تجديد الخطاب الديني

نفسية الزكي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

فتجديد الخطاب الديني إذن له فوائد عظيمة؛ إذ يكون طريقا "إلى حفظ الدين على صورته النقية بعيدا عن البدع التي أضيفت إليه، أو الأقوال الباطلة التي نسبت إليه، كما أنه يؤدي إلى تآلف القلوب واجتماع الكلمة ووحدة الأمة؛ إذ لا مجال...

تعتبر قضية تجديد الخطاب الديني من القضايا الأساسية التي نهض بالدعوة إليها دعاة ومصلحون ومفكرون من مختلف أقطار العالم الإسلامي، تجمع بينهم الرغبة في الإصلاح عن طريق فتح باب الاجتهاد، وإشاعة ثقافة كونية مبنية على أسس شرعية وعقلية من أجل النهوض بهذه الأمة والرقي بها إلى مصاف الأمم المتطورة..

 

ومازالت هذه القضية الحيوية (قضية تجديد الخطاب الديني) تستأثر باهتمام الباحثين والمفكرين المعاصرين، خصوصا مع التطور الهائل الذي شهدته مناهج العلوم الإنسانية والنظم الوضعية، التي تروم بدورها تحقيق العدالة الاجتماعية في أحسن صورة وأكملها.

 

وتجديد الخطاب الديني في كليته "هو فهم النصوص الشرعية في نور المقاصد الكلية للشريعة، بما يلائم واقع الناس، ويحقق آمالهم في الحياة، ويؤهلهم للفوز في الآخرة، وهو يعني أيضا تجديد الطرق والأساليب والقوالب والصيغ والمناهج، ولا يمس الثوابت ولا القطعيات"(1).

 

"إن تنوع المذاهب الفقهية، واختلاف أبناء المذهب بعضهم مع بعض أحيانا، أو مع رأي صاحب المذهب، كل ذلك في مسيرة الفقه الإسلامي كان آية من آيات تجديد الخطاب الديني، وتفاعل الفقهاء مع المستجدات حسب الزمان والمكان، وكل ذلك كان في إطار من احترام تنوع الآراء لتنوع الوقائع، ولأن النصوص الشرعية حمالة وجوه، مادام ذلك كله في الإطار المشروع"(2).

 

إن تجديد الخطاب الديني ليس ضرورة دينية خالصة فقط، "وإنما هو ضرورة حياتية مدنية أيضا، فالأمر أكبر من حركة إصلاحية دينية، تقصد النقاء الديني، دون الارتباط بشروطه المعاصرة، سواء في سياق إنتاج الدلالة أو في سياق تفعيلها في الواقع، فالارتباط بهذه الشروط هو الذي يمنح تجديد الخطاب الديني ضمانة حقيقية في تحقيق القدرة على الفعل الإيجابي، كما أنه هو الذي يمنحه مبرر وجوده من الأساس. إذن، يجب أن يكون تجديد الخطاب الديني نابعا من احتياجات المرحلة التي نعيشها بجميع أبعادها، أي تجديدا على ضوء شروط العصر؛ ليفي باحتياجات العصر، فهو حالة فهم مرحلية ظرفية، لا تزعم لنفسها نهاية تاريخ الفهم، كما لم ترض أن تسلم بذلك لغيرها، فهذه الحالة أشبه بفتح باب اجتهاد، ولكنه اجتهاد يتجاوز آليات الفهم التقليدية، التي تبقي الخطاب أسير ظرف تاريخي خاص، بحيث يكون الاجتهاد دورانا في حلقة مفرغة، لا يخرج الإنسان من حالة تقليدية إلا إلى حالة تقليدية أخرى. اليوم، يتم طرح تجديد الخطاب الديني بقوة، ومن معظم الفاعلين في الخطاب الإسلامي، هناك قناعة بضرورة التجديد من الأغلبية، لكن مجرد القناعة لا تعني الوعي بماهية التجديد الذي يحاول إجراء تحولات في خطاب ما، كما أنها لا تعني القدرة عليه، حتى في حال الوعي به، والقناعة بمساحات التحول الضرورية لدمغه بصفة الجديد"(3).

 

فتجديد الخطاب الديني إذن له فوائد عظيمة؛ إذ يكون طريقا "إلى حفظ الدين على صورته النقية بعيدا عن البدع التي أضيفت إليه، أو الأقوال الباطلة التي نسبت إليه، كما أنه يؤدي إلى تآلف القلوب واجتماع الكلمة ووحدة الأمة؛ إذ لا مجال ولا مسوغ للتفرق والاختلاف عند العودة إلى المنابع والأصول، مما يكون له أبلغ الأثر في قدرة الأمة على الصمود أمام المتغيرات"(4).

