عناصر الخطبة
1/ الغيرة خُلق حميد 2/معاني الغيرة وأقسامها ودرجاتها 3/ لا أحد أغير من الله 4/ أفضل الغيرة وأعلاها 5/الغيرة المحبوبة

اقتباس

ومن أفضل الغيرة: الغيرة على الدين ونعني بالغيرة على الدين الحمية له والغضب لأجله، والاجتهاد في صيانته ونشره ودفع اعتداء المعتدين عنه، ورد شبة الشانئين والحاقدين, وتكون حين أن تنتهك محارم الله دليل على محبة الله ودليل على الإيمان الصادق في قلب العبد، ومن لا يغار على محارم الله ضعيف إيمان أخبر بذلك الصادق المصدوق...

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء لمن ناداه، سبحانه من استجار به أجاره، ومن استغاث به أغاثه، ومن توكل عليه كفاه، ومن اهتدى به هداه إلى صراط مستقيم.

 

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

 

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -سبحانه وتعالى-؛ فإنها الأمن عند الخوف، والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسهل، وهي وصية الله للأولين والآخرين: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:100]، فاتقوا الله ربكم، وأطيعوه في سركم وجهركم، وراقبوه في جميع أحوالكم!.

 

أيها الإخوة: الغيرة خلق حميد، وخلة جميلة، وصفة جليلة وهي سمة عباد الله الصالحين وجنده المفلحين. الغيرة سياج منيع لحماية المجتمع من التردي في مهاوي الرذيلة والفاحشة والتبرج والسفور والاختلاط المحرم. الغيرة قوة روحية تحمي المحارم والشرف والعفاف من كل مجرم وغادر. الغيرة مظهر من مظاهر الرجولة الحقة، وهي مؤشر على قوة الإيمان ورسوخه في القلب.

 

نعم؛ إن أشرف الناس وأعلاهم قدرا وهمة أشدهم غيرة على نفسه وأهله، ومن حُرِم الغيرة حُرِم طهر الحياة، ومن حُرِم طهر الحياة فهو أحط من بهيمة الأنعام، ورحم الله ابن القيم يوم قال: " إذا رحلت الغيرة من القلب ترحلت المحبة بل ترحل الدين كله".

 

والغيرة: هي عجز الغيور عن احتمال ما يشغله عن محبوبه، ويحجبه عنه ضنا به أن يعتاض عنه بغيره، وأن يضيق ذرعه بالصبر عن محبوبه، وهذا هو الصبر الذي لا يذم من أنواع الصبر سواه، والحامل له على هذا الضيق مغالاته بمحبوبه.

 

وهي منزلة شريفة جداً، وهي نوعان: غيرة من الشيء؛ وهي كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك. وغيرة على الشيء. وهي شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك.

 

والغيرة باعتبار من يغار قسمان: غيرة الرب على عبده وهي أن لا يجعله للخلق عبداً، بل يتخذه لنفسه عبداً؛ فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين، بل يفرده لنفسه، ويضنّ به على غيره، وهذا أعلى الغيرتين.

 

وغيرة العبد لربه لا عليه، وهي نوعان: فالتي من نفسه: أن لا يجعل شيئاً من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه -عزَّ وجلّ-. والتي من غيره: أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون، وغيرة العبد من نفسه أهم من غيرته من غيره، ولا أحد أغير من الله أبداً.

 

ولذلك لم يجعل الكفار أهلاً لفهم كلامه، ولا أهلاً لمعرفته، وتوحيده ومحبته، فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجاباً مستوراً عن العيون، غيرة عليه أن يناله من ليس أهلاً له كما قال سبحانه: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ) [الإسراء: 45].

