عناصر الخطبة
1/محبَّةُ الله من أعظم واجِبات الإيمان وأكبر أصُولِه 2/أعظمُ الأسباب المُوجِبَة لمحبَّة العبدِ ربَّه 3/مِن مُوجِباتِ محبَّة الله تعالى.اهداف الخطبة
اقتباس
محبَّةُ الله للعبدِ هي غايةُ ما تسمُو إليه النفوس؛ فتبقَى القلوبُ عامِرةً بالخَوفِ والرَّجاءِ، ومِن رحمةِ الله أن جعلَ لمحبَّته علاماتٍ تسُرُّ المُؤمنَ ولا تغُرُّه، فالهدايةُ لا تكونُ إلا لمَن أحبَّ، والعِصمةُ مِن فتنةِ الدنيا أمارةُ حبٍّ وإكرامٍ، والقَبُولُ في الأرضِ بمحبَّة المُسلمين للعبدِ دليلُ محبَّة الله له...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوَى، واستمسِكُوا من الإسلامِ بالعُروَةِ الوُثقَى.
أيُّها المسلمون: أوجَدَ الله الخلقَ لعبادتِه الجامِعة لمحبَّته ورجائِه وخشيَتِه، وعلى هذه الثلاثة الأصُول تُبنَى العِبادة، والمحبَّةُ أعظمُ هذه الأركان، فأصلُ كل فعلٍ وحركةٍ إنما هو من المحبَّة والإرادة.
ومحبَّةُ الله من أعظم واجِبات الإيمان وأكبر أصُولِه، بل هي مقصُودُ الخلق والأمر، وأصلُ كل عملٍ من أعمال الإيمان والدين، وغايةُ العبادة إنما هو كمالُ الحبِّ والخُضوعِ لله تعالى، ولأجلِها تنافسَ السابِقُون، ولا شيء أحبَّ إلى القلوبِ السليمة مِن خالقِها وفاطِرِها.
وأصلُ التوحيدِ ورُوحُه إخلاصُ المحبَّة لله وحدَه، ولا يتِمُّ حتى تكمُلَ محبَّةُ العبد لربِّه، وتسبِقُ محبَّتُه جميعَ المحابِّ، فأصلُ الدين الإخلاصُ فيها، ومنشَأُ الشِّرك وأصلُه من التَّشرِيكِ فيها.
والله امتدَحَ عبادَه المُؤمنين بإخلاصِ المحبَّة له، وذمَّ المُشرِكين بالتندِيدِ فيها، فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165].
وجعلَها أخصَّ خِصال أوليائِه فقال: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة: 54].
وإذا أخلصَ العبدُ محبَّتَه لله ذاقَ حلاوةَ الإيمان وطعمَه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمان وطعمَه: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكرَهَ أن يعودَ في الكُفر كما يكرَهُ أن يُقذَفَ في النار» (متفق عليه).
وصِدقُ المحبَّة خيرُ زادٍ ليوم المعاد، وهي نِعمَ العُدَّة للِقاءِ الله.
سألَ رجُلٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: متى الساعة؟ فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أعددتَ لها؟»، قال: ما أعددتُ لها مِن كثيرٍ صلاةٍ، ولا صومٍ، ولا صدقةٍ، ولكنِّي أحبُّ اللهَ ورسولَه، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «أنت مع مَن أحبَبتَ» (رواه البخاري).
ومنازِلُ العباد عند الله على قَدر حبِّهم وخضُوعِهم له.
قال بكرٌ المُزنيُّ - رحمه الله -: "ما فاقَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - بكثرةِ صلاةٍ ولا صَومٍ، ولكن بشيءٍ كان في قلبِه".
قال ابنُ عُلَيَّة - رحمه الله -: "الذي كان في قلبِه: الحبُّ لله والنصيحَةُ في خلقِه".
ومَن ذاقَ مِن خالصِ محبَّة الله شغلَه ذلك عن جميعِ المحابِّ، فلا يأنَسُ إلا بربِّه، ولا يتعلَّقُ بغيرِه، والله توعَّدَ المُعرِضِين عن محبَّتِه بقولِه:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
وتحصِيلُ هذه المحبَّة يكونُ بما سنَّه الله وشرَعَه، وأعظمُ الأسباب المُوجِبَة لمحبَّة العبدِ ربَّه: العلمُ بأسمائِه وصفاتِه، فهو المحبُوبُ لذاتِه وكمالِ صِفاتِه، فجمالُه تعالى وكمالُه وأسماؤُه وصفاتُه تقتَضِي مِن عبادِه غايةَ الحبِّ والخُضُوعِ والطاعةِ له.
وكلُّ اسمٍ وصِفةٍ له - سبحانه - فيه من وجوه الدلائِلِ عليه تعالى ما يستحِقُّ لأجلِه المحبَّةَ الكامِلةَ مِن عبادِه، ولهذا تعرَّفَ الله بها إلى خلقِه، وأكثَرَ مِن ذكرِها في كتابه وفي سُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -؛ ليُذكَرَ بها الربُّ ويُشكَر.
وتفاوُتُ مراتِبِ الخلقِ في محبَّته على حسب تفاوُتِ مراتبِهم في معرفتِه والعلمِ به؛ فأعرَفُهم به أشدُّهم حبًّا له.
ومِن مُوجِباتِ محبَّة الله: كثرةُ ذِكرِه؛ فدوامُ الذِّكر يُورِثُ المحبَّة، وسُنَّةُ الله في خلقِه أن مَن أكثَرَ مِن ذكرِ شيءٍ أحبَّه، ومَن أحبَّ شخصًا أكثرَ ذِكرَه، والله أحقُّ مَن يُحبُّ، وأجَلُّ مَن يُذكَر.
والنفوسُ تُحبُّ مَن أحسنَ إليها، والله هو المنعِمُ المُحسِنُ إلى عبادِه بالحقيقةِ، وهو المُتفضِّلُ بجميعِ النِّعَم، وإن جرَت بواسِطةٍ فهو المُيسِّرُ لها، ومُسبِّبُ الأسبابِ وحدَه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر: 3].
والتفكُّرُ في ملَكُوت السماوات والأرض يدعُو صاحِبَه لمحبَّة الله وتعظيمِه؛ فالقلوبُ مفطُورةٌ على محبَّة الكمال، ولا كمالَ على الحقيقةِ إلا له - سبحانه -.
والإقبالُ على الطاعةِ بصِدقٍ وإخلاصٍ سببٌ لفضلِ الله على عبدِه، فيُثيبُه لذَّةَ محبَّته وأُنسَ مُناجاتِه.
وتلاوةُ كِتابِ الله وتدبُّرُ آياتِه حياةٌ للقلوبِ وطهارةٌ للنفوسِ؛ ذِكرٌ، وهُدًى، وموعِظةٌ، وشِفاءٌ، ومَن لزِمَه أحبَّ ربَّه وأعرضَ عمَّا سِواه.
قال عُثمانُ - رضي الله عنه -: "لو طهَرَت قلوبُنا ما شبِعَت مِن كلامِ الله".
ولا سبيلَ للوصولِ إلى حبِّ الله والتقرُّبِ منه إلا على سبيلِ الذلِّ له - سبحانه -، وانكِسار القلبِ بيد يدَيه، والدعاءُ يجمَعُ ذلك كلَّه.
والبُعدُ عن الشُّبُهات والشَّهوات سبيلُ الصلاحِ والاستِقامة، والصُّحبةُ الصالِحةُ خيرُ عَونٍ على ما يُحبُّه الله ويرضَاه.
وذِكرُ الجنَّة وما فيها من النَّعيم وأعلى ذلك رُؤيةُ الربِّ الكريمِ يبعَثُ على حبِّ الله وحبِّ لِقائِه، ومَن أحبَّ لِقاءَ الله أحبَّ الله لِقاءَه.
والمحبَّةُ الصادِقةُ تظهَرُ على الجوارِحِ، فلا يكون صاحِبُها إلا مُخلِصًا عبادتَه لله، مُتَّبِعًا لرسولِ الله.
قال الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: "زعمَ قومٌ حبَّ الله، فامتَحَنَهم الله بقولِه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) [آل عمران: 31]".
وإذا صحَّت المحبَّةُ استقامَ مُقتضاها، فأحبَّ العبدُ لله، وأبغَضَ لله، والله وصَفَ مَن يُحبُّهم بقولِه: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة: 54].
ومَن أحبَّ مَن يُحبُّ اللهَ فإنما أحبَّ الله، ومَن صدَقَت محبَّتُه لله أحبَّ الطاعةَ وامتثَلَها، وأبغَضَ المعصِيةَ واجتنَبَها، وعمَرَ وقتَه بذِكر ربِّه، ومَن أحبَّ اللهَ أحبَّ كلامَه، وانشرَحَ صدرُه له.
قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -: "وإذا أردتَ أن تعلمَ ما عندك وعند غيرِك مِن محبَّة الله، فانظُر محبَّةَ القرآن من قلبِك، والتِذاذَك بسماعِه".
وإذا تمكَّنَت المحبَّةُ في القلبِ أقبلَ على الله راجِيًا رحمتَه، خائِفًا مِن سخَطِه، فيصلُحُ بذلك الجسَدُ كلُّه، لا يمَلُّ قُربةً، ولا يسأَمُ مِن طاعةٍ، راضِيًا بقضاءِ الله وقَدَرِه، مُوقِنًا بأن اختِيارَ الله خيرٌ مِن اختِياره، فيترقَّى في درجاتِ الإحسان؛ حتى يصِيرَ الغَيبُ عنده كالشهادة.
والله موصُوفٌ بصِفاتِ الجلالِ، منعُوتٌ بنُعوتِ الجمال، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، ومِن صفاتِه المحبَّة؛ فيُحبُّ الطاعةَ وأهلَها محبَّةً تلِيقُ بجلالِه وعظمتِه.
وعلى العبدِ أن يسعَى للأعمال التي يُحبُّها الله؛ فمن الأديان يُحبُّ اللهُ دينَ الإسلام وارتضَاهُ لنا، ولا يقبَلُ دينًا سِواه، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].
وهو - سبحانه - وِترٌ يُحبُّ الوِترَ مِن طاعاتِ العبادِ، وأن يُفردَ بها دُون شَريكٍ.
والصلاةُ عمودُ الدين، والله يُحبُّ أداءَها على وقتِها، وأحبُّ نوافِلِ الصلاةِ والصيام إليه ما كان عليه داودُ - عليه السلام -: «كان يصُومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا، وكان ينامُ نِصفَ الليل، ويُصلِّي ثُلُثَه، وينامُ سُدُسَه» (متفق عليه).
وأحبُّ الهيئاتِ إلى الله ذُلُّ عباده إليه، وانكِسارُهم بين يدَيه، قال رجُلٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أخبِرني بأحبِّ العملِ إلى الله. فقال: «عليك بكثرةِ السُّجودِ لله» (رواه مسلم).
وخيرُ المَدحِ والثناءِ والتمجيدِ والحمدِ ما كان لله، وهو يُحبُّ ذلك مِن عبادِه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ليس أحدٌ أحبَّ إليه المَدحُ مِن الله، مِن أجلِ ذلك مَدَحَ نفسَه» (رواه مسلم).
وأحبُّ الكلامِ إلى الله: «سُبحان الله وبحمدِه» (رواه مسلم).
و"سُبحان الله وبحمدِه، سُبحان الله العظيم" «حبِيبَتان إلى الرحمن».
وأربعُ كلماتٍ هي أحبُّ الكلامِ عند الله: «سُبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» (رواه مسلم).
وأحبُّ أسمائِكم إلى الله: «عبدُ الله، وعبدُ الرحمن» (رواه مسلم).
وأحقُّ الناسِ بالصُّحبةِ هما الوالِدان، وبِرُّهما يُحبُّه الله ويرضَاه.
قال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: «الصلاةُ على وقتِها»، قلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «بِرُّ الوالدَين»؛ متفق عليه.
والرِّفقُ كلُّه خيرٌ، والله يُحبُّ ذلك؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله رفِيقٌ يُحبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه» (متفق عليه).
والحِلمُ والأناةُ خلُقان كريمان يُحبُّهما الله؛ قال - عليه الصلاة والسلام - لأشَجِّ عبد القَيس: «إن فيك خصلَتَين يُحبُّهما اللهُ: الحِلمُ والأناةُ» (رواه مسلم).
والحياءُ عن اقتِرافِ المعاصِي، والسِّترُ على مَن وقعَ فيها وهو أهلٌ للسِّتر مما يُحبُّه الله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله - عزَّ وجل - حيِيٌّ سَتيرٌ - أي: شأنُه السَّتر، وهي صِيغةُ مُبالغةٍ - يُحبُّ الحياءَ والسَّتر» (رواه أبو داود).
وهو - سبحانه - «جَميلٌ يُحبُّ الجمال» (رواه مسلم).
عفُوٌّ ويُحبُّ العافِين مِن عبادِه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «اللهم إنك عفُوٌّ تُحبُّ العفوَ، فاعفُ عنِّي» (رواه أحمد).
وبيانُ ما للناسِ بعضِهم على بعضٍ مِن حقوقٍ وواجِباتٍ مما يُحبُّه الله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ليس أحدٌ أحبَّ إليه العُذرُ مِن الله، مِن أجلِ ذلك أنزلَ الكتابَ، وأرسلَ الرُّسُلَ» (متفق عليه).
والإسلامُ حثَّ على التكسُّب وحِلِّ المكسَب، «وما أكلَ أحدٌ مِنكم طعامًا أحبَّ إلى الله مِن عملِ يدَيه» (رواه أحمد).
وامتِثالُ الشريعةِ برُخصِها وعزائِمِها شأنُ المُؤمن؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله يُحبُّ أن تُؤتَى رُخصُه كما يكرَه أن تُؤتَى معصِيتُه» (رواه أحمد).
ودوامُ الطاعة وإن قلَّت توفيقٌ وثباتٌ، «وأحبُّ الأعمالِ إلى الله أدوَمُها وإن قَلَّ» (رواه البخاري).
والدنيا قصيرةٌ، والله يُحبُّ أن تُختمَ بذِكرِ الله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ الأعمالِ إلى الله: أن تموتَ ولِسانُك رَطبٌ مِن ذِكرِ الله» (رواه ابنُ حِبَّان).
والأمكِنةُ تتفاضَلُ، وأحبُّها إلى الله مواطِنُ العبادة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ البلادِ إلى الله مساجِدُها» (رواه مسلم).
وكما يُحبُّ الله الطاعةَ والعملَ، فإنه يُحبُّ الطائِعَ والعامِلَ؛ فيُحبُّ أنبياءَه ورُسُلَه وعبادَه الصالِحين؛ وَدُودٌ ذُو حبٍّ شديدٍ لأوليائِه وعبادِه المُؤمنين، لذا فمَن عاداهم فقد آذنَه الله بحَربٍ.
واتَّخذَ إبراهيمَ ومحمدًا - عليهما الصلاة والسلام - خليلَيْن، والخُلَّةُ أعلى أنواعِ المحبَّة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله تعالى قد اتَّخَذني خليلًا كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلًا» (رواه مسلم).
وألقَى محبَّتَه على مُوسى - عليه السلام -، فقال: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه: 39].
والله شَكورٌ مَن أحبَّ أسماءَه وصِفاتِه أحبَّه الله.
كان رجُلٌ يقرأُ ويُصلِّي بأصحابِه فيختِمُ بِـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1]، فلما رجَعُوا ذكَرُوا ذلك لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سَلُوه: «لأيِّ شيءٍ يصنَعُ ذلك؟»، فسَألُوه، فقال: لأنها صِفةُ الرحمن، فأنا أُحبُّ أن أقرأَ بها، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «أخبِرُوه أن الله يُحبُّه» (متفق عليه).
ونبيُّنا مُحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بعثَه الله ليُطاعَ، ومَن أطاعَه أحبَّه الله؛ قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران: 31].
والله يُحبُّ المُتقين، ويُحبُّ المُحسِنين في عبادتِهم وفي مُعاملَةِ عبادِه، وهو - سبحانه - عظيمٌ يُحبُّ مَن يُفوِّضُ أمرَه إليه بالتوكُّلِ عليه؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
لا أعدلَ مِن الله في الأحكامِ والتشريعِ والجزاءِ، ومَن عدلَ بين خلقِه أحبَّه الله: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات: 9].
وهو - سبحانه - يُحبُّ الذين يُقاتِلُون في سبيلِه صفًّا كأنَّهم بُنيانٌ مرصُوصٌ.
ومَن صبَرَ على الطاعة، وعن المعصِيةِ، وعلى البلاءِ أحبَّه الله؛ قال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].
وفِعلُ النوافِلِ بعد الفرائِضِ أمارةُ إيمانٍ يُحبُّ الله فاعِلَها؛ قال الله في الحديثِ القُدسيِّ: «وما تقرَّبَ إلَيَّ عبدِي بشيءٍ أحبَّ إلَيَّ مما افترَضتُ عليه، وما يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إلَيَّ بالنوافِلِ حتى أُحِبَّه» (رواه البخاري).
والزَّاهِدُون في الدنيا بتَركِ ما لا ينفَعُ في الآخرة يُحبُّهم الله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ازهَد في الدنيا يُحِبَّك الله» (رواه ابنُ ماجه).
وإخفاءُ ما يُشرَعُ إخفاؤُه مِن الأعمال الصالِحة علامةُ إخلاصٍ، والله يُحبُّ مِن عبدِه ذلك؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله يُحبُّ العبدَ التقِيَّ الغنِيَّ الخفِيَّ» (رواه مسلم).
والله - سبحانه - قويٌّ، «والمُؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله مِن المُؤمن الضَّعِيفِ» (رواه مسلم).
ومَن نصَرَ الدينَ أحبَّه الله، والأنصارُ أدَّوا الذي عليهم فأحبَّهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأوصَى بهم وقال: «آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصارِ، لا يُحبُّهم إلا مُؤمنٌ، ولا يُبغِضُهم إلا مُنافِقٌ، ومَن أحبَّهم أحبَّه الله» (متفق عليه).
وحبُّ الصالِحين مِن حبِّ الدين وحبِّ الله، ومَن أحبَّهم أحبَّه الله؛ زارَ رجُلٌ أخًا له في قريةٍ أُخرى، فأرصَدَ الله له على مدرَجَتِه - أي: على طريقِه - ملَكًا، فلما أتَى عليه قال: «أين تُريدُ؟ قال: أُريدُ أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه مِن نعمةٍ ترُبُّها - أي: تشكُرُها عليه -؟ قال: لا، غيرَ أني أحبَبتُه في الله - عزَّ وجل -، قال: فإني رسولُ الله إليكَ بأن الله قد أحبَّك كما أحبَبتَه فيه» (رواه مسلم).
والله - سبحانه - توابٌ يُحبُّ التائِبين، ويُحبُّ المُتطهِّرين من النجاساتِ الحِسِّيَّة والمعنوِيَّة؛ قال - سبحانه -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].
وهو - سبحانه - كريمٌ ورحمتُه وسِعَت كلَّ شيءٍ، ومَن أحبَّ لِقاءَ الله والنَّظرَ إليه أحبَّ الله لِقاءَه.
وبعدُ .. أيها المسلمون: فاللهُ أهلٌ أن يُحبَّ لكمالِه وعظيمِ إحسانِه، وهو - سبحانه - يُحبُّ الطاعةَ ويُحبُّ عبادَه الطائِعِين محبَّةً تلِيقُ بجلالِه وعظمتِه، وحبُّ الله للعبدِ منزِلةٌ عالِيةٌ لا ينالُها إلا المُطيعُ لله ولرسولِه عقيدةً وقولًا وعملًا.
ومَن أحبَّه الله صرَفَ عنه كلَّ بلاءٍ وشرٍّ، وهداه ووفَّقَه، وأجابَ دُعاءَه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «قال الله - عزَّ وجل -: وإن سألَنِي لأُعطِينَّه» (رواه البخاري).
المُسدَّدُ يسعَى لنوالِ محبَّةِ الله بالمُسارعةِ لما يُحبُّه، ومُجانبَة المعاصِي؛ فإن الله يُبغِضُها.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود: 90].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميعِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له تعظِيمًا لشأنِه، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا.
أيُّها المسلمون: محبَّةُ الله للعبدِ هي غايةُ ما تسمُو إليه النفوس؛ فتبقَى القلوبُ عامِرةً بالخَوفِ والرَّجاءِ، ومِن رحمةِ الله أن جعلَ لمحبَّته علاماتٍ تسُرُّ المُؤمنَ ولا تغُرُّه:
فالهدايةُ لا تكونُ إلا لمَن أحبَّ، والعِصمةُ مِن فتنةِ الدنيا أمارةُ حبٍّ وإكرامٍ، والقَبُولُ في الأرضِ بمحبَّة المُسلمين للعبدِ دليلُ محبَّة الله له؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله تعالى إذا أحبَّ عبدًا دعَا جِبريلَ: إني أحبُّ فُلانًا، فأحِبَّه، فيُحبُّه جِبريلُ، ثم يُنادِي في السماءِ: إن الله يُحبُّ فُلانًا فأحِبُّوه، فيُحبُّه أهلُ السماء، ثم يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرض» (متفق عليه).
وحُسن الخاتمة مِنحةٌ من الله لمَن يُحبُّ مِن عبادِه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا أرادَ الله بعبدٍ خيرًا يُوفِّقُه لعملٍ صالحٍ ثم يقبِضُه عليه» (رواه أحمد).
ثم اعلَموا أنَّ الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَمِ التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الراشِدين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلُون: أبي بكرٍ، وعُمرَ، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرَم الأكرَمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجعَل دِيارَهم دِيارَ أمنٍ وأمانٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ووفِّق جميعَ وُلاة أمورِ المسلمين للعمَلِ بكتابِك وتحكيمِ شرعِك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أمِّن حدودَنا، واحفَظ بلادَنا، وانصُر جنودِنا، وثبِّت أقدامَهم يا قويُّ يا عزيز.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكرُوه على آلائِه ونِعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعون.
التعليقات