جماهيرية الدعاة

حمزة بن فايع آل فتحي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

حينما ترى الجموعَ الزاخرة، تعاين صحة ما في ضمائرهم من الإيمان والعلم والنصح للخلق؛ هم الأول الكترونيا والأول ميدانيا وخصومهم لم يعتبروا، أو يراجعوا، (وَجَحَدُوا بِهَا)[النمل:14]، والسبب صحة المنهج، وصدق...

العلماء والدعاة ورثة الأنبياء، حازوا الفضل بصحة القصد وجمال الرسالة والإشفاق على الأنام، (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف: 6].

 

وعجبتُ من جمع الدعاة وخَطْبِهم ونداهمُ كمدائنٍ وبحارِ اكتظاظ المساجد علامة خيرية الإسلام، وقبول الدعاة، وسمو مقاصد الناس، القبول من الله، وفقهم ومنحهم، لم يشتروا ذلك بأموال ولا جاه، قال النووي -رحمه الله- في حديث "يوضع له القبول في الأرض"، أي: الحب في قلوب الناس، ورضاهم عنه؛ فتميل إليه القلوب، وترضى عنه. وقد جاء في رواية "فتوضع له المحبة"؛ فقراء في غالبهم ولكنهم أرباب جاه العلم، ومجد الفقه، وشرف الوعظ والتأثير، (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: 11].

 

الحرمان الشريفان مظهر للجماهيرية والاحتشاد والجاذبية، وأن الإسلام دين عالمي يخترق كل الأجناس والأعراق، (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إبراهيم: 37]؛ بداية هذه الجموع حب واستعظام، ثم تلذذ واستمتاع، ويعقبها انتفاع وعمل وتشرب تلك التوجيهات، (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)[الأحقاف: 29].

 

حينما ترى الجموعَ الزاخرة، تعاين صحة ما في ضمائرهم من الإيمان والعلم والنصح للخلق؛ هم الأول الكترونيا والأول ميدانيا وخصومهم لم يعتبروا، أو يراجعوا، (وَجَحَدُوا بِهَا)[النمل:14]، والسبب صحة المنهج، وصدق العطاء، وتَحملُ المسؤولية، وفتح الله وعونه، (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)[محمد: 21].

 

منذ فجر التاريخ وحشود الإسلام في تزايد، والأمم تستشرف له ولتعاليمه وجمالياته، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)[الجن: 19]؛ أي: الازدحام عليه عجبا ورغبة في أحد الأقوال في حجة الوداع حضروا لرسول الله أكثر من مائة ألف، كلهمُ يريد الائتمام به والتأسي.

 

عُرف علماء الإسلام بالحشود الزاخرة، والجموع المزدحمة وحُكيت في كتب السير؛ وقع ذلك للأئمة الأربعة والبخاري وابن المبارك وابن الجوزي وابن تيمية وخلائق لا يُحصون؛ فقالت جارية هارون الرشيد حينما احتشدت بغداد لابن المبارك -رحمه الله- وثارت الغبرة: "هذا الملك لا ملكَ هارون، الذي يسوق الناس بعصاه والشُّرط".

 

مثل هذه الجماهير التي رأيناها في المدن، تعطي رسالة الإسلام وحاجة الناس إلى الدين وأنه نبض الحياة. جماهيرية تتناغم مع نهج هذه البلاد ودستورها، وأن قدرها الإسلام وفِي الحديث، "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان"(رواه مالك وأحمد).

 

وجزيرةُ الإسلام مأرِزُنا الذي نأوي إليه بعزةٍ ورجالِ توالت علينا محاضرات المشايخ بن مسفر والمغامسي والقرني؛ فزاد الانبهار، وتأكد الانتصار لا يستطيع دعاة الليبرالية دفع هذا القبول أو الاعتراف به وبفشل مشروعهم، سوى السخرية بالخطاب الوعظي، أو تهمة المتاجرة بالدين؛ كأنهم هم منزهون، لا يتاجرون بليبراليتهم المزعومة والمقصورة على الخلاعة المعروفة؛ الميدان حكَم وكاشف، والتأليف أو التغريد مبين وعازف، وللناس أعين ومعارف، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[سبأ: 24].

 

ما دامت هذه المحاضرات بهذه المنهجية وتلكم الجماهيرية فكل المشاريع المناوئة في تباب وبوار؛ هذه الجموع تورث مرتاديها العظة والانضباط؛ فيشيع الخير وتقل الجرائم، ويبنوا العنصر الصالح؛ هذه الجماهيرية عرقلت المشروع التغريبي زمن الصحوة الإسلامية، وأعلنت وفاة كل فكرة مضادة للبلد وهويته، (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ)[الأعراف: 119].

 

يضيق بها الحساد، ويكرهها الخصوم، ويضج منها التغريبيون، لأنها الرد العملي على زيفهم ومكرهم، (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ)[إبراهيم: 46]؛ كما هي فتنة للدعاة؛ فهي فتنة للمناوئين، تهد شملهم وتشل حركتهم وتجعلهم شذر مذر، معذبين وفي عناء أليم، يدفع الداعية فتنتها بالمجاهدة والتزكية، ويدفعها الخصم بالضيق والمكر، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)[فاطر: 43].

 

الداعية الجماهيري يستثمر ذلك في التربية والاصطفاء، والوعي والتوعية، وحفظ الدين والهوية، ومكارم الأخلاق؛ لا يجوز الركون إليها أو الاغترار بها، وترك الإصلاح والتزكية والمجاهدة، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء، وهي تشتاق دائماً للجديد والمفيد؛ فعلينا تجديد الخطاب الدعوي والارتقاء به عصريا وواقعيا.

 

ليست الجماهيرية علامة الصحة بإطلاق ولكنها مؤشر قبول ونجاح تتطلب المجاهدة والتهذيب، والبعد عن مظاهر الغرور والعجب، ثمة علماء لم يحظوا بذلك، ولا يعني ضعفهم أو قلة إخلاصهم، ولكنه فضل من الله واصطفاء، وفضل الله ليس له حدودُ به يعلو المحقَّر والشريدُ.

 

وربنا الموفق والمعين والهادي إلى سواء السبيل!!

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات