عناصر الخطبة
1/ عظم حرمة أذية الجار ومضاعفة وزره 2/ من صور أذية الجار 3/ الحذر من أذية الجار 4/ فضل تحمل أذية الجار والتغافل عنها

اقتباس

فالإثم يعظم جُرمه مع الجار أعظم من غيره؛ فسرقته والزنا بحليلة جاره وغِشه والكذب عليه، والسخرية به ونحو ذلك أعظم من غيره معها، وإذا لم تُوصِل الخير للغير فكُف الشر عن الغير فلا تؤذي جارك، ولا تُسيء إليه بأقوالك وأفعالك، واجعل لسان حالك:...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي أمر بالإحسان إلى الجار، ونهى عن التعدي عليه والإضرار، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المختار، أحسن من جاور الجار أمر بالإحسان إلى الجار ونهى عن أذيته ولو جار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار والتابعين الأخيار.

 

أما بعد: فاتقوا الله -جلَّ في علاه- مِلاك الأمر تقوى الله، فاجعل تُقاه عُدةً لصلاح أمرك وبادر نحو طاعته بعزمٍ، فما تدري متى يُمضى بعمرك.

 

أيها المسلمون:  إتمامًا وإكمالًا لموضوعنا السابق وإلحاقًا، فقد مضت حلقتنا السابقة بحقوق الجار، والآن حلقتنا اللاحقة في الحذر من تأذية الجار.

 

الشريعة -عباد الله- كما أمرتنا بالإحسان والتحلي بمكارم الأخلاق والامتنان والتعاون على الخير والعرفان نهتنا وحذرتنا من ضد ذلك وهو الإساءة والعدوان.

 

معشر المسلمين: بعض الناس لا يُحسن إلى جاره ولا يُعطيه حقه، بل يزيد الطين بِلة والمرض عِلة يؤذي جاره، وضرره متعدٍّ على إخوانه، وإذا كان الإيذاء من المحرمات وعظائم الموبقات (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب:58]؛ فما بالك بمن عظَّم الشارع أمره وأوجب حقه، وهو الجار.

 

لقد حرَّم الله إيذاء الجار في ماله، وعرضه، ودمه، وبيته، بل جعل ذلك من ضعف الإيمان ونزغات الشيطان كما روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: "وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهُ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ" قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" والبوائق هي الشرور والأذى والمصائب.

 

ولِعظم حق الجار ضاعف المختار الجُرم والأوزار؛ ففي الصحيحين عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" قلت: ثم أيٌّ؟ قال: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ" قلت: ثم أيُّ؟ قال: "أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ"؛ والحليلة هي: زوجة الجار، فأعظم الزنا بامرأة الجار أو بنت الجار؛ لأن الواجب أن يحفظه في عِرضه، وقد أمِنه جاره فخان الأمانة وانتهك عِرضه؛ ولأن سهولة ذلك أقرب لعلمه بحال جاره وأهله، ومدخله ومخرجه؛ فالزنا بزوجة الجار من الموبقات، وأعظم المهلكات والمؤذيات.

 

ولهذا عند أحمد "لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، وَلأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ" وإن كان الكل حرام إلا إنه في حق الجار من أعظم حرمة.

 

فالإثم يعظم جُرمه مع الجار أعظم من غيره؛ فسرقته والزنا بحليلة جاره وغِشه والكذب عليه، والسخرية به ونحو ذلك أعظم من غيره معها، وإذا لم تُوصِل الخير للغير فكُف الشر عن الغير فلا تؤذي جارك، ولا تُسيء إليه بأقوالك وأفعالك، واجعل لسان حالك:

 

أَقُولُ لِجَارِي إِذْ أَتَانِي مُعَاتِبًا *** مُدِلاًّ بِحَقٍّ أَوْ مُدِلاًّ بِبَاطِلِ

إِذَا لَمْ يَصِلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُجَاوِرِي *** إِلَيْكَ فَمَا شَرِّي إِلَيْكَ بِوَاصِلِ

 

إن بعض الناس يؤذي جيرانه ويُضمر السوء والعدوان لهم؛ فمثل هؤلاء جوارهم نكد، وديدنهم حقدٌ وحسد، ومعاملتهم بعيدةٌ عن الرشد؛ ولهذا جاء في الاستعاذة: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول".

 

إن من عِظم حق جارك عليك أن تكف أذاك عنه، قال عمر -رضي الله عنه-: "من حق الجار أن تبسط له معروفك، وأن تكف عنه أذاك".

 

وقال عليٌّ للعباس -رضي الله عنه-: "ما بقي من مكارم الأخلاق إلا الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران".