 

وتجديد الخطاب الديني في عمومه يقتضي أولا إعادة تأهيل الدعاة وخطباء المساجد والقائمين على الشأن الديني بصفة عامة "للالتزام بالضوابط العلمية والمنهجية وأصول الخطاب في عملهم، بحيث يتم تدريبهم دوريا على استيعاب معطيات الفكر الديني الوسطي الرشيد، والبعد عن التطرف والغلو والتعصب، وتوسيع مداركهم بالحوار مع علماء الاجتماع والاقتصاد والأدب والفن والثقافة لهضم محصلة التطور الحضاري وتنقية خطابهم من الخرافات والأفكار الخطرة على أمن المجتمع وسلامته، وحثهم على مواصلة البحث العلمي في التاريخ الحضاري للإسلام، وطرح مسابقات بينهم في القراءة المعمقة لأهم كتب المجددين في الفكر الديني لإشاعة روح التنافس الإيجابي في استيعاب أفكارهم وتشجيعهم على الكتابة فيها بنشر الأبحاث والمحاضرات الفائزة والترويج لتداولها بين كل الدعاة والوعاظ"(5).

 

كما أن تجديد الخطاب الديني يحتاج أيضا إلى "مبادرات مؤسسية ليس على مستوى الدولة الواحدة فقط، بل على مستوى العالم العربي والإسلامي ككل، حيث يفترض أن توضع خطط متكاملة وفق أجندات زمنية مناسبة وباحثين أكفاء ذوي علم حقيقي لتحريك المياه الراكدة في مسألة الخطاب الديني منذ عقود وقرون مضت، وبما يضمن استئصالا فعليا لجذور التطرف وفق منهجيات موضوعية متفق عليها بين الفقهاء وعلماء الدين الحقيقيين، وبما يحقق هدف استعادة زمام المبادرة من التيارات الدينية المتطرفة التي لا تزال تحتكر الحديث باسم الدين في مناطق ودول شتى"(6).

 

وللوصول بالخطاب الديني الإسلامي إلى المستوى الذي يواكب مقتضيات العصر لابد من اتخاذ بعض الإجراءات المهمة أيضا منها(7):

- تجديد مناهج الدراسات الإسلامية، بما يكفل تكوين عقلية مستنيرة ومعتدلة تميز بين الثابت والمتغير، والكليات والجزئيات، والأصول والفروع، وتراعي الأولويات.

 

- تدريس مادة الثقافة الإسلامية في مراحل التعليم العام، والتي تعنى بإبراز جوانب الوسطية الإسلامية القائمة على الخير والرحمة والعدل والمساواة وتطبيقاتها في التشريع الإسلامي.

 

- الوعي بأهمية الدور الديني في حياة الأمم والشعوب، وعدم الاستهتار بهذا الجانب على حساب الجوانب الأخرى، وعدم تصدي غير المؤهلين للخطاب الإسلامي.

 

- ألا يقوم التجديد على الهوى والتشهي، وإنما يكون الدافع إليه تحقيق المصالح المعتبرة التي تعود على الأمة بالخير في أمر الدنيا والآخرة.

 

- عدم استدعاء الخطابات الإسلامية الجاهزة، وكذا الفتوى من تراث العصور الماضية من دون النظرة التحليلية للواقع المعاصر، لأن ذلك يضر أكثر مما يفيد لعدم مواكبته لحاجات العصر وقضاياه.

 

- على الدعاة والخطباء ضرورة اعتماد الأدلة والبراهين العقلية من واقع الحياة وتجاربها، بجانب الأدلة النقلية في خطابهم الديني، فإن ذلك أدعى للإقناع والقبول.

 

- ضرورة تجنب مخاطبة الناس بما يخالف السنن الإلهية في الكون والمجتمع من الخرافات والترهات التي تملأ بعض الكتب الإسلامية وخاصة كتب الوعظ والإرشاد.

 

- ضرورة تجنب الانتصارات المذهبية، والجمود على الفتاوى الموروثة، التي تغير زمانها، في الخطاب الديني، إذ إن ذلك يؤدي إلى تفتيت وحدة المسلمين، وعدم تطوير وتجديد الفتاوى التي تناسب مستجدات العصر.

 

وبالإضافة إلى ما سبق لابد من نشر العلم بين الناس، وإظهار الشرائع التي خفيت في المجالات الشرعية المختلفة بفعل الجهل الذي خيم على كثير من مجتمعات المسلمين، أو بفعل التأويل الفاسد الذي أضاع كثيرا من دلالات النصوص، ويكون التجديد في هذه الحالة هو إظهار ما طمس وإحياء ما اندرس، وبالإضافة إلى هذا كله لابد من إزالة كل ما علق بالدين مما ليس منه من أخطاء، أو بدع، أو تصورات وقعت في سلوك بعض الناس، أو أقوالهم، أو عقائدهم، ورد الأمر إلى ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فيكون التجديد في هذه الحالة هو إزالة ما زيد في الشريعة أو أضيف إليها.

 

إن حاجة الأمة إلى تجديد الخطاب الديني ومراجعة أوضاعها لا يمكن أن ينكرها عاقل، وذلك بغرض تلمس الخلل الذي أدى بها إلى ما وصلت إليه من الضعف والهوان، والحق أحق أن يتبع على أي لسان ظهر، وبأي قلم كتب، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ولا يمكن لمتابع واقع الأمة الإسلامية أن يغفل عن الفجوة الكبيرة بين أحكام الشرع وممارسات المنتسبين إليه، وذلك مما يوجب الدعوة لاستنهاض همم العلماء لردم هذه الفجوة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والنيل من معينها الصافي، مع الاستئناس بتراثنا الضخم، دون الجمود على بعض الأقوال التي ربما لا تنطبق على واقعنا، ولا تحقق مقاصد الشارع من شرعية الأحكام، نظرا لاختلاف الزمان، وتغير كثير من صفات الوقائع مع بقاء أسمائها، مما يؤدي إلى خلوها من مناط الحكم وعلته.

 

بقي أن نشير في ختام هذا المقال إلى أن تجديد الخطاب الديني له "ضوابط تحكمه، تنبع من طبيعة الغايات التي يسعى إليها، ومادام التجديد في هذا السياق يتناول الخطاب الديني عموما وفي جميع حقوله، فإن الغاية منه هي تجويد هذا الخطاب شكلا ومضمونا، والارتقاء به، وإكسابه مقومات التكيف مع العصر، من أجل أن يكون أداة لتبليغ الرسالة الإسلامية، ووسيلة لبناء الإنسان الذي يعرف دينه، وينفتح على عصره، ويندمج في محيطه، ويحترم من يخالفه في المعتقد والرأي والموقف وأسلوب الحياة، ويتحاور معه، ولا ينأى بنفسه عنه، أو يتخذ منه عدوا له لمجرد أنه يختلف معه في أمور كثيرة، ومن أجل الوصول إلى هذه النتائج مجتمعة لابد من مراعاة الاختصاص، والالتزام بالموضوعية والتجرد من الأهواء للوصول إلى الحقيقة، والتمسك بالأصول والثوابت، وعدم الاعتماد على نص واحد في الحكم وإغفال بقية النصوص الدينية التي وردت فيه"(8).

 

خلاصة القول: لقد أضحت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني الإسلامي ضرورة ملحة لتطوير ومواكبة قضايا العصر، ومفتاحا لتجديد الوعي وفهم الإسلام من ينابيعه الصافية، بحيث يفهم فهما سليما خالصا من الشوائب، بعيدا عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، من خلال رجال يحسنون عرض الفكر الإسلامي ويصوغونه صياغة جيدة، تنقي الفكر من الخرافة، والعقيدة من الشرك، والعبادة من البدع والأهواء، والأخلاق من التحلل والانهيار، رجال يتبنون تجديد مشروع يجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، ويدعو إلى الانفتاح على العالم دون الذوبان فيه، منهجهم الثبات على الأهداف، والمرونة في الوسائل، والتجديد في فهم الأصول، والتيسير في الفروع.

 

____

1- إبراهيم صلاح السيد الهدهد، تجديد الخطاب الديني ضرورة كل عصر، مجلة منار الإسلام، العدد 495، مارس 2016م، ص:20.

2- نفسه، ص:20.

3- محمد بن علي المحمود، تجديد الخطاب الديني.. الإسلام معاصرا، جريدة الرياض السعودية، العدد 14724، بتاريخ: 16 أكتوبر 2008م، 16 شوال 1429هـ.

4- محمد بن شاكر الشريف، تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف، سلسلة مجلة البيان، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، الطبعة الأولى، 2004م، ص:33.

5- أحمد البحيري، وثيقة تجديد الخطاب الديني ورفض التكفير وشعارات الخلافة الكاذبة، موقع جريدة المصري اليوم، بتاريخ: 22/06/2016م، الرابط:

http://www.almasryalyoum.com/news/details/968736

6- سالم الكتبي، جدل تجديد الخطاب الديني، موقع إيلاف، بتاريخ: 7 أغسطس 2015م.

7- جمال نصار، الخطاب الديني بين التجديد والتبديد، مركز الجزيرة للدراسات، بتاريخ: 20 مايو 2015م، الرابط:

http://studies.aljazeera.net/ar/issues/2015/05/2015520630190448.html#a7

8- انظر: محمد عمارة، الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأميركاني، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1424هـ، ص:7-8.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات