَ تُصْلِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا *** أَبَدًا وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ

فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا *** فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُهْتَدَى *** بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: مَا أَشْبَهَ أَطْفَالَنَا بِقِطْعَةِ الِاسْفِنْجِ الَّتِي تَمْتَصُّ كُلَّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ حَسَنٍ وَمِنْ قَبِيحٍ، لِذَا فَالْخَطَرُ الْخَطَرُ أَنْ يَرَى الْأَوْلَادُ مِنْ آبَائِهِمْ أَوْ مِنْ أُمَّهَاتِهِمُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّائِنَةَ وَالْقَبِيحَةَ؛ فَإِنَّهُمْ -لَا مَحَالَةَ- يَتَأَثَّرُونَ بِهَا، فَمَنْ تَعَوَّدَ الْكَذِبَ -مَثَلًا- فَفِي الْغَالِبِ الْأَعَمِّ سَيَخْرُجُ أَوْلَادُهُ كَذَّابِينَ، وَهَذَا مَا خَافَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ حِينَ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ؟" قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، فَلَقَدْ خَشِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقْتَدِيَ بِهَا وَلَدُهَا فِي الْكَذِبِ.

 

فَالطِّفْلُ عَجِينَةٌ سَهْلَةُ التَّشْكِيلِ فِي يَدِ وَالِدَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَرْفَعُوهُ وَيَتَسَامَوْا بِهِ مِنْ خِلَالِ تَقْدِيمِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ لَهُ وَالِانْتِبَاهِ لِتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَرُدُّوهُ وَيَفْتِنُوهُ بِتَصَرُّفَاتِهِمُ الْخَاطِئَةِ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)؛ لِذَا تَجِدُ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- سَائِلًا الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا"، وَيَرْوِي أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى).

 

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "إِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- يَسْأَلُ الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ، فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِهِ حَقًّا فَلِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ حَقٌّ، فَكَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)[الْعَنْكَبُوتِ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[التَّحْرِيمِ: 6]".

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنْ عَيْنَ الصَّغِيرِ تُصَوِّرَ كُلَّ مَا يَدُورُ حَوْلَهَا، وَيَنْطَبِعُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَفِكْرِهِ، وَلِنَقَاءِ فِطْرَتِهِ، وَثِقَتِهِ فِيمَنْ حَوْلَهُ يُقَلِّدُ مَا يَفْعَلُهُ الْكِبَارُ؛ فَتَتَحَوَّلُ تَصَرُّفَاتُهُ الْعَفْوِيَّةُ إِلَى سُلُوكٍ مُكَوِّنٍ لِشَخْصِيَّتِهِ، وَعِنْدَمَا يَبْلُغُ رُشْدَهُ، يَقَعُ فِي حَيْرَةٍ كَبِيرَةٍ، فَقَدْ يُيَسِّرُ اللَّهُ لَهُ بَعْضَ وَسَائِلِ اكْتِسَابِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ لِنَزْعِ السُّلُوكِيَّاتِ السَّيِّئَةِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا فِي صِغَرِهِ، وَقَدْ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ سَبِيلُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَيَظَلُّ سَادِرًا فِي غَيِّهِ، يُضِيفُ إِلَى مَا اكْتَسَبَهُ فِي صِغَرِهِ مِنَ الْمُوبِقَاتِ آثَامًا مِنَ الْمُهْلِكَاتِ؛ لِذَلِكَ عَلَيْنَا -مَعْشَرَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ- أَنْ نَكُونَ حَذِرِينَ كُلَّ الْحَذَرِ فِيمَا يَصْدُرُ عَنَّا مِنْ تَصَرُّفَاتٍ، وَلْنَعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ مَا نَقُومُ بِهِ أَثَرًا خَفِيَ عَلَيْنَا أَوْ ظَهَرَ لَنَا.

 

وَاَللَّهَ نَسْأَلُ أَنْ يَهَبَنَا الْقَوْلَ الصَّادِقَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، فِي تَصَرُّفَاتِنَا الْعَفْوِيَّةِ وَالْقَصْدِيَّةِ، وَأَنْ يُمَهِّدَ لِأَبْنَائِنَا سُبُلَ الْخَيْرِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، إِنَّهُ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات
xXJjy8wtd5KUj0loauDMSwyB4iFREyKwuqRXyDX4.doc
AB4K1JuZL7Dcc8pxPHGiDQDpvp0sUnlwXrOSkUgc.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life