 

وللجار حقٌّ فاحترز من أذاته *** وما خير جارٍ لم يزل لك مؤذيًّا

 

وحقيقة الإيمان عدم إيذاء الجيران؛ كما روى الشيخان عن ولد عدنان: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ".

 

ومن صور أذى الجيران –أيها الإخوان-: ارتفاع الأصوات المزعجة، والكلمات الصاخبة لاسيما أوقات النوم والراحة، ويزداد الأذى ويعظم الجرم والأسى إذا كانت أصواتٌ مُحرَّمة، ومزامير وغنىً صاخبة، ومسلسلاتٌ ماجنة، وسهراتٌ آثمة.

 

ومن صور أذاه: التعدي على ملكه وحدوده، وعقاره وأرضه، إن مما تساهل به بعض الجيران التخاصم والتشاجر، والصخب والتنافر، والبغضاء والشحناء والتناحر، وهذا والله من أعظم الأذى والزواجر.

 

ومن صور –أيها الموفَّق للبِر والهدى-: من يُزعج جاره بسيارته إما بالوقوف أمام بابه لاسيما إذا كان مدخل سيارته، قد يضطر للخروج لحالةٍ إسعافية أو حاجةٍ ضرورية، فيرى سيارة جاره ببابه حاجزة، ولخروج سيارته مانعة، وإما بأصوات المنبهات، فتجده يُطلق المنبه بأعلى وتكراره، وكم من جيرانه من هو نائم أو مريضٌ أو متعبٌ يُريد أن يستريح.

 

ومن صور أذى الجار –أيها الإخوة الأخيار-: وضع المخلفات من القمائم والأوساخ وألوان الأذيات في طريقه، وأمام بابه وسيارته إيذائه بالروائح الكريهة، والمياه السائلة.

 

ومن الأذى: التجسس عليه، والتصنت لحديثه، والاستماع لمشاجرته أو مكالمته أو خلافه مع أهله وأولاده، فبعض الناس إذا سمع صوتًا مرتفعًا من جاره أو مكالمةً من هاتفه تقصَّد الإنصات، واستجمع الكلمات.

 

ومن الأذى وشدة الأسى: النظر إلى محارمه، وزوجه وبناته، وترقب طلوعه وخروجه بإطلاق النظرات إلى العورات.

 

ومن العدوان على الجيران: الاعتداء على مركوباتهم وممتلكاتهم بالتخريب والإفساد.

 

ومن ذلك ما يفعله بعض الأبناء والأطفال من لعبٍ ولهوٍ وإزعاجٍ للجيران، وما يسببونه من قلقٍ وأذى وعدوان، وبعض الآباء لا يكترث بفعل أبنائه بجيرانه وأذاه وعدوانه، بيد أنه لو أفسد أو خرَّب ما في بيته لأقام الدنيا وأقعدها، وهذا والله من تبلد الإحساس، وجمود المشاعر، وعدم أداء حق الجوار.

 

ومن صور الأذى -بوأكم الله الحسنى-: أذاه من جهة النوافذ المطلة عليه بإزعاجه بفتحها أو الاطلاع على بيته من خلالها.

 

ومن إيذائه: كشف عورته، وإظهار سِره، وخيانته في جواره، والكذب عليه.

 

ومن ضروب أذيته: تأجير من لا يرغب تأجيره لمبررٍ شرعي، ومنها: حسده والحقد عليه، وتمني زوال النِّعمة عنه، وتتبع عثراته.

 

ومن دروب الأذى: الاجتماع عند بابه أو مقابله، ومضايقته في جميع أحواله، ومنها شرب الدخان، والمخدرات، والشيشة والمفترات، وإيذاؤه بالروائح الكريهات التي تخرج من بيته.

 

ومنها: التجمع مع أصدقائه في منزله وجاره يتضرر بذلك، ويتضايق إما بالسهر أو الدخان أو رفع الأصوات أو سماع الغناء.

 

ومنها: سبُّه ولعنه، والقدح فيه وشتمه.

 

ومن صور الأذى –أيها الأوفياء-: وضع الحيوانات والطيور التي تؤذيه برائحتها وأصواتها، وما يخرج منها.

 

هذا ولقد كانت العرب يمتدحون ويُمدحون بكف الأذى عن الجار، كما قال هدبة بن الخشرم:

ولا نَخْذِلُ المولى ولا نرفع العصا *** عليه ولا نزجي إلى الجار عقربا

 

 

وقال لبيد بن ربيعة:

وإن هوانَ الجارِ للجار مؤلمٌ *** وفاقرةٌ تأوي إليها الفواقر

 

وحمايته من الشر والأذى خُلق الكرام الأوفياء.

 

وإني لأحمي الجارَ منْ كلّ ذلةٍ *** وأَفرَحُ بالضَّيفِ المُقيمِ وأَبهجُ

 

 

وقالت الخنساء:

وجاركَ محفوظٌ منيعٌ بنجوةٍ *** منَ الضّيمِ لا يُؤذَى ولا يَتَذَلّلُ

 

وقال الآخر:

وأَغُضُّ طرفي إن بدَتْ لي جارَتي *** حتى يُواري جارتي مثواها

 

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه.

 

أيها المسلمون: كم من جارٍ نغَّص عيش جاره، لا يهنأ جاره بباله، ولا ينعم بماله، ولا يأنس بأهله وأولاده، ولا يهدأ باله، وقد يضطره لبيع ملكه وماله وبيته، مما له سنينٌ في جمعه من أجله، جار السوء وإيذائه أبعده وأذاه، كما ذكر بعض من ابتُلي بمثل ذلك، فقال:

يلومونني إن بعت بالرخص منزلي *** ولم يعلموا جارًا هناك ينغصُ

فقلت لهم: كفوا الملام *** فإنما بجيرانها تغلو الديار وترخصُ

 

وإذا كان والحالة هذه فما له إلا الارتحال من أذى جاره:

دارِ جارَ السُّوءِ بالصَّبرِ وإنْ *** لـمْ تجدْ صبراً فما أحلى النُّقَلْ

 

عكس من يُشترى جواره، ويُطلب إخاءه، فجاء عن إبراهيم بن حذيفة باع داره، فلما أراد المشتري أن يُشهد عليه، قال: لست أشهد عليه، ولا أسلمها حتى يشتروا مني جوار سعد بن العاص، فقالوا: هل رأيت أحدًا يشتري جوارًا أو يبيعه؟ قال: ألا تشتروا جوار من إذا أسأت إليه أحسن، وإن جهلت عليه حَلَم، وإن أعسرت وهب، ولا حاجة لي في بيعكم ردوا علي داري.

 

أين من يؤذي جاره بسبه وشتائمه، ولعنه وصخبه، وهجره ومشاجرته، وكيده وعدوانه؟ ولبعضهم ممن بُلي بجار السوء:

 

أَلا مَنْ يَشْتَرِي جَارًا نَؤُومًا *** بِجَارٍ لا يَنَامُ وَلا يُنِيمُ

وَيَلْبِسُ بِالنَّهَارِ ثِيَابَ نُسْكٍ *** وَشَطْرُ اللَّيْلِ شَيْطَانٌ رَجِيمُ

 

أين من هذه صفته ممن وصفهم الشاعر بقوله:

سَقْيًا وَرَعْيًا لِجِيرَانٍ نَزَلْتُ بِهِمْ *** كَأَنَّ دَارَ اغْتِرَابِي عِنْدَهُمْ وَطَنِي

إِذَا تَأَمَّلْتُ مِنْ أَخْلاقِهِمْ خُلُقًا *** عَلِمْتُ أَنَّهُمُوا مِنْ حِلْيَةِ الزَّمَنِ

 

ولهذا يجب تحمل الأذى، والصبر على ما يبدر ويؤذى، فيتحمل الجار جاره، ويصبر على أذاه وعدوانه، ولا يفتح لنفسه مجالًا لزرع الأحقاد، والشحناء وإفراح الحساد.

 

وقديمًا قيل: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكنه الصبر على الأذى، وتأمل (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين) [الأعراف:199].

 

والتحمل عاقبته حميدة، ونتائجه كريمة ففي صحيح مسلم: إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ".

 

فينبغي التغاضي التغافل، والصبر والصفح، والعفو والتحامل.

 

لَيسَ الغَبيُّ بِسَيدٍ في قَومِهِ *** لَكِن سَيِّدُ قَومِهِ المُتَغابي

 

وكثيرٌ من الناس يستطيعون ويحرصون على كف أذاهم عن جيرانهم، لكنهم لا يحرصون، بل ولا يُحاولون، بل ولا يتحملون أذى جيرانهم، ولو كان صادرًا عن طريق الخطأ، فتجدهم متحفزين جاهزين لأدنى إثارة، وأقصر عبارة فيردون الصاع بالصاعين، والكلمة بعشرٍ وعشرين، ويجعلون من الصغير كبيرًا، ومن القليل كثيرًا، ومن اليسير والحقير أمرًا خطيرًا، يضعون من الحبة قُبة، ومن النقطة بحرًا، فتنشأ المشاكل الكبيرة والخلافات المثيرة، وربما كان منشئوها من أمورٍ تافهةٍ حقيرة.

 

والخلاصة والخاتمة على الجار أن يكف أذاه بقوله وفعله بنفسه وولده عن جاره، وعلى الجار أن يتحمل أذى جاره، ويعفو عنه ويُسامحه، ويصفح عنه ويُصافحه.

المرفقات
أذية-الجار.doc
أذية-الجار-1.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life