الوعظ .. أرضنا المحروقة!

علي جابر الفيفي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

كنا نسمع الوعاظ فلا نعتقد أن ما نسمعه من وعظهم المزمجر، والذي تذوب له الشهوات، وتتساقط بسببه العبرات، فلا نعتقد أنّ مثل هذا الصوت العالي، والنبرة المرتفعة مما يجب علينا أن نتذمر منه، وأن نسخر به، وأن نصدّ عنه..

سياسة الأرض المحروقة مصطلح عسكري يعني أن العدوّ وبغرض تكبيد خصمه أكبر قدر من الخسائر يقوم بحرق ما يصل إليه من أراض ومؤونة وأسلحة حتى لا يستفيد ذلك الخصم من تلك الامتيازات مرّة أخرى..

 

وفي حرب الليبرالية الشرسة لكل ما هو ديني، مارست هذه السياسة الخطيرة مع أرض "الوعظ" التي كانت ومازالت أهم مظهر ديني إصلاحي وإرشادي.. فأحرقت الوعظ شكلاً فانتزعت منه قدراته التأثيرية، ثم موضوعاً فسلبت منه أهم قضاياه ورسائله، ثم هي الآن في طور حرق نبضه وحقيقته وذاته ليغدو الوعظ أثراً بعد عين، وممارسة هي للسلب أقرب منها للإيجاب ..

 

مشكلة كبيرة عندما تخوض معركة وأنت لا تعلم أنّك تخوض معركة، وعندما تخسر الكثير من ثرواتك، ومواقعك، وأنت لا تعلم أنّك تخسر، وتنهزم، وتتراجع.. وهذا _مع الأسف_ ما أزعم أنّه حدث .. فقد أُحرقت الموعظة، ولم يبق منها إلا نبضات في قلب شبه ميّت، أعاد الله لها الحياة، وأفاض عليها من رحماته سبحانه.

 

أهمية الموعظة:

شيء محرج عندما أشعر أنّي بحاجة إلى أن أقنع القارئ "المسلم" بأهميّة الوعظ! ولكن ماذا أفعل وسنوات من الغزو المنظّم، قد أحرقت ذلك الحقل الوعظي الذي كان يمدّ الخطاب الديني بحياته، وحركته، ومَوَرَانه..

 

صار البعض يعتقد أن الوعظ قسيمٌ للعلم، والواعظ عنصر مقابل للعالم والمثقف، ويكون _للأسف_ هو العنصر الأقل أهمية، بل العنصر الذي يمكن الاستغناء عنه!

 

الوعظ كان مهمّة الأنبياء الأولى، ولم يكن ينفك عالم عن الوعظ، بل غالبية إن لم أقل كل المواعظ التي حفظتها كتب التراث إنّما نقلت عن علماء وفقهاء ومحدثين.. فمن لم يبك من مواعظ أبي بكر الصديق ذلك الفقيه العظيم؟ ومن لم تهزّه مواعظ عمر؟ وأبي الدرداء؟ وعليّ؟ وابن مسعود؟

 

وكيف يمكن أن تُجهل مواعظ الحسن البصري؟ أو كلمات الأوزاعي؟ أو عبارات سفيان الثوري؟ أو صواعق يحيى بن معاذ؟ أو خطب ابن الجوزي؟ أو زواجر ابن القيم.. الخ

 

إن الوعظ ليس قسيما للعلم، بل هو روح العلم التي لا تنفصل عنه، ولا يمكن لعلم أن يكون علماً ربانيا إلا والوعظ يمازجه ويخالطه ويكوّنه ويتكوّن عنه..

 

أشعر بصعوبة مهمة أن أقنع القارئ بأهمية الوعظ، لذلك فعودة إلى مادّة (و ع ظ) والنظر فيها وفي اشتقاقاتها في القرآن الكريم والسنة النبوية والتاريخ الإسلامي.. كفيلة أن توصل معنى أن الوعظ هو المادّة التي لا يمكن لدين أو لفكرة أن تقوم بدونها..

 

ثم ألا يكفي أن نعلم أن الله -سبحانه وتعالى- نسب الوعظ إلى نفسه العليّة فقال جلّ من قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57]، وقال سبحانه: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[النور: 17]؛ فالله -سبحانه- يعظ خلقه، وينزل كتابه الذي هو موعظة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) أظن هذا يكفي حتى نعلم موقع الموعظة والوعظ من الأهميّة في السلّم الديني، بل والتاريخي والاجتماعي..

 

التساقط الشكلي

ولا أعني بالشكل قشرة غير مهمّة في جدار الوعظ، بل أعني شيئاً من صميم الوعظ، ولكنّه ينتمي إلى الأسلوب والطريقة، لا إلى الموضوع والمغزى.. وسآتي بمثالين شكليين حوربا، وتمّ انتزاعهما من خصائص الوعظ، ولم يكونا مقصودين، وإنما كانا وسيلة يراد بها ما بعدها.. وقد تمّ لأعداء الوعظ ذلك المراد والله المستعان!

 

شكليّة النبرة المرتفعة: كان الواعظ يتحدّث للجماهير، بصوت منخفض إن أراد، وبصوت عال إن شاء، بحسب ما يقتضيه سياق النصيحة.. فكنت تسمع الشيخ "عبد الله حماد الرسي" يرجف بصوته المرتفع في شريطه الظاهرة "هادم اللذات" فتنخلع لكلماته شهوات القلوب، ورغائب النفوس.. ويُعلي الشيخ سعيد بن مسفر هتافه الوعظي، وتنطلق حناجر الكثير من أهل العلم والدعوة بالتذكير بالله والدار والآخرة..

 

فكما أن للنبرة الهادئة جمهورها، وتأثيرها، فكذلك النبرة المرتفعة لها جمهورها، وطاقتها التأثيرية.. فكانت كل نبرة تكمّل الثانية، وتهزّ في القلوب أماكن هي بها أعرف، وتلامس في الأرواح جهات هي بها أعلم..

 

كنا نسمع الوعاظ فلا نعتقد أن ما نسمعه من وعظهم المزمجر، والذي تذوب له الشهوات، وتتساقط بسببه العبرات، فلا نعتقد أنّ مثل هذا الصوت العالي، والنبرة المرتفعة مما يجب علينا أن نتذمر منه، وأن نسخر به، وأن نصدّ عنه..

 

فأتت الليبرالية فجعلت ذلك الصوت الوعظي ملمزة، وجعلته دلالة على خواء المحتوى، مع أنّ النبي -ﷺ- رفع صوته، واستخدم طاقة الحنجرة لإيصال معان عالية المستوى لا يمكن للهمس أن يوصلها.. فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال "كان النبي -ﷺ- إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، حتى كأنّه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم"(رواه مسلم).

 

وكذلك فعل صحابته الكرام والتابعون وتابعوهم.. وكانت سنّة وعظية متبعة، يتلقاها جيل عن جيل.. فباتت بفضل الإعلام الليبرالي الشرس عيباً يجب التواري عنه، وشيئا يجلب الضحك أكثر من جلبه للخشية والرهبة ..

 

وخسر الصوت الديني مظهراً وعظياً من مظاهره، وطاقة تأثيرية من طاقاته، بسبب عدم معرفته أنّه كان في معركة، وأن حرباً شرسة تسلّطت عليه، وسلبت منه أسلحته سلاحاً سلاحاً دون أن يدري..

 

شكلية القصّة: القصّة أسلوب وعظي قرآني نبويّ، عاش مع الإنسان منذ يومه الأوّل في هذه الحياة، ترشده تفاصيلها، وتذكره حبكتها، وتنبهه نهاياتها للأقوم والأصلح له في حاله ومآله..

 

يقول تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 176]، ويقول سبحانه: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)[يوسف: 3]، والقرآن كما قيل ثلاثة أثلاث: عقائد، وأحكام، وقصص! بل لقد جاءت سورة كاملة اسمها (الْقَصَصِ) دلالة على أن القصّ بحد ذاته لا يمكن أن يكون أسلوباً رديئاً، يُنفّر منه المستمع.

 

وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقص لأصحابه قصص الأنبياء، وعبر الأمم السالفة .. ويلقي عليها ظلال التذكير، والإرشاد.. بل هل السيرة النبوية إلا قصّة مثيرة ومؤثرة ومليئة بالعبر والعبرات؟

 

وما أكثر وأحسن قصص السلف الصالح، وأحاديث أيامهم، وتفاصيل سيرهم .. التي يضيء منها الهدي القويم، والقدوة الحسنة..

 

وقد حورب هذا الأسلوب الرائع، والمؤثر، حرباً شعواء جعلت منه نبزاً، وسبّة، وبات بعض أهل العلم إن شاء أن يستنقص من واعظ ذكر أنّه "مجرّد قاص" وكان بالإمكان نقده فيما يستحق النقد، وترك أسلوب القص جانباً، ولكن يبدو أنّنا في عصر باتت فيه الليبرالية فوق كونها تاريخاً وفكراً وفلسفة، باتت أيضاً رائحة ونكهة، يستنشقها من أراد ومن لم يرد، وباتت كباقي الوشم في ظاهر كلمات بعض أهل العلم، وتصوّرات بعض الدعاة، وأحاديث بعض (المطاوعة) !

 

في العاميّة الكويتية يقولون: لا تقصّ علينا.. أي لا تكذب علينا!! فباتت القصّة تعني الأكذوبة! ولا أزعم أن مثل هذا الاستخدام ليبرالي المنزع، ولكن لن أبرئ الليبرالية في حربها الشرسة من استفادتها من مثل هذه الاستخدامات السلبية، لتسقط بها المزيد من الأحصنة في حربها الغاشمة الظالمة..

 

التساقط الموضوعي:

وسأذكر بعض الموضوعات التي تساقطت إبّان الحرب على الوعظ، والمحزن أنها سقطت دون أن يشعر بها المتديّن، في معركة دنيئة، قوامها أعمدة صحفية، ورسومات كاريكاتورية، ولقاءات تلفزيونية.. كل ذلك وأكثر في مقابل صدق المتدينين، وعدم إدراك أكثرهم أنّهم يخوضون حرباً!

 

موضوع الموت: من موضوعات الوعظ الشهيرة، والتي جاء القرآن الكريم بالتذكير بها، وتذكير الناس مسلمهم وكافرهم بحقيقتها، موضوع "الموت" بكل تفاصيله، الموت كحقيقة، والموت كنهاية للحياة الدنيا، والموت كبداية للحياة الأخرى .. الموت الذي يحرق تذكره الكثير من شهوات النفس، والرغبة في العصيان..

 

هذا الموضوع المهم في السيرة الوعظية كان موجوداً في جميع الأزمنة والعصور، ولم يُعتبر الحديث عنه سلبية يجب الانصراف عنها، إلا بعد أن وجّهت فوهة الليبرالية قذائفها الصحفية إلى ذلك الموضوع المهم، ذلك الموضوع الذي لو أحسن استخدامه لسُلبت الليبرالية أهم خصائصها، لأنّها فكرة بنت نفسها على محوريّة الحياة الدنيا .. فإذا ما علم الإنسان وتذكّر أن نهايته الموت، فسوف تخسر الليبرالية الأرض التي تناور عليها، والموقع الذي تنشئ نظريّتها عليه..

 

أذكر قذائف الأعمدة وهي تتحدث عن "ثقافة الموت" وتتهم المعلمين، والوعاظ بأنهم باتوا عناصر مخيفة، تستخدم لغة الموت، والقبر لإدخال الرعب في قلوب الناشئة، (ولا بد هنا من استخدام فزّاعة الإرهاب، فيكون الحديث عن الموت تمهيداً لإعداد الشباب لتفجير أنفسهم!!) .. وهنا خسر الخطاب الوعظي لدينا أهم موضوعاته، فبات الواعظ يتجنّب _أدرك أم لم يدرك_ الحديث عن الموت، حتى لا يوصف بأنّه ممن ينشر ثقافة الموت، فقلّت نسبة الخطب والمحاضرات التي تذكر بالموت والقبر ومنكر ونكير..

 

موضوع ذم الدنيا: من الموضوعات الوعظيّة القديمة، والتي جاء القرآن الكريم بالتنبيه عليها، وجاءت السنة والسيرة النبويّة بتعزيز معناها هو ذم الدنيا، وبيان حقارتها، وبأنّها مرحلة غير مقصودة لذاتها، وإنما لما ينبني عليها من عمل للآخرة.. يقول تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)[الحديد: 20]. ويقول سبحانه: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 32]، ويقول سبحانه: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185] " وقال : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)[الأنعام: 70].

 

ويقول النبي -ﷺ-: "ما مثل الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع"(رواه ابن ماجه)، وعند أحمد من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه، فقال يا نبي الله، لو اتخذت فراشا أوثر من هذا، فقال: "ما لي وللدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا، إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها" ..وعند الترمذي وغيره: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً، أو متعلماً".

 

فهذه النصوص وكثير غيرها تصب في ذم الدنيا، وعدم إعطائها أكبر من حجمها، بل تصغير وتضئيل هذا الحجم، ومع ذلك فلا يمكن (وليعتبر هذا تحديًا) أن يتحدث واعظ بذم الدنيا، بل إننا صرنا نضع المحترزات، والاستثناءات، وبات الداعية ليظهر للناس أنّه جيّد المنهج، إذا ما أثنى على طلب العلم يضع علم الطب والهندسة كقسيم للعلم الشرعي، مع أنّهما ليسا بقسيمين ولا مقاربين، هما من علوم الفانية، والعلم الشرعي علم يراد به وجه الله! ولكن الضغط الليبرالي جعلنا نتحدث بهذه الطريقة، وننهزم بهذه الكيفية، وننسى موضوعاتنا الأصيلة، ونداهن في حقائق القرآن..

 

ثم ماذا؟

ولو أن المسألة وقفت عند العبث بشكليات الوعظ، أو موضوعات الوعظ، لكان الخطب أهون، والأمر أسهل، ولكنّ الحرب الليبرالية لمّا أن حرقت الأرض المحيطة بخصمها، وهو الوعظ، قررت أن تجهز على الخصم نفسه، فانتقلت إلى الوعظ نفسه، لا شكله وموضوعه، فبات الوعظ ممارسة لا يقوم بها إلا الدراويش من الناس، وتنم عن ضعف العلم والثقافة، وتوحي بعامّية المتكلم والمستمع..

 

فصار بسبب ذلك الوعظ نشاطاً غير مرغوب فيه من أصحاب الدعوة، وحملة الرسالة، وكما أن المثقف بات بديلا عن الشيخ، فقد صار المدرّب بديلاً عن الواعظ.. وصار يأنف العالم عن تزكية واعظ، ويتردد كاتب عن أن يذكر أنّه حضر موعظة لداعية شاب، وصرنا نستغرب كثيراً إن بدرت موعظة من عالم، فنتناقل مقطعها، ونتحدّث عنها، وكأنّها معجزة يجب أن نلفت النظر إليها.. بعد أن كانت المواعظ ملء السمع والبصر، تتصدّع لصدقها الذنوب التي في القلوب..

 

والمحزن أن كثيراً من وعّاظ الأمس صار يتبرأ من مواعظه، ويعتبرها عثرة سالفة يتمنّى من أجيال اليوم أن يغفروها له! ويسامحوه عليها!!

 

أخيرا:

يبدو أني أطلت نوعا ما، ولكن الموضوع يحتاج إلى بسط أكثر، وحديث عن تفاصيل أشد قتامة! ولعل ذلك يحدث في مقالة أخرى.. أو من كاتب آخر.. ولكن إن كانت هناك كلمة أنهي بها المقالة فهي: أعيدوا للوعظ مكانته، وحياته، ليعيد الأجيال المتجمدة تحت صقيع مواقع التواصل، إلى دفء المساجد، وأنس المآذن، وجلال المحاريب..

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات