اقتباس
ومن أدلة السنة أيضا الأحاديث التي تنهى عن المنافسة على المناصب والإمارة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه " البخاري في كتاب الأحكام، ومسلم في كتاب الإمارة. وقوله لعبد الرحمن بن سمرة: " يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. ." البخاري في الأحكام، ومسلم في الإمارة. وقوله: " إنكم ستحرصون...
من القضايا الإسلامية المعاصرة التي أثارت قدرا كبيرا من الجدل والخلاف بين العلماء والمفكرين؛ قضية تأسيس الأحزاب السياسية في الدولة الإسلامية، نظرا للمرادفات السلبية الكثيرة التي تقترن بلفظة " الأحزاب "، ثم الممارسات الانتهازية التي تلجأ إليها غالبية الأحزاب في إدارتها للشأن السياسي، والحق أن الأحزاب السياسية مشتق من مشتقات الإقرار بفكرة التعددية المعروفة عند الغرب، وأثر هذه التعددية في الحياة السياسية هناك، ونظرة الشك والارتياب لدى كثير من العلماء تجاه كل منتجات الحضارة الغربية.
أولا: الحزب في اللغة
الحزب في اللغة يدور على أصل واحد: هو الجماعة من الناس، قال تعالى ( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ) [ المؤمنون 53]، وهو الطائفة من كل شيء: حزب بكسر الحاء. يقال: قرأ حزبه من القرآن. والحزباء: الأرض الغليظة. قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: حَزَبَ هو تجمع الشيء، وبكسر الحاء: هو الجماعة من الناس. وحازبه: صار من حزبه أي نصره وعاضده. والحزب: جند الرجل وأصحابه الذين على رأيه. قال ابن الأعرابي: " الحزب: الجماعة، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب، وإن لم يلق بعضهم بعضا.
وجمع حزب أحزاب، ومنها الأحزاب الذين تألبوا وتحزبوا وتظاهروا على محاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه، والذين دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور: " اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزم الأحزاب، وزلزلهم " أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير.
وفي حديث الإفك قالت عائشة: " وطفقت حمنة تُحازب لها " تقصد أن حمنة بنت جحش قد تعصبت لأختها زينب بنت جحش - رضي الله عنهما -. ومما يرادف كلمة الحزب في اللغة: الطائفة، العصبة، الرهط، والفئام، والكردوس، والفوج، والثلة، والجماعة، والزمرة، والكتيبة، والفيلق، والنفر، والخميس، والجيش والشرذمة ".
ومن مجموع التعاريف السابقة نجد أن أصل كلمة حزب هي: الطائفة من كل شيء، أما غالب استعمالها فهو: طائفة أو جماعة من الناس تتحزب أي تتعصب لأمر ما؛ سواء كان هذا الأمر المتحزب له فكرة معينة، أو رغبة خاصة، أو هوى مجتمع، أو لشخص ما، أو مذهب، أو طائفة، سواء اجتمع المتحزبون أم لم يجتمعوا، اتحد زمانهم ومكانهم، أم لم يتحد، فالعبرة بتشاكل القلوب والأفكار والأعمال ليكونوا حزبا.
ثانيا: الحزب في القرآن
فقد وردت كلمة حزب ومشتقاتها في القرآن في عشرين موضعا، في ثلاث عشرة سورة؛ منها ثماني مرات بصيغة مفردة، ومرة واحدة بصيغة المثنى، واثنتا عشرة مرة بصيغة الجمع. وباستقراء هذه الآيات نجد أن الحزب يفيد بشكل عام معنى الترابط المنظم، والاجتماع على أمر؛ سواء أكان في الخير أم في الشر. حيث ورد الحزب بمعنى الأنصار والأتباع، كما في قوله ( استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ) [ المجادلة 19]. وورد بمعنى الطائفة والجماعة من الناس، كما في قوله تعالى ( من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) [ الروم 32].
أما كلمة الأحزاب فقد وردت في القرآن على وجه الخصوص على فئة محاربي الأنبياء، كما في قوله عز وجل: ( كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب ) [ص 12ـ13]. وقوله تعالى ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) [الأحزاب 22].
ثالثا: الحزب في السنة النبوية
فقد وردت كلمة " الحزب " في السنة النبوية على عدة معان: جاءت بمعنى الورد من القرآن أو الصلاة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم :" من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل " أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها. وجاءت بمعنى الأنصار والأتباع، كما في حديث أنس - رضي الله عنه -: فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى الأشعري، فلما دنوا من المدينة جعلوا يرتجزون، يقولون: غدا نلقى الأحبة. . محمدا وحزبه ".
وفي حديث عائشة - رضي الله عنها -: " أن نساء الرسول - صلى الله عليه وسلم -كنَّ حزبين، فحزب عائشة وحصفة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". كما يطلق الحزب على فئة قائمة بأمر الله، تقاتل أعداء الله كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله - عز وجل - لا يضرهم من خالفهم، تقاتل أعداءها، كلما ذهب حزب قوم تستحرب قوم أخرى. . " صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
كما تأتي كلمة الأحزاب بمعنى عكس ذلك، بمعنى أعداء الله الذين تحزبوا وتألبوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكرهم في دعائه عند الصفا والمروة: " لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ". وكما في دعائه عند لقاء أعدائه: " اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم " أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير.
رابعا: الحزب في الاصطلاح السياسي
تعددت التعريفات السياسية لمعنى الحزب حسب الخلفية العقدية والثقافية والسياسية للباحثين والمفكرين، فكل ينطلق من بنائه الثقافي في تعريف الحزب، وهذه من الأمور التي يجب مراعاتها عند الاطلاع على جهود وكتابات هؤلاء الباحثين، فمثلا الباحثون الليبراليون عند تعريفهم للحزب ينظرون إليه من عدة زاويا منها: النظرة التنظيمية فيصفونه بأنه: تجمع من المواطنين حول نظام واحد ". ومنها: الهدف من قيام الحزب فيصفونه بأنه: جماعة من الناس تعتنق مذهبا سياسيا واحدا ". ومنها: وظيفة الحزب، فيصفونه بأنه: تنظيم دائم يتحرك على مستوى وطني ومحلي، من أجل الحصول على التأييد الشعبي، بهدف الوصول إلى ممارسة السلطة، لتحقيق سياسة معينة ".
أما الباحثون الماركسيون فلا يؤمنون بتعدد الأحزاب أصلا، إذ يعتبرونه أحد عناصر الصراع السياسي في المجتمع من أجل الاستحواذ على السلطة والاستبداد بها، باعتباره معبرا عن مصالح الطبقة العاملة التي تمثل المجتمع؛ وهذا هو ما يتفق مع تعريفهم للحزب: التعبير السياسي للطبقات الاجتماعية المختلفة ".
وخلاصة تعريف الحزب السياسي في الاصطلاح: " جماعة من الناس، يجمعهم إطار تنظيمي مستمر، وفكري ثابت، لهم هدف سياسي، ويسعون إليه من خلال وسائل سلمية ".
خامسا: حكم الشرع في تكوين الأحزاب في الإسلام
مسألة تأسيس الأحزاب السياسية من المسائل الحديثة والمستجدة في الفقه الإسلامي حيث لم تظهر في بلاد الإسلام إلا في أوائل القرن العشرين، وهي لم تنل حظها الكافي من البحث والدراسة إلا مؤخرا، بعد رؤية الآثار المترتبة على قيام هذه الكيانات. وقد اختلف أهل العلم إلى ثلاثة أقوال في حكم تأسيس الأحزاب السياسية في الدولة الإسلامية، ولكل قول أدلته من الشرع، وتبقى الموازنة والترجيح بين الأقوال مهمة العلماء والأصوليين والمتخصصين.
الاتجاه الأول: المنع مطلقا، وقال به الشيخ الدكتور بكر أبو زيد، وعلامة الهند المباركفوري صاحب الرحيق، والإمام المجدد حسن البنا، وأبو الحسن الندوي، وفتحي يكن، والمودودي، ومحمد شاكر الشريف وغيرهم. ويرى هؤلاء أن نظام تعدد الأحزاب لا سبيل إليه في المجتمع الإسلامي، للمآلات الوخيمة والعواقب الأليمة التي تفضي إليها التعددية الحزبية. ومن أدلة هذا الاتجاه: من الكتاب الكريم الاحتجاج بالآيات التي تنهى عن التفرق، والآيات الداعية للاجتماع والاتحاد، مثل قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) [ الأنعام 159] وقوله: ( من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) [ الروم 32]، وقوله: ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ الشورى 13]، وقوله: ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) [ آل عمران 103]، وقوله: ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ) [ الأنفال 46]. ووجه التأويل في الآيات: أن الله - عز وجل - قد أمر بالاجتماع، ونهى عن الفرقة والخلاف، والحزبية مظنة الفرقة والبغضاء بين أهل الإسلام. كما استدلوا من الكتاب أيضا، أن كلمة " الأحزاب " لم تذكر في الكتاب إلا مقترنة بالذم والشر والوعيد الشديد.
أما عن الأدلة من السنة، فقد استدلوا أيضا بالنصوص الناهية عن التفرق والاختلاف، والنصوص الداعية للوحدة والاتحاد والاتفاق، ومن أشهرها قوله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمٍّية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية " أخرجه مسلم في كتاب الإمارة. ووجه الدلالة في التحذير من مفارقة جماعة المسلمين، والتحزب تحت رايات شتى غير راية الإسلام، وأن التخلي عن هذا الولاء يعني الخروج عن دائرة التنظيم الإسلامي، والرجوع إلى التفرق الجاهلي.
ومن أدلة السنة أيضا الأحاديث التي تنهى عن المنافسة على المناصب والإمارة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه " البخاري في كتاب الأحكام، ومسلم في كتاب الإمارة. وقوله لعبد الرحمن بن سمرة: " يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. ." البخاري في الأحكام، ومسلم في الإمارة. وقوله: " إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئس الفاطمة " البخاري في الأحكام.
أما عن الأدلة من المعقول، فقد احتجوا بالمعقول من عدة وجوه منها:
1 ـ أن معقد الولاء والبراء هو الإسلام وحده، والأحزاب تهدم هذا الأصل، والمسلم مطالب بموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين والمنافقين، بينما تنظم الأحزاب السياسية علاقاتها على أسس الولاء والبراء لمن انتمى إليه ووافق على مبادئه ومنهجه الذي غالبا ما يكون متصادما مع الإسلام في أمور كثيرة.
2 ـ أن التعددية السياسية وقيام الأحزاب المتعارضة يفضي لظهور الأرذل وأردأ الأخلاق وأكثرها ضررا على الأمة مثل تزكية النفس، والطعن في الآخرين وتجريحهم، بسبب سياسة الدعاية الحزبية أيام الانتخابات وغيرها، والتي تبيح للكثيرين الغش والخداع والتدليس والطعن في الآخرين، مما يسيء للمجتمع ويفسد ذات البين.
3 ـ فشل التجارب الحزبية المعاصرة في غالبية البلدان الإسلامية، بحيث لم يعد هناك نموذج يحتذى به في تطبيق فكرة الحزب الراشد في الدولة الإسلامية، بل معظم التجارب كانت وبالا على الأمة، وسببا للفرقة والاختلاف وولوج الأفكار التغريبية والشيوعية في العالم الإسلامي.
قضايا إسلامية معاصرة - الأحزاب السياسية في الدولة الإسلامية (2 /2)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم