أمراض على طريق الدعوة (32): نكوص الدعاة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ثم تجده بعد ذلك منعما بمتع الدنيا الكثيرة؛ مستمتعا بها لأقصى درجة؛ فيسكن القصور الشامخة، ويركب السيارات الفارهة، ويلبس الثياب الفاخرة، ويقتني الثروات الطائلة، وعندها يحق عليه القول، وتجري عليه السنن التي لا تعرف محاباة ولا جورا، ويطبق عليه قانون السقوط بكل...

هناك خيط رفيع يفصل بين مكارم الأخلاق ومنكرات الأهواء، بين الخلق القويم، والسلوك الذميم، فالخلق القويم دائما ما يمثل وسطية الإسلام والفطرة السوية، واتساق المرء بين الإفراط والتفريط في الأقوال والأفعال والمشاعر والمواقف يقوده دائما إلى التقدم والاستقامة والثبات والنجاح.

 

وأكثر الناس حاجة إلى هذا الاتساق الأخلاقي والسلوكي والنفسي؛ هم العاملون في ميدان الدعوة، والمبلغون الناس رسالة رب العالمين، والقائمون في الأمة مقام خاتم المرسلين، ذلك لأن الدعاة إلى دين الله -عز وجل- أكثر الناس اتصالا بالناس، وأكثرهم تأثيرا فيهم، وتأثراً بهم، فهم القدوة والأسوة، والمربون والمعلمون، والمتحدثون باسم الدين أمام العالمين.

 

وهذا هو قدر الدعاة والمصلحين في الأمة مقام عظيم يحتاج إلى طراز خاص، ونوعية فريدة من الرجال أولى العزم.

 

فالداعية لا يقيل ولا يستقيل، لا يأخذ إجازة من العمل مع الله -تعالى-، ولا يقدم اعتذاراً عن خدمة دين الله، ولا يعرف هدنة مع الشيطان، فلا يجوز لهم ما يجوز لغيرهم، ولا يترخص لهم كما يترخص لغيرهم، فهم مأمورون أبداً بالعزيمة لا بالرخصة، وبالثبات لا بالتراجع أو النكوص.

 

وإن من الظواهر الخطيرة التي أخذ سوقها في الرواج في الآونة الأخيرة: ظاهرة نكوص الدعاة.

 

فمنذ أن بزغ فجر الهدى، واستقر الدين في قلوب الموحدين، ولامس الإيمان شغاف القلوب، واطمأن في سويدائها، لم تزل هناك فرادى من الحيارى والتائهين الذين بدَّلوا وغيَّروا وضلوا بعد أن هداهم الله -جل وعلا-.

 

وقد تنامى هذا المعدل في زماننا هذا؛ حتى خُيل لأعداء الأمة أن الدعوة على شفا الانهيار، وخُيل لكثير من المسلمين أن النهاية قد اقتربت وآن ظهور المهدي المنتظر، فحين تسمع تفاصيل القصص المزعجة جراء النكوص والانتكاسة -نسأل الله الثبات- تصيب النفس والقلب غصة تكاد تخرج معها الروح، فهذا الداء حقيقة هو من الأدواء القاتلة، فالموت الحقيقي هو موت العزائم والهمم، فالداعية الذي يظل ثابتا على طريق الدعوة، باذلا جهده ووقته، لخدمة الدين والمسلمين والنصح والإرشاد، لا يموت أبدا، ذلك لأنه موته البدني، لا يقطع عمله، ولا يوقف دعوته، فثواب وأجر دعوته يجري عليه، فالأفكار لا تموت، والصدقة الجارية تنفع صاحبها بعد موته: "وعلم ينتفع به" إلى ما شاء الله، أما من قتل النكوص همته، واغتالت الهزيمة النفسية عزيمته، فهو حي ميت، لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى!

 

لذلك كان لابد من الاقتراب من هذه الدائرة الخطيرة، والتعرف على أسبابها الوبيلة، حتى لا نقع في هذا المصير الأليم، بعد تعب وبذل السنين، واجب شرعي، وأمر ضروري، وقرار حتمي.

 

أولا: النكوص لغة واصطلاحاً:

النكوص في اللغة من نكص، أي رجع عما كان عليه من الخير والحق. ولا يقال ذلك إلا في الرجوع عن الخير خاصة.

وهو على معنيين:

الأول: نكص على عقبيْه، أي رجع عمَّا كان عليه من خير، قال تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ) [الأنفال: 48]، وقوله تعالى: (فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ) [المؤمنون: 66].

الثاني: نكص عن الأمر، أي أحجَم وامتنع، ومنها نكَص عن تحمُّل المسؤوليَّة.

 

أما النكوص في الاصطلاح: هو الانسحاب غير المقبول شرعاً وعقلاً عن طريق الخير وفعل الصالحات ونفع الناس، والانقطاع والتراجع والاعتزال إما رغبة أو رهبة لأمر من أمور الدنيا.

 

ثانياً: أنواع النكوص:

النكوص ليس معناه الانقطاع والرجوع في العمل فقط، بل يكون في الايمان بالفكرة أو الاقتناع بأصل الطريق، لذلك فالنكوص نوعان:

 

النكوص الفكري: وهو يصيب فئة من الدعاة الذين انبهروا أمام قوة الغرب، وفتنتهم زخارف تقدمه الحضاري والعلمي، أو أصاب قلوبهم اليأس من النجاح بسبب كثرة الإخفاقات، وتوالي النكبات على الأمة، حيث تبدأ معتقداتهم بالاهتزاز أمام صراعات الأفكار التحررية، وهذا له صور عدة: أشنعها من ارتد عن دين الله -والعياذ بالله-، وأخطرها من سلك العلمنة، وتحييد الدين بعيدًا عن النشاط البشري والحياتي، ومنهم من ركب التنوير، وسار يهذي به بعيدًا عن الحقائق، والفطرة الصحيحة، وبات مجتهداً في وقائع الأمة التي لو كانت في عهد عمر لجمع لها أهل بدر.

 

وربما يورده للانحراف الكلي عن الدين القويم كما حدث في البعض، وهذا الشكل من الانتكاسة أشد ضررًا من التالي حيث يكون هذا قاضيًا على الخير والهدى في قلب الفرد، زاجًا به في متاهات ليس لها نهاية.

 

النكوص السلوكي: وهذا ما يكون عادة ناشئ من هبوط الإيمان، أو خلل في التربية الذاتية والإيمانية، وربما كان له أسباب خارجية، وقد تظهر صوره في الفتور الدعوي، أو كون الداعية يصبح لا هم له ولا نشاط؛ فينكفأ على نفسه وخاصته، وربما ذهبت آثار السمت والاستقامة ليساير عامة الناس ودهمائهم بعيدًا عن المسؤولية والتبعة.

 

ثالثاً: أسباب النكوص:

انتكاسة الداعية وخروجه من الصف العامل لدين الله -عز وجل-، سواء أكان خروجه مصحوباً بضجيج وصخب التعمية عن هذا النكوص، أو كان هادئاً لم يشعر به أحد سوى من يفتقده.

 

في الحالتين النكوص يكون له أسباب كثيرة ومتنوعة، بعضها داخلي والآخر خارجي، وهذا ما سنحاول عرضه بشيء من التفصيل.

 

أولاً: خلخلة الإيمان:

الإيمان هو الوقود والطاقة التي تمد قلب الداعية بمحفزات العمل مع الله، والسير في درب الدعوة الوعر المليء بالفتن والتحديات، ولابد لمن أراد مواصلة السير أن يحرص على دوام شحن بطاريته الإيمانية بأوراد الطاعات والعبادات، وصنوف الأعمال المزكيات.

وعندما تضعف بطارية الإيمان ويتخلخل منسوبها في القلب والنفس تبدأ عوارض النكوص في الظهور، ومع ازدياد الضعف تزداد العوارض في التنامي والظهور حتى تصبح واقعاً ملموساً، وإلفاً مألوفاً عند الداعية، بعدها يبدأ السقوط والاستعداد للخروج.

 

والمصيبة تبدأ عادة مع شعور البعض بعدم الاحتياج لأمثال تلك المزكيات والشحون الإيمانية بدعوى طول الممارسة، وقدم العمل والخبرة بالطريق والحصانة من الآفات التي يتعرض لها المبتدئين.

 

وهنا يبدأ في مناقشة ذاته، ومحاورتها بعيدًا عن المنهجية وأهل العلم، حتى يبدأ بالتنازلات، والتقاعس، والأخذ بالمفضول ليسقط، ويستسلم لقيد من قيود الأرض، ولذلك لما ذهب أبو سفيان إلى هرقل وسأله، قال: "هل يرتد أحد من أصحابه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا تفارقه أبداً".

 

وانظروا في أحداث الردة لما مات الرسول -صلى الله عليه وسلم- ارتدت فئام من العرب وقبائل بأكملها، بل لم يبق على الإسلام إلا عدد محدود بالنسبة إلى المناطق التي دخلها الإسلام في ذلك الوقت، لكن من الذي ثبت على الإسلام، هل ارتد أحد من أهل بدر؟ هل ارتد أحد من الذين بايعوا تحت الشجرة؟ هل ارتد أحد من المهاجرين والأنصار من الذين عاشوا الجهاد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟

 

عامة الذين ارتدوا هم من الذين قال الله -سبحانه وتعالى- فيهم: )قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) [الحجرات: 14] كلما كان المرء أقوى إيماناً وأقوى صلة بالله -سبحانه وتعالى- كان أكثر ثباتاً.

 

ثانياً: التوسع في المباحات:

من أكثر أسباب النكوص شيوعاً بين الناكصين: التوسع في المباحات واللذات الدنيوية، والانغماس في الدنيا وتبعاتها، والانهماك في المباحات، واللهو والسفاسف، والغرق في المرابحة والتجارة، والغرق الشديد في الرفاهية، وعادة ذلك في المسكن والمركب والملبس والمأكل، وكل هذا مندرج تحت "إظهار النعمة المكتسبة" أو "عدم ترك الأبناء عالة يتكففون الناس".

 

ولقد قال تعالى في ذم اليهود: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون) [البقرة: 96]، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر"، وقوله صلى الله عليه وسلم أمته كما روى البخاري ومسلم: "فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم".

 

ودرجات الورع أربع:

الدرجة الأولى: درجة العدول عن كل ما تقتضي الشرع تحريمه.

الدرجة الثانية: الورع عن كل شبهة لا يجب اجتنابها، ولكن يُستحب، ومن هذا قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما يريبك".

الدرجة الثالثة: الورع عن بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام.

الدرجة الرابعة: الورع عن كل ما ليس لله -تعالى-، وهو ورع الصديقين.

والتحقيق فيه: أن الورع له أول وغاية، وبينهما درجات في الاحتياط، فكلما كان الإنسان أشد تشديدًا كان أسرع جوازًا على الصراط، وأخف ظهرًا.

وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع، كما تتفاوت دركات النار في حق الظلمة بحسب درجات الحرام، فإن شئت فزد في الاحتياط، وإن شئت فترخص، فلنفسك تحتاط وعليها تترخص.

 

ثالثاً: الاستهانة بالمعاصي:

فالله -سبحانه وتعالى- حكى عن طائفة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) [آل عمران: 155]، هؤلاء فروا من الزحف، والفرار من الزحف ليس من الكبائر فحسب بل هو من السبع الموبقات، هؤلاء بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين فروا من الزحف في غزوة أحد، فما السبب؟

 

قال تعالى: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) [آل عمران: 155]، فبسبب بعض ذنوبهم وبعض سيئاتهم استزلهم الشيطان حتى أوقعهم في تلك الكبيرة.

 

وماذا عسى أن تكون سيئات أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ في غزوة أحد قبل أن يعز الإسلام ما كان يدخل في الإسلام إلا الصادقون، ولا شك أن السابقين في الدخول للإسلام ليسوا مثل غيرهم، ومع ذلك لما فعلوا بعض السيئات تسلط عليهم الشيطان وأوقعهم في الفرار من الزحف، ولكن الله -سبحانه وتعالى- عفا عنهم كما في آخر الآية، والمرء مهما كان علمه أو وظيفته عندما يتهاون بالمعصية الصغيرة تفعلها مرة أخرى، فيزول استقباح المعصية من نفسه، فيتجرأ على ما هو أكبر منها، حتى يتجرأ على الكبائر، ويتجرأ على الفواحش، ثم يعرض بعد ذلك وينكص على عقبيه ويسير في طريق الغافلين.

 

ولذلك يحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإن مثل ما تحقرون من أعمالكم كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وهذا بعود حتى أشعلوا نارهم، وأنضجوا عشاءهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه" يضرب لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً بليغاً، مثل قوم جاؤوا في واد وأرادوا أن ينضجوا عشاءهم، فما وجدوا حطباً، فجاء كل واحد بعود، ووضعوا هذه الأعواد فأشعلوا تلك النار، فتخيل تلك النار التي ستنتج نتيجة هذه الأعواد.

 

ويخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين عائشة فيقول: "يا عائشة! إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً".

 

رابعاً: عدم الانضباط:

من عوامل النجاح والاستمرارية على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات بل والدول والأمم: عامل الانضباط، والذي يعد أحد مقومات البناء والثبات في حياة الدعاة، فهنالك بعض الأشخاص الذين يلتحقون في صفوف الدعوة في ظرف من الظروف وبسبب من الأسباب ثم يتبين انهم غير قادرين على التكيف وفق سياسة الجماعية والانضباط والترابط ووحدة العمل، فهؤلاء من لا يطيق القيود التنظيمية فعندما يشعر بوطأتها يعمل على التلفت والتخلص منها بشتى الوسائل والمبررات، ومن هؤلاء من يرفض (الذوبان) في البنية الجماعية، ويحرص على أن يحافظ على شخصيته، وعندما يشعر بما يعرض شخصيته للذوبان، ورأيه لعدم القبول يولي الأدبار خلف ستار كثيف من المبررات والمعاذير.

 

وقد رأينا عاقبة عدم الانضباط يوم أحد عندما خالف الرماة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشدد، لذلك قال الله -تعالى- في شأن هذه المخالفة: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ) [آل عمران: 152].

 

ومن أبرز تداعيات عدم الانضباط: الوقوع في الفوضوية، والتشتت في إدارة الذات والوقت والتخطيط الجاد للمستقبل، وقد بين الله -تعالى- في كثير من آي القرآن الكريم بعضًا من مصير من كان هذا حاله في الدنيا، فقال سبحانه: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99 - 100].

 

ويحذر الله من التسويف والتأجيل في الصالحات، ويؤكد المولى -تبارك وتعالى- على المبادرة والإسراع فيها، فقال الله: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّـهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) [المنافقون: 10 - 11].

ويقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موته".

 

وهناك الكثير من النصوص الشرعية في شأن الترغيب في شأن الإدارة الصحيحة للذات، ومحاولة برمجتها على المبادرة والجادة في الأعمال، وكذلك الترهيب من التقاعس، والفوضى وإهمال معالي الأمور، وإن من ما يجره هذا الداء الضعف الذاتي والذي يولد الضعف الإنتاجي، ومن ثم ينتج الضعف في الإنتاج، والعمل الجماعي، والخلل في الصف، إذا لا يستطيع تحمل التكاليف والبذل سائر اليوم من كانت الهزلية مطيته، والفوضى سمته.

خامساً: الخوف:

الخوف عاطفة بشرية لا يتجرد منها أحد، فالمرء مفطور على الفرار مما يخافه ويخشاه، لذلك فهو من جملة العواطف والمشاعر التي لا تحمد بإطلاق أو تذم بإطلاق، فمنها ما يدخل في باب العبادات مثل الخوف من الله -عز وجل- وهو من أرقى مراتب العبودية، ومنها ما فطري جبلي مثل الخوف من الحيوانات الضارية والنار، ومنها ما خوف مرضي مثل الخوف مما لا يخوف عادة مثل الخوف من بعض الحشرات أو الفئران أو الأماكن العالية أو الضيقة، وهو ما يعرف بالفوبيا أو العقدة، ومنها الخوف المذموم شرعاً وهو الخوف على الرزق والنفس.

 

وأثر هذا الخوف المذموم بليغ وكبير في النفس البشرية حيث يؤدى إلى إحباطها وزع الوهن فيها، والشيطان يدخل من هذا الباب على المؤمنين والعاملين والدعاة يخوفهم: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 157]، والذين ينكصون على طريق الدعوة بهذا السبب كثيرون، ولكن القليل الذين يعترفون بذلك ويقرون.

 

والقرآن الكريم حفل بكثير من الآيات التي تشير تلميحاً وتصريحاً إلى هذا الداء العضال الