عناصر الخطبة
1/بشاعة الغيبة 2/أسباب وقوع الناس في الديون 3/وصايا للمقدمين على الديوناقتباس
ولما تساهل الناس بالغيبة ضاعت الأوقات وأنفقت الأموال واشتغلوا بقيل وقال وكثرة السؤال وتمكن سوء الظن في القلوب حتى تباغضت وتحاسدت وتناجشت إلا من عافاهم الله وقليل ما هم..
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأناديكم بنداء الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]؛ أما بعد:
أيها المسلمون: ما أبشعها من لحظات يوم أن نقرأ في تاريخ قد مضى, أن رجالاً كانوا يأكلون لحوم البشر, سطر لنا صاحب كتاب البداية والنهاية: "أن الناس في سنة اثنتين وستين وأربعمائة قد أكلوا الجيف والميتات بل أكلوا لحوم الصبيان والبنات، بل نزل الوزير في ذلك العهد عن بغلته يوماً فغفل غلامه عنها فسرقها ثلاثة نفر فذبحوها ومن الجوع أكلوها فقبض عليهم فأخذوا فصلبوا فلما أصبحوا إذا بعظامهم بادية، لماذا؟ لأن الناس قد انتزعوا لحومهم فأكلوها من شدة الجوع -والعياذ بالله-.
لا شك أن النفوس قد تقززت من هذه الحادثة واشمأزت، واستبشعتها القلوب قبل الأذان وحُقَّ للنفوس اشمئزازها وحُقَّ للقلوب استبشاعها، ولكن العجب كل العجب أن هذه النفوسَ نفسُها وهذه القلوبَ ذاتها تجالس صنفاً من الناس وتخالطهم على أكل اللحوم وأيَّ لحوم, إنها لحوم البشر، إنهم يأكلون لحوم المسلمين الأحياء منهم والميتين، تجدهم في مجالسهم الآثمة يأكلون لحوم الإخوان والأرحام والأصحاب، ويسمون هذه الأكلات بغير اسمها, ومع ذلك كله, لا شجب ولا استنكار بل سماها بعضهم مقبلات وآخرون عبروا عنها بأنها من "الحش"، والحش يجمل الأشجار ويزين الأزهار.. ألا بئس ما يقولون وما أقبح ما يفعلون، إنها الغيبةُ وإن سموها بأحسن المسميات، إنها كبيرة من الكبائر وإن وصفوها بأجمل الأوصاف, كبير إثمها وعظيم عقابها يستقبحها الفضلاء، ويرتع فيها السفهاء.
استمع -يا أيها المسلم- إلى رسولنا -عليه الصلاة والسلام- وهو يزجر من استحسن أو ألف أكل لحوم البشر. ها هو -صلى الله عليه وسلم- يقول لرجلين اغتابا رجلاً ثالثاً ورابعا, قال لهما: "ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما"؟ فقالا: يا نبي الله، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ولكنكما ظللتما تأكلان فلاناً وفلانا" ويحدثنا ابن مسعود -رضي الله عنه- عن مجلس آخر فيقول: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام رجل وذهب فوقع فيه رجل من بعده فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "تخلل" -أي نظف أسنانك من بقايا اللحم- فقال الرجل: ما أكلت لحما, مما أتخلل؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "بل أكلت لحم أخيك".
أيها الأخوة في الله: أية في كتاب الله, كم من المرات رددناها, وكم من المرات سمعناها, ولكننا لا نستشعر معانيها إلا من رحم, الله تعالى يقول في محكم كتابه (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ... أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات:12].
كلمات هذه الآية ترددت في الأذان كثيراً ولكن القلوب غفلت عن معانيها، فحريٌ بنا أن نجدد العهد بها ونتعلم تفسيرها ليقف اللسان عند حده وليخاف الواحد منا على سمعه، قال العلماء فيها: "لا يبعد أن يعذب الإنسان الذي يسب أخاه في غيبته أن تُقرب إليه جيفته يوم القيامة فيقال له كله ميتاً كما أكلته حياً "، فهل يرضى أحدنا بذلك -حاشا وكلا- ولذلك قالها علي ابن الحسين -رحمه الله-: "إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس" وقالها سهل التسري -رحمه الله-: "من أخلاق الصديقين أن لا يحلفوا بالله وأن لا يغتابوا ولا يغتاب عندهم " وحين تساهل كثير من الناس بهذه الكبيرة شاع التفريق بين المرء وزوجه والأب وابنه والصاحب وصاحبه, تفرقوا فما اجتمعوا وتنازعوا ففشلوا.
ولما تساهل الناس بالغيبة ضاعت الأوقات وأنفقت الأموال واشتغلوا بقيل وقال وكثرة السؤال وتمكن سوء الظن في القلوب حتى تباغضت وتحاسدت وتناجشت إلا من عافاهم الله وقليل ما هم. هذه بعض خسائر الدنيا التي أثمرتها تلك الكلمات الآثمة أما في الآخرة فعذاب وأيُّ عذاب وعقاب وأيُّ عقاب يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم.. فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم".
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
أيها المسلمون: ينبغي أن نربي أنفسنا ونجاهدها على ألا نتكلم في أحد من الناس إلا بخير، فإن الغيبة تأكل الحسنات وتُثقلُ الميزان بالسيئات.. حقيقٌ بأهل النفوس الخيرة أن يُمسكوا ألسنتهم من هذا الداء، وذلك يحتاج إلى مجاهدة وإلا فإنه سينتشر حتى يصبح مرضاً عُضالاً لا نستطيع الفكاك منه ومن آثامه؛ فيا أخي جاهد نفسك أنك إذا غضبت من أحد أو رأيت نعمة على أحد أن لا يدعوك هذا الغضب أو ذاك الحسد إلى أن تتكلم فيه وفي عرضه. كن من الكاظمين للغيض والعافين عن الناس تكن إن شاء الله من المحسنين، والله يحب المحسنين، قال -عليه الصلاة والسلام-: "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء " فمن يزهد بهذا الفضل العظيم؟
جاهد نفسك على مصاحبةِ الذين لا يستطيلون في أعراض الناس, وكن حازماً في إنقاذ نفسك من عقاب الله وعذابه، لقد كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول لأصحابه: "من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال ذكر منها، ولا يغتاب عندي أحدا ",وقال: "فإن كان كذلك فحيهلا وإلا فقد خرج من صحبتي والجلوس إلي".
جاهد نفسك ألا تذكر الناس إلا بالخير قال الأحنف -رحمه الله-: "ثلاث فيّ ما أذكرهن إلا لمعتبر (ذكر منهن).. وما أذكر أحداً بعد أن يقوم من عندي إلا بخير".
إذا لم أجد خِلاً تقيا فوحدتي *** ألذ وأشهى من غوي أعاشره
وأجلس وحدي للعبادة آمنا *** أقر لعيني من جليس أحاذره
أخي في الله: لا تُهدي حسناتك للآخرين؛ فكم من الناس من يصلي ويتصدق ثم يكون عمله من نصيب غيره, يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون من المفلس؟" قالوا من لا درهم عنده ولا متاع، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذَ من سيئاتهم فتطرح عليه ثم يطرح في النار ".
ولهذا يقول عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله-: "لولا أني أكره أن يعصى الله لأحببت أن لا يبقى أحد في المصر -يعني في البلد - إلا اغتابني ووقع في وأي حسنة أهنا من حسنة يجدها العبد في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها "، ويقول عبد الله ابن المبارك -رحمه الله-: "لو كنت مغتاباً أحداً لا غتبت والديَّ لأنهما أحق بحسناتي"، وجاء رجل إلى الحسن البصري -رحمه الله- فقال: "إنك تغتابني" فالتفت إليه الحسن البصري وأجابه بإجابة تهد الجبال هدا, قال له: ءأنت مجنون؟ هل تتصور أني وصلت إلى هذه الدرجة من البلاهة كي أعطيك من حسناتي، ثم قال له: ما بلغ قدرك عندي كي أحكمك في حسناتي.
فينبغي -يا عبد الله- أن تكون بخيلاً بحسناتك لا تنشرها على فلان وعلان.
أيها الأخوة الفضلاء: وسوس الشياطين لكثير من الناس فالتفتوا إلى ورثة الأنبياء وهم العلماء فاغتابوهم؛ فيا عجباً لهؤلاء لم يلتفتوا إليهم لينهلوا من علمهم ولا ليستفيدوا من تقواهم بل وجهوا سهامهم إليهم فسخروا منهم واغتابوهم في أعراضهم وأكلوا لحومهم في مجالسهم الآثمة, إن هؤلاء القوم أصبحوا لا يستأنسون ولا يهنئون ولا يطيب لهم السمر إلا بالخوض في أعراض العلماء، فمرة يهمزون هذا ومرة يلمزون هذا وحيناً أخر يرددون الشبه التي تثار حول هذا, بل البعض يختلق الأكاذيب ويلصق التهم بالعلماء " والله يشهد انهم لكاذبون".
أيها الأخوة: أدعوكم ونفسي إلى التوبة النصوح من الغيبة وانصح نفسي وإياكم أن نستغفر الله كثيرا بكرة وأصيلا, وأن نندم على ما فات من الكلام في فلان وعلان.
قال -عليه الصلاة والسلام-: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أوشيْ فليتحلله منه اليوم قبل أن يأتي يوم ليس ثم دينار ولا درهم وإنما الحسنات والسيئات".
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا أخرتنا التي فيها معادنا وأجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
عباد الله: صلوا على نبيكم فلقد أمركم الله بذلكم اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
التعليقات