 

أيها الإخوة: وللغيرة درجات ثلاث: غيرة العبد على ما ضاع عليه من عمل صالح؛ فهو يسترد ضياعه بأمثاله، ويجبر ما فاته من الأوراد والنوافل وسائر القرب بفعل أمثالها من جنسها وغير جنسها، فيقضي ما ينفع فيه القضاء، ويعوض ما يلزم فيه العوض، ويجبر ما يمكن جبره، ويستدرك ما فاته من أداء الحقوق والواجبات، ويتدارك قواه ببذلها في الطاعة قبل أن تتبدل بالضعف، فهو يغار عليها أن تذهب في غير طاعة الله، ويتدارك قوى العمل الذي لحقه الفتور عنه غيرة له وعليه.

 

وثانيها: غيرة العبد على فوات الأوقات؛ فالوقت أعز شيء عليه، يغار عليه أن ينقضي بدون عمل صالح، فإذا فاته الوقت لا يمكن استدراكه ألبتة؛ فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت حسراته.

 

والوقت أفضل ما عُنيت بحفظه *** وأراه أهون ما عليك يضيع

 

الثالثة: غيرة العبد على بصيرة غطاها ستر أو حجاب عن ربه، أو يتعلق برجاء من ثواب منفصل، ولم يتعلق بإرادة الله ومحبته، أو يلتفت إلى عطاء من دون الله فيرضى به، ولا ينبغي أن يتعلق إلا بالله، ولا يلتفت إلا إلى المعطي الغني الحميد، وهو الله وحده.

 

عباد الله: والغيرة غريزة تشترك فيها الرجال والنساء، بل قد تكون من النساء أشد، وغيرة الله -عزَّ وجلّ- تكون من إتيان محارمه؛ فالمسلم الذي يطيع هواه وينقاد للشيطان ويقع في محارم الله فكأنه جعل لغيرة الله فيه شريكاً.

 

إن أفضل الغيرة وأعلاها غيرة الرب -جل وعلا- وهي صفة ثابتة له، وهي من أعلى صفات الكمال وقد وردت النصوص الشرعية بإثبات الغيرة للرب -جل وعلا-، وغيرة الله -عز وجل- حقيقية على ما يليق بجلاله وكماله؛ ومن لوازمها كراهية وقوع العبد في المعاصي وإشراكه غير الله فيما هو حق للمولى -سبحانه- وحده من التزام أوامره واجتناب معاصيه، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33].

 

وعن عبد الله -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ الله، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا شَيْءَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ الله، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ" [البخاري (4634) واللفظ له، ومسلم (2760)]، فسبحان الملك الذي لا أغير منه، على محارمه -سبحانه-.

 

وعن عَائِشَةَ أم المؤمنين، قَالَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ: مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا" [البخاري (5221)] فهل راعينا نظر الله إلينا عند مقاطع الحقوق، وعند تعدي الحدود فالله يغار على محارمه، فانتبهوا -عباد الله-.

 

وعن أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قالت: سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " لَيْسَ شَيْءٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ -عزَّ وجلّ-" [ومسلم (2762)].

 

عباد الله: ولما كانت الطاعة خاصة بالله -عزَّ وجلّ-، ويأبى أن يشاركه فيها غيره، كان ذلك مبعثاً لأن يستثير العاصي غضب مولاه، وغيرته عليه، وما ذلك إلا لأن ربه -سبحانه- لا يرضى لعبده المعصية كما لا يرضى لهم الكفر، ولهذا ورد عن أبي سلمة، أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله" [البخاري(5223) ومسلم(2761)]، وهذا الحديث يعلمنا مراقبة الله -عز وجل- في أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا؛ فنرعى أوامر الله ونبتعد عن نواهيه فليست غيرة الله كغيرة أي أحد من خلقه بانفعالات نفسية أو تشنجات عصبية وإنما غيرته على من يخالف أوامره وينتهك محارمه وسخطه عليه غيرة تليق به -سبحانه-.

 

أيها الإخوة: وأشد الناس غيرة بعد الله -عز وجل- رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال سعد بن عبادة -رضي الله عنه-: "لَوْ رَأيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ"، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، والله لأنَا أغْيَرُ مِنْهُ، والله أغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أجْلِ غَيْرَةِ الله حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا أحَدَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ الله، وَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَلا أحَدَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ الله، وَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الْجَنَّةَ" [البخاري (7416) واللفظ له، ومسلم (1499)].

 

وها هي امرأة من عليّة القوم ليست من أشراف مكة فحسب؛ بل من أشراف قريش، تسرق على عهد النبي، ويخشى عليها قومها وعشيرتها أن يصل أمرها إلى رسول الله فيقيم عليها الحد، ويقطع يدها؛ تحقيقاً لمبدأ العدالة والمساواة، ويهتمون لشأنها ويعتريهم الكرب والغم، فهي من الأشراف والوجهاء، يقولون لا نجاة ولا خلاص لهذه المرأة إلا أن نجد شفيعاً لها عند رسول الله؛ من يقدر على هذا؟ فيقولون لا يستطيع على هذا الأمر إلا حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد.

 

وبالفعل يأتي أسامة إلى رسول الله، فيكلمه في شأن هذه المرأة، فإذا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يتلون وجهه، وتحمر عيناه، وتثور في نفسه دوافع الغيرة على حدود الله، فيقول لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله؟!" مستنكراً مستعظماً، ثم يقف خطيباً في الناس يبين لهم: إن هلاك الأمم السابقة إنما كان بسبب قاعدة الكيل بمكيالين، فيقول قولته المشهورة كما من حديث عائشة -رضي الله عنها- "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" [البخاري(3475) ومسلم(1688)].

 

عباد الله: ومن أفضل الغيرة: الغيرة على الدين ونعني بالغيرة على الدين الحمية له والغضب لأجله، والاجتهاد في صيانته ونشره ودفع اعتداء المعتدين عنه، ورد شبة الشانئين والحاقدين، وتكون حين أن تنتهك محارم الله دليل على محبة الله ودليل على الإيمان الصادق في قلب العبد، ومن لا يغار على محارم الله ضعيف إيمان أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات ربي وسلامه عليه- فيما أخرجه الإمام مسلم بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" [مسلم(49)].

 

والمؤمن يغار على دينه وعرضه وكرامته وماله، فإذا تعرض لسوء فيهم هب للذود عنهم بكل غال ورخيص. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغار إذا انتهكت محارم الله، فكانت تظهر غيرته على وجهه الشريف من حزن وغضب، وكان يوجه إنذارات شديدة اللهجة لمن يتعدى حدود الله؛ كقوله لبعض المسلمين الذين تراشقوا بالكلمات حتى كادت الحرب أن تنشب بينهم. "الله الله, يا أصحاب رسول الله: أترجعون كفارا بعد أن هداكم الله للإسلام بضرب أعناق بعض" فكان الرسول يحسم المواقف الصعبة التي تنتهك فيها حرمات الله بعبارات قوية.

 

عباد الله: إن الغيرة على محارم الله هي أفضل أنواع الغيرة وأحسنها, حيث يغضب المرء ويثور إذا انتهكت المحارم، واقترفت الآثام، وتعديت الحدود؛ وهذا شيء عزيز جدًا. أن يتسامح العبد في حق نفسه، ويغضب لحق الله, ونوقن أن هذا أمر عزيز ونادر، إذا تأملنا أحوالنا، حيث نجد الواقع عكس ذلك، فإذا كان الأمر يمس أشخاصنا وحظوظنا الدنيوية ثار أحدنا وغضب وشتم وتبذل وأخذته الحمية وأخذته العزة بالإثم، وإذا كان الأمر يمس الدين تذرع بالحكمة واللباقة والرفق واختلاف العلماء ولم تفارق البسمة وجهه، وهو يسمع ويرى الطعن في الدين أو الانحراف عنه أو تعطيل شرائعه. فلا حول ولا قوة إلا بالله ونعوذ بالله من البرود وفقدان النخوة.

 

أيها الإخوة: ومن الغيرة المحمودة التي يحبها الله ورسوله والمؤمنون الغيرة على الحريم والأعراض، فهي السياج المعنوي لحماية الحجاب، ودفع التبرج والسفور والاختلاط، وتعني هنا: ما ركّبه الله في العبد من قوة روحية تحمي المحارم والشرف والعفاف من كل مجرم وغادر، والغيرة في الإسلام خلق محمود، وجهاد مشروع، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6]، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنه-: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته وهو مسئول" [البخاري(2409) ومسلم(1829)].

 

أيها الإخوة: كان الصحابة -رضي الله عنهم- أشد الناس غيرة على محارمهم وأكثرهم حفظاً لأعراضهم, يمثل ذلك أصدق تمثيل ما قاله سعد بن عبادة عندما نزل قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4] قال سعد: "أهكذا نزلت يا رسول الله؟" فقال رسول الله: "يا معشر الأنصار: أتسمعون ما يقول سيدكم؟" قالوا: "يا رسول الله لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، ولا طلق امرأة قط فاجترأ أحد منا أن يتزوجها من شدة غيرته". قال سعد: "يا رسول الله إني لأعلم أنها حق، وإنها من الله، ولكني قد تعجبت أن لو وجدت لكاعاً، قد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه، ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته"، وفي رواية: "فقال يا رسول الله: إن وجدتُ على بطن امرأتي رجلاً أضربه بسيفي"، أو كما قال.

 

وكان عمر والزبير -رضي الله عنهما- غاية في الغيرة على الأعراض والحريم، وقد كانا يغاران من خروج نسائهما إلى المسجد، دعك من الخروج إلى الأسواق والشوارع والمنتزهات.

 

إن الغيرة خلق كريم جبل عليه الإنسان السوي الذي كرمه ربه وفضله، وقد أعلى الإسلام قدرها وأشاد بذكرها، ورفع شأنها حتى عد الدفاع عن العرض جهادًا يبذل من أجله الدم، ويضحى في سبيله بالنفس، ويجازى فاعله بدرجة الشهيد في الجنة؛ فعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" [الترمذي(1421) وصححه الألباني].

 

ومن هنا كانت غيرة الرجل على زوجه ومحارمه محمودة، وعلامة على كمال رجولته وشهامته، وتركها دياثة مذمومة شرعاً وطبعاً، وهذا ما جعل الدفاع عن العرض مشروعاً.

 

فالديوث: هو الذي لا يغار على أهله ومحارمه ويرضى بالمعصية والفاحشة والخنا عليهم، ولاشك أن هذا يتنافى مع الدين والخلق، فلا دين لمن لا غيرة له، ومن يتهاون في هذا الباب فإنه ساقط في الدنيا ساقط في الآخرة بعيد عن الله وعن الجنة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا ينظر الله -عز وجل- إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث" [النسائي(2562) وصححه الألباني]، ولا يُصاب بهذا الداء العضال إلا عديم المروءة ضعيف الغيرة رقيق الدين، فتراه لا يبالي بدخول الأجانب على محارمه ولا يبالي باختلاطهنَّ بالرجال أو تكشفهنَّ.

 

ومن أفضل الغيرة والتنافس في أعمال الخير والبر ما ذكره تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26]، وعن سالم عن أبيه -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" [البخاري (7529) ومسلم(815)].

 

ومن ذلك تنافس الفقراء عندما جاءوا إلى رسول الله وقالوا: "ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا، والنعيم المقيم," [مسلم(1006)]، ومن ذلك أيضاً تنافس الصحابة على الجهاد والإنفاق ومحاولة مسابقة عمر لأبي بكر.

 

أيها الإخوة: والناس في الغيرة على درجات، يوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني -رحمه الله- فقال: "انقسم بنو آدم أربعة أقسام: قوم: لا يغارون على حرمات الله بحال ولا على حرمها مثل الديوث والقواد وغير ذلك, ومثل أهل الإباحة الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق, ومنهم من يجعل ذلك سوكا وطريقا قال الله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) [الأعراف: 28].

وقوم: يغارون على ما حرمه الله وعلى ما أمر به مما هو من نوع الحب والكره يجعلون ذلك غيرة، فيكره أحدهم من غيره أمورا يحبها الله ورسوله. ومنهم من جعل ذلك طريقا ودينا ويجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما أحبه الله ورسوله غيرة.

 

وقوم: يغارون على ما أمر الله به دون ما حرمه، فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها بل يبغضون الصلوات والعبادات؛ كما قال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59].

 

وقوم: يغارون مما يكرهه الله ويحبون ما يحبه الله وهؤلاء هم أهل الايمان. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: "مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ؛ فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ" [أبو داود (2661 ) والنسائي (2558) وحسّنه الألباني]".

 

أيها الإخوة: إن الغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى؛ وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله بأن تؤتى الفواحش الباطنة والظاهرة وهي التي يحبها الله ورسوله؛ كالغيرة على محارم الله، وغيرة المسلم على أهله ومحارمه فيغضب إذا انتُهِكت المحارم واقتُرِفت الآثام وتُعدِّيت الحدود.

 

نسأل الله أن يرزقنا الغيرة المحمودة ودوام المراقبة لله الواحد، وأن يجعلنا من المتقين، وأن يدخلنا جميعًا في رحمته، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله، الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، أحمده -سبحانه- وأشكره، نعمه علينا تترى، أسبل علينا من رحمته سترًا، وأفرغ علينا بفضله صبرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، خُصَّ بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

أيها الإخوة: الغيرة من الغرائز البشرية التي أودعها الله في الإنسان تبرز كلما أحس شركة الغير في حقه بلا اختيار منه، والغيرة صفة محمودة ولا خير في من لا يغار، بل إن قلبه منكوس.

 

إن الغيرة على دين الله أصلها محمود؛ وهي عبادة قلبية لله -عز وجل-، وما دامت من العبادات فلا بد أن تنضبط بالضوابط الشرعية حتى لا تخرج بصاحبها عن حد الاعتدال إلى الغلو المنهي عنه فيهلك؛ كما ورد عن الأحنف بن قيس عن عبد الله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا [مسلم(2670)]، قال النووي -رحمه الله-: "أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم".

 

وجاء في الصحيحين مرفوعا عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت: لمن هذا القصر؟" قالوا: لفتى من قريش. فظننت أنه لي. فقلت: "من هو؟" فقالوا: عمر بن الخطاب. "فيا أبا حفص: فلولا ما أعلم من غيرتك لدخلته". فقال عمر:" من كنت أغار عليه يا رسول الله فإني لم أكن أغار عليك" [البخاري(7024)].

 

قال العلامة زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "فِيهِ مُعَامَلَةُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ أَخْلَاقِهِمْ، وَمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا عَرَفَ غَيْرَةَ عُمَرَ لَمْ يَدْخُلْ مَنْزِلَهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْمَنُهُ عَلَى الدِّينِ، وَالدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا كُنْت لِأَغَارَ عَلَيْك، وَإِنْ حَصَلَتْ الْغَيْرَةُ فَعَلَى غَيْرِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَوَ يُغَارُ عَلَيْك؟ أَنْكَرَ عُمَرُ وُجُودَ الْغَيْرَةِ مِنْ أَحَدٍ مُطْلَقًا عَلَيْهِ -صلى الله عليه وسلم- لِعِظَمِ حَقِّهِ وَأَمَانَتِهِ عَلَى حُقُوقِ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ".

 

قال بعض السلف: "وددت لو أن جسمي يقرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله -عز وجل" يتمنى أن يقرض جسمه ولا يرى معصية.

 

فقولوا لمن يرى اليوم المنكرات في بيته وفي حيه وفي عمله ولا يحرك ساكناً ولا يغار لحرمات الله: أين أنت من هدهد سليمان؟

 

أرأيتم معاشر المؤمنين هذا البحر الذي يستمتع الناس بمنظره ويرتكبون العظائم على شواطئه؟، فإنه يفور غيرة لانتهاك محارم الله، أخبر عن ذلك من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؛ فقد أخرج الإمام أحمد عن عُمَر بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الْأَرْضِ يَسْتَأْذِنُ اللَّهَ فِي أَنْ يَنْفَضِخَ عَلَيْهِمْ فَيَكُفُّهُ اللَّهُ -عز وجل-" [أحمد (303) وضعفه الألباني] وفي رواية أخرى: "ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق ابن آدم والملائكة تعاجله وتهلكه، والرب -سبحانه وتعالى- يقول: دعوا عبدي" [أورده ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" (2/ 214-215)].

 

كل ذلك غيرة على محارم الله، فالله أكبر أمن الجمادات التي تغار على محارم الله أكثر من العبد المؤمن الموحد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25].

 

أيها الإخوة: ومما يروى في الغيرة أن امرأة اختصمت مع زوجها إلى قاضي الري عام (286 هـ) فادعت على زوجها بصداق قيمته (500) دينار، قالت: ما سلمه لي فأنكر الرجل ذلك فجاءت ببينة تشهد لها بالصداق، فقال الشهود نريد أن تكشف لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟ (والنظر هنا مباح للضرورة) ولكن الزوج عندما رأى إصرارهم على رؤية وجه زوجته رفض ذلك وقال: هي صادقة فيما تدعيه. فأقر بما ادعت صيانة لوجه زوجته من أن ينظر إليه حتى شهود المحكمة. فلما عرفت المرأة أنه أقر بما ادعته عليه صيانة لوجهها قالت: هو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة.

 

أصون عرضي بمالي لا أدنسه *** لا بارك الله بعد العرض بالمالِ

 

فماذا دهى بعض المسلمين ؟! يسمحون لنسائهم بكشف وجوههن أو ترقيق الخمار لأسباب تافهة وبحجج واهية؟! وماذا دهى بعض شبابنا حيث يرضون لنسائهم بلبس البرقع الذي يجمل المرأة ويظهر زينتها أو النقاب الذي يظهر جمال عينيها؟! وقد لا يرضى ولكنه لا يمنعها من ذلك! فهل زالت الغيرة من قلوبهم على أعراضهم أم ضعفت شخصياتهم أمام نسائهم؟ أم عجزوا فرضوا مكرهين؟.

 

بل ومن العجيب أن بعضهم يدافع عن لبس زوجته للنقاب ليثبت أنه راض بذلك! ولذا فلا مانع عنده من أن تنهش الذئاب البشرية بعيونها عيون زوجته التي جملتها بالكحل وجملت ما حولها بالأصباغ؟ ثم يفتي بجواز ذلك ليدفع العجز عن نفسه ويبعد عنها تهمة ضعف الغيرة، مع أنه لو صدق مع نفسه لاعترف بأن المرأة فتنة ولاسيما مفاتن وجهها.

 

وكان أحد شعراء العرب في الجاهلية مشهور عنه بالغيرة الشديدة، وكان أصحابه يحذرونه منها، فلما تزوج كان يسير هو وزوجته في الطريق، فرأى رجلاً ينظر إلى زوجته فطلقها، ثم تعرض للوم من أصحابه فقال لهم:

 

سأترك حبها من غير بغض *** ولكن لكثرة الشركاء فيه

إذا وقع الذباب على طعام *** رفعت يدي ونفسي تشتهيه

وتجتنب الأسود ورود ماء *** إذا كان الكلاب ولغن فيه

 

فيجب أن تكون لديك غيرة على محارم الله، وغيرة على حدود الله، يتقطع قلبك ألما أن ترى المنكر، ولكن لا تستطيع أن تقول: إنه منكر، ولذلك تغضب ويتمعر وجهك، وتدعو الله أن يزيل هذا المنكر، وتبحث عن وسيلة لكي تعمل على تغييره وإزالته.

 

ومن هذا ينبغي علينا أن نتعلم الغيرة على ديننا وعرضنا ووطننا حتى نرد كيد المعتدين ونمنع فساد المفسدين، ونقف صفا واحدا في وجه من يريد بنا وبالإسلام وبالأوطان سوءا وشرا حتى يعود بنا مجد الإسلام الخالد وصورته المشرقة.

 

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.

 

اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين!

 

 

 

المرفقات
أتعجبون من غيرة سعد؟.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life