عناصر الخطبة
1/قصة سليمان في طوافه على نسائه 2/ما كان يرجو سليمان من جماعه 3/من فوائد هذه القصة 4/من أشهر استعمالات "لو" وحكم كل واحداقتباس
فطَافَ بِهِنَّ، فلم تَلِدْ له منهنَّ إلاَّ واحدةٌ جاءت بِنِصْفِ إنسان؛ تأدِيبًا من الله -تعالى-، وعِظَةً لأوليائِه وأصفيائِه، ولِيُرْجِعَهم إلى كمالِهم بالتَّعَلُّقِ به، وإدامةِ ذِكْرِه ومُراقبتِه، ولِيَعْلَمَ الناسُ أنَّ الأمْرَ لله وحده، فليس لِنَبِيٍّ ولا لِمَلَكٍ ولا لغيرِهِما مشاركةٌ معه في مُلْكِه وتَصَرُّفِه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً؛ كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ -أي: المَلَكُ أو قَرِينُه-: قُل: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، فَلَمْ يَقُلْ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ" -نِسْيَانًا-، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ؛ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ -أي: بِنِصْفِ رَجُلٍ-، وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ"؛ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ"(رواه البخاري ومسلم)، وفي روايةٍ: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوِ اسْتَثْنَى -أي: لو قال: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ"-؛ لَوُلِدَ لَهُ مِائَةُ غُلَامٍ، كُلُّهُمْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ"(صحيح، رواه أحمد).
قوله: "لَأَطُوفَنَّ": "اللَّامُ" في قوله: "لَأَطُوفَنَّ" جَوَابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، تقديرُه: واللهِ لَأَطُوفَنَّ، والنُّونُ للتأكيد، والطَّوَافُ هنا: كِنَايَةٌ عن الجِمَاعِ، وقوله: "وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ": أي: والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ.
عباد الله: أعطى اللهُ -تعالى- سليمانَ -عليه السلام- من المُلكِ ما لم يُعْطِه أحدًا، وكان مِنْ حِرصِه ورغبتِه في الخير أنْ أَقْسَمَ بالله -تعالى-: أنْ يُجامِعَ تسعين امرأةً، تلد كلُّ واحدةٍ مِنهنَّ غُلامًا يَشِبُّ ويَقْوَى؛ حتى يُجاهِدَ في سبيل الله، وأتى إلى شَهْوَتِه بهذه النِّيَّةِ الصالحة؛ لِتَكُونَ عِبادةً تُقَرِّبه من ربِّه -تعالى-، جاء واثقاً بربِّه، مُخْلِصاً في مَقْصِدِه، جَازِماً في تَحَقُّقِ مُرادِه، فأذْهَلَه ذلك، وأنْسَاه عن الاسْتِثْنَاءِ بِيَمِينِه بأنْ يقول: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، مع تذكيرِ المَلَكِ له ذلك.
فطَافَ بِهِنَّ، فلم تَلِدْ له منهنَّ إلاَّ واحدةٌ جاءت بِنِصْفِ إنسان؛ تأدِيبًا من الله -تعالى-، وعِظَةً لأوليائِه وأصفيائِه، ولِيُرْجِعَهم إلى كمالِهم بالتَّعَلُّقِ به، وإدامةِ ذِكْرِه ومُراقبتِه، ولِيَعْلَمَ الناسُ أنَّ الأمْرَ لله وحده، فليس لِنَبِيٍّ ولا لِمَلَكٍ ولا لغيرِهِما مشاركةٌ معه في مُلْكِه وتَصَرُّفِه، فهو القادر على كلِّ شيءٍ، والمُدبِّرُ لكلِّ شيءٍ.
فلو أنَّ سليمانَ -عليه السلام- اسْتَثْنَى في يِمِينِه بمشيئة اللهِ -تعالى-؛ لأَدْرَكَ حاجتَه، ونال مَطلوبَه، ولكنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- قَدَّرَ هذا؛ لِيَمْضِيَ قَدَرُهُ السَّابِقُ، ويَكُونَ تشريعاً لِخَلْقِه، وعِظَةً وعِبرةً للمؤمنين.
ومِنْ أهمِّ أحكامِ وفوائِدِ هذه القِصَّةِ:
أنَّ مَشِيئَةَ اللهِ فَوقَ مَشِيئَةِ البَشَرِ، فما شاء اللهُ كان، وما لم يشأ لم يكن.
ومنها: عُلُوُّ هِمَّةِ الأنبياءِ -عليهم السلام-، وأنهم كانوا يُفَكِّرون في نُصرةِ دِينِ الله.
ومنها: يُسْتَحَبُّ للمُسْلِمِ إذا قال: "سأفعلُ كذا"، أنْ يقولَ: "إنْ شاءَ اللهُ"؛ تَبَرُّكًا وتَيَمُّنًا وتَسْهِيلًا لذلك العمل، وتَصْدِيقًا لقوله -تعالى-: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)[الكهف: 23 - 24].
ومنها: كثيرٌ مِنَ المُبَاحَاتِ والمَلَذَّات يَصِيرُ مُسْتَحَبًّا بِحُسْنِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ؛ لقول سليمانَ -عليه السلام-: "كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
ومنها: في الاسْتِثْنَاءِ تَفْوِيضُ الأمرِ إلى ربِّ العالَمِين، فإذا قال المُسلِمُ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، زاد رجاؤُه في تحقيقِ مُرادِه، وإذا تركَ الاستثناءَ خَشِيَ عدمَ الوقوع، قال ابنُ حجرٍ -رحمه الله-: "وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِخْبَارِهِ -صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنِ اسْتَثْنَى فِي أُمْنِيَّتِهِ، بَلْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوُّ الْوُقُوعِ، وَفِي تَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ خَشْيَةُ عَدَمِ الْوُقُوعِ"، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قَوْلِ مُوسَى لِلْخَضِرِ: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا)[الكهف: 69]، مَعَ قَوْلِ الْخَضِرِ لَهُ آخِرًا: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)[الكهف: 82].
ومن الفوائد: اسْتِحْبابُ ذِكْرِ الله -تعالى- في كُلِّ حَالٍ، وعند كُلِّ شأنٍ.
ومنها: اخْتَصَّ اللهُ الأنبياءَ بِالقُوَّةِ العَظِيمةِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ؛ وفي ذلك دلالةٌ على صِحَّةِ البِنْيَةِ، وكَمَالِ الرُّجولةِ، مِنَ القُوَّةِ والإِطَاقَةِ على جِمَاعِ هذا العَدَدِ من النِّساءِ في ليلةٍ واحدةٍ، مع ما هم فيه من الاشتغالِ بِالعبادةِ والعلمِ النَّافِعِ، عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ"(رواه مسلم)، أي: في ليلةٍ واحدةٍ، وكُنَّ إحْدَى عَشْرَةَ امرأةً.
ومنها: الحَذَرُ مِنْ آفَةِ التَّمَنِّي، وتَرْكِ تفويضِ الأمْرِ للهِ -تعالى-.
ومنها: جَوَازُ السَّهْو والنِّسْيَانِ على الأَنْبِيَاءِ، وأنَّ ذلك لا يَقْدَحُ في مَنْزِلَتِهم.
ومنها: اسْتِحْبَابُ اسْتِعْمَالِ الكِنَايَةِ في اللَّفْظِ الذي يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُه؛ لقوله: "لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ"، بَدَلَ قولِه: "لَأُجَامِعَنَّ اللَّيْلَةَ"، فهذا مِنْ أدَبِ النُّبُوَّة، ومنه قولُ أَنَسٍ -رضي الله عنه-: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ".
ومنها: اسْتِحْبَابُ الِاسْتِثْنَاءِ لِمَنْ قَالَ: "سَأَفْعَلُ كَذَا"، قال ابنُ حجرٍ -رحمه الله-: "فِيهِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِثْنَاءِ لِمَنْ قَالَ: "سَأَفْعَلُ كَذَا"، وَأَنَّ إِتْبَاعَ الْمَشِيئَةِ الْيَمِينَ يَرْفَعُ حُكْمَهَا، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الِاتِّصَالِ".
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: ومِنْ أحْكَامِ وفوائِدِ هذه القِصَّةِ:
خُصُوصِيَّةُ سُلَيْمانَ -عليه السلام- فِي عَدَدِ نِسَائِه.
ومنها: جَوَازُ الإِخْبارِ عَنِ الشَّيءِ الذي قد يَحْصُلُ في المُسْتَقْبَلِ، والبِناءُ عليه إذا غلب على الظَّنِّ؛ فإنَّ سليمانَ -عليه السلام- تَمَنَّى وجَزَمَ بِمَا قال، ولم يكن ذلك عن وَحْيٍ وإلاَّ لَوَقَعَ، قال القرطبيُّ -رحمه الله-: "ولا يُظَنُّ بِسُليمانَ -عليه السلام- أنه قَطَعَ بذلك على ربِّه، لا يَظُنُّ ذلك إلاَّ مَنْ جَهِلَ حالَ الأنبياء، وأدبَهم مع ربِّهم".
ومنها: جَوازُ الحَلِفِ بِقَولِ: "وَايْمُ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"، واختلفَ العُلماءُ في ذلك: فقال مالكٌ وأبو حنيفة: هو يمين، وقال الشافعيةُ: إنْ نَوَى به اليَمِينَ فهو يمينٌ، وإلاَّ فلا.
ومن فوائد القصة: اللهُ -تعالى- هو المُتَفَرِّدُ بِالتَّدْبِيرِ، وليس له مُشَارِكٌ في حُكْمِه وأَمْرِه.
ومنها: عاداتُ الأنبياءِ والأولياءِ تكون عِباداتٍ بِصَلاحِ نِيَّاتِهِمْ، فهُمْ يُجامِعون لِيُحَصِّنوا فُروجَهم وأَعْيُنَهم عن الحرام، ولِيُحَصِّنوا زَوجاتِهم، ولِيُرْزَقوا أولاداً صالحين، فتكون العادةُ عِبادةً بالنِّيةِ الصالحة، والمقاصدِ السَّامية، وأمَّا الغافِلون فعباداتُهم كعاداتِهم إلاَّ مَنْ رَحِمَ ربُّك.
ومنها: لَمْ يَشْفَعْ لِسُليمانَ -عليه السلام- قُرْبُه مِنَ اللهِ -تعالى- في تَحَقُّقِ مَطْلُوبه؛ لأنَّه أقْدَمَ على أَمْرٍ لم يُقَيِّدْه بمشيئَةِ الله، فكيف بمَنْ هو دون الأنبياءِ رُتْبَةً ومَنْزِلةً؟!.
ومنها: جَوَازُ اسْتِعْمالِ "لَوْ" و "لَوْلَا" في الإِخْبَارِ، وتَمَنِّي الخَيَرِ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوِ اسْتَثْنَى؛ لَوُلِدَ لَهُ مِائَةُ غُلَامٍ"، وفي روايةٍ: "لَوْ قَالَ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ"؛ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ".
ومِنْ أَشْهَرِ اسْتِعْمَالاتِ "لَوْ":
أولاً: أَنْ يُقْصَدَ بها "الإِخْبَارُ"، فهذه لا بأسَ بها، مِثْلُ أنْ يقولَ لِشَخْصٍ: "لو زُرتني لأكرمْتُكَ".
ثانيًا: أنْ يُقْصَدَ بها "التَّمَنِّي"، فهذه على حَسَبِ ما تَمَنَّاه، إنْ تَمَنَّى بها خَيرًا فهو مأجورٌ بِنِيَّتِه؛ لحديث: "يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً؛ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ"، وإنْ تَمَنَّى بها شَرًّا فله ما تَمَنَّى؛ للحديث السَّابق: "يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً؛ لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ"(صحيح، رواه الترمذي).
ثالثًا: أَنْ يُرادَ بِهَا "التَّحَسُّرُ على مَا مَضَى"، فهذه مَنْهِيٌّ عنها؛ لأنها لا تُفِيدُ شيئًا، وإنَّما تَفْتَحُ أبوابَ الأحْزَانِ والنَّدَمِ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: "لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا"، وَلَكِنْ قُلْ: "قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ"؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"(رواه مسلم).
التعليقات