اقتباس
أما من المعقول فقد استدلوا أن الفطرة الربانية قامت على أساس تعدد المخلوقات، والتعدد قائم في خلق الله جميعا، ولا يمكن لأحد أن ينكره، فكيف ننكره في المجال السياسي. كما استدلوا بالمذهبية الإسلامية التي استوعبت في داخلها اليهودي والنصراني والمجوسي، كما استوعبت المجتمعات الإسلامية جميع الفرق الإسلامية بما في ذلك التي كانت تتبني أفكارا ضالة.
تكلمنا في الجزء الأول عن معنى الحزب في اللغة والاصطلاح، ومعناه في القرآن والسنة، والسياقات التي ورد ذكر الحزب فيهما، ثم تكلمنا عن معنى الحزب في الاصطلاح السياسي عند أصحاب المناهج الفكرية والأيديولوجية المغايرة، ثم تكلمنا عن أقوال أهل العلم والمتخصصين في قضية تأسيس الأحزاب السياسية في الدولة الإسلامية، الذين اختلفوا إلى ثلاثة أقوال في هذه المسألة، وبينا أن القضية من النوازل المعاصرة التي لم يكن للأئمة والسلف فيها قول أو رأي حتى يعتد به عند الكلام في المشروعية أو عدمها، وقد ذكرنا في الجزء الأول الرأي الأول والذي يرى عدم جواز إنشاء أحزاب سياسية في الدولة الإسلامية، وهذه المرة سنعرض لباقي الآراء مع الترجيح.
الاتجاه الثاني: الجواز مطلقا
وهذا القول ذهب إليه بعض الباحثين السياسيين من ذوي الخلفية الإسلامية مثل فهمي هويدي والمرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين محمد حامد أبو النصر، والدكتور سليم العوا، كما يقول به راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية التي أصبحت كبرى الحركات السياسية في تونس بعد الثورة. ويرى أنصار هذا الاتجاه جواز التعددية السياسية في ظل الدولة الإسلامية بلا قيود أو شروط، سواء كانت الأحزاب إسلامية أو علمانية، وسواء اتفقت أصولها ومبادئها ودعوتها مع قواعد الإسلام وأحكامه أو اختلفت معه أو حتى كانت تناقض عقيدة الإسلام نفسها.
ويرى هذا الفريق أن أصحاب الأفكار والمناهج المخالفة للإسلام مثل الشيوعية والعلمانية لا يمكن منعها من الوجود في المجتمعات الإسلامية، فقد كتب على كل مجتمع حظه من هذه الأفكار الضالة والمخالفة للدين وأصوله، ومنع هؤلاء من حرية تشكيل الأحزاب يؤدي بها للاصطدام مع الدولة والمجتمع، وقد تلجأ إلى العمل السري الهدام، والأفضل من ذلك مواجهتها بالحجة والدليل والبرهان، ولو استطاع هؤلاء خداع عموم الناخبين، فسيكون بسبب تقصير الدعاة والإسلاميين في دعوة الناس لصحيح الدين والمنهج القويم. يقول الغنوشي في كتابه المثير للجدل ( الحريات العامة في الدولة الإسلامية ): " فنحن لا نعارض البتة أن يقوم في البلاد الإسلامية أي اتجاه من الاتجاهات، ولا نعارض البتة قيام أي حركة سياسية، وإن اختلفت معها اختلافا أساسيا جذريا، بما في ذلك الحزب الشيوعي " .
وقد استدل أصحاب هذا القول من السنة النبوية، والمعقول والقياس فقالوا: ما ثبت عن عمرو بن العاص أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر " أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، ومسلم في الأقضية.
ووجه الدلالة أن الإسلام قد أباح الاجتهاد، بل وأوجبه على الحاكم، والله - عز وجل - يثيب على الخطأ والصواب.
أما من المعقول فقد استدلوا أن الفطرة الربانية قامت على أساس تعدد المخلوقات، والتعدد قائم في خلق الله جميعا، ولا يمكن لأحد أن ينكره، فكيف ننكره في المجال السياسي. كما استدلوا بالمذهبية الإسلامية التي استوعبت في داخلها اليهودي والنصراني والمجوسي، كما استوعبت المجتمعات الإسلامية جميع الفرق الإسلامية بما في ذلك التي كانت تتبني أفكارا ضالة.
كما استدلوا بأن الإسلام يقرر حرية الرأي وحرية العقيدة وحرية العبادة، فلماذا نفرق بين الحرية السياسية وسائر الحريات.
الاتجاه الثالث: الجواز في إطار سيادة الشرع والقواعد الكلية للدين
وهذا هو الرأي الذي يتبناه معظم الباحثين المعاصرين والمتخصصين في الشئون السياسية والأصوليين، وقد استدلوا بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والسوابق التاريخية والسياسة الشرعية والمعقول.
أولا: أدلة الكتاب: قوله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) [ آل عمران 104]، ووجه الدلالة أن الآية صريحة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد بينت أن طريقته تتم عبر الجماعة، لأن الطرق الجماعية في إقامة هذه الشعيرة أجدر و أقدر من عمل الفرد، لأن الاجتماع المنظم يمتلك المواهب والإمكانات والوسائل القادرة على تبين المعروف والمنكر، لذلك كانت الآية أصل في قيام العمل الجماعي ومنه الحزب السياسي الذي ينهض بمسئوليات الحسبة، ومنها الحسبة السياسية التي تقوم بها الأحزاب السياسية.
ومن الأدلة القرآنية أيضا قوله تعالى ( وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) [ المائدة 2] قال القرطبي - رحمه الله - في تفسيرها: " ومن وجوه التعاون على البر والتقوى أن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة " .
فإذا اجتمع أفراد وأنشئوا حزبا، أو جماعة مسلمة على أساس من البر والتقوى، فلا يجوز منعهم من ذلك، لأن في ذلك إبطالا لعمل خير لا ضرر فيه، ونهيا عن المعروف، وهو لا يجوز، ومن ثم يكون النهي عن تشكيل أحزاب سياسية مسلمة غير جائز. ومن الأدلة أيضا قوله تعالى ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) [التوبة 112 ] ووجه الدلالة في الآية: أن الأمة ليس في طاقتها أن تنفر جميعا لحمل الأعباء العامة، ولكن في المقابل على كل قادر على تحقيق المصلحة العامة الاستعداد لتولي هذه المهام، إذ أن الأصل في هذه المهام أنها جماعية.
ثانيا: الأدلة من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، وصححه الألباني. وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " أخرجه الترمذي وصححه الألباني . وقوله: " والذي نفسي بيديه لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
ومنها حديث السفينة الشهير. ومنها حديث صلح الحديبية. ووجه الدلالة في هذه الأحاديث كلها أن الإسلام قد كفل حرية إبداء الرأي والتعبير عنه، وحث الفرد والجماعة على القيام بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإسداء النصيحة لعموم الأمة من أعلاها لأدناها، وأن الإسلام قد دعا المسلمين والمجتمعات لمواجهة طغيان وجور الولاة والحكام وأصحاب الآراء المتطرفة بالصورة التي تسمح باستقامة الحياة في المجتمع وتمنع من ظهور المعاصي والمنكرات فيه. وموقف عمر رضي الله عنه يوم الحديبية هو موقف المعارضة، ولاشك أن المعارضة الجماعية هي الوسيلة الفعالة لاتقاء الكوارث السياسية والقرارات المصيرية الخاطئة.
ثالثا: من السوابق التاريخية: وهي كثيرة من سيرة الراشدين ومن تبعهم من الخلفاء والأمراء، فقد ثبتت معارضة عمر لأبي بكر - رضي الله عنهما - في قتال مانعي الزكاة، ومراجعته لقتالهم عدة مرات، كما ثبت حوار السقيفة في اختيار خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قبل دفن صاحب الرسالة، وظهور فريق ينادي بمبايعة سعد بن عبادة، وفريق ينادي ببيعة أبي بكر - رضي الله عنهما -.
ومنها معارضة أبي ذر لمعاوية - رضي الله عنهما - بالشام، ومعارضة طلحة والزبير لعلي، ومعارضة عائشة لعلي - رضي الله عن الجميع -، فهذه المعارضات وغيرها تدل على وقوع المعارضات ومشروعيتها وعهدتهم بها، ولو جاز ذلك للفرد، لكانت الجماعة أولى بها وأجوز لها.
رابعا: القواعد الشرعية، هناك عدة قواعد شرعية معروفة تؤكد على فكرة جواز التعددية الحزبية في دولة الإسلام منها: قاعدة المصالح المرسلة، فالمصالح المرسلة تتسع للاستنباط والاجتهاد ما دامت لا تصطدم مع النصوص المحكمة، والقواعد القاطعة، وأحكام الشريعة الكلية، وحدودها العامة، ولو كانت طبيعة العمل السياسي في صدر الإسلام بسيطة وغير معقدة كما هو الحال اليوم، فلم يكن هناك داع لقيام أحزاب، لكن مع تعقد الحياة وتشابكها وكثرة مشاكلها، واتساع أطراف الدولة الإسلامية، والنمو السكاني الكبير، كل هذه الأمور جعلت من قيام أحزاب سياسية تسعى لتكميل دور السلطة الحاكمة، أمر في غاية الأهمية والضرورة.
قاعدة " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " فمن الأمور الهامة التي تحتاجها السلطة السياسية لتتمكن من أداء وظائفها مثل الشورى والرقابة على السلطة، والنصح والتقويم للحاكم، ومن ثم كان لابد من وجود آلية لها تحقق هذه الوظائف، والأحزاب السياسية لهي من أفضل هذه السبل والآليات.
قاعدة الذرائع والنظر في المآلات، فلقد تقرر من استقراء النصوص الشرعية أن الاستقرار السياسي في الدولة الإسلامية، ومنع الفتن والقلاقل، أحد مقاصد الشريعة، لا يكون إلا بعد النظر وتبادل الآراء والاستماع لوجهات النظر المختلفة، وطرح الاجتهادات والرؤى المتباينة من أجل الوصول إلى أفضل الحلول في التعامل مع أزمات الأمة ومشاكلها، لو صودرت الآراء وتم اختزالها كل في وجهة نظر الحاكم ورأي السلطة الواحدة، لوقعت الكثير من الأزمات وتفاقمت المشكلات.
وبالنظر في الاتجاهات الثلاثة نجد أن الرأي الأول رغم كثرة ما استدل به من الكتاب والسنة إلا إنه قد استدل بنصوص عامة، تعارض بنصوص مثلها، فالاحتجاج بالنصوص التي تنهى عن الاختلاف، لها معارض بأن ليس كل اختلاف منهي عنه ومذموم، لآن الاختلاف من الأمور الطبيعية التي لا محالة من واقعها، والاختلاف المذموم ما كان في أصول الدين، أما الاختلاف في فروعه فهو من مصادر ثراء الشريعة وقوتها. أما النصوص التي تذم الأحزاب فهي ليست نصوصا مطلقة إنما مقيدة بكونها حزب الشيطان أو الشرك، وإلا فقد وردت الحزب في القرآن والسنة بصيغة المدح بوصفه حزب الله كما في سورة المائدة والمجادلة .
أما الرأي الثاني فقد استدل بأدلة كلها تعتبر خارج سياق النزاع والاستدلال، كما أنه يصطدم مع ثوابت الإسلام وقواعده الكلية، ويفضي إلى ما أجمع على منعه وإنكاره أهل العلم مثل ولاية الكافر، وولاية المرأة، وتبني الدولة للمناهج الضالة الملحدة.
ويبقى أن الرأي الثالث هو أرجح الأقوال وأمتنها استدلالا وفقها.
قضايا إسلامية معاصرة ـ الأحزاب السياسية في الدولة الإسلامية (1/ 2)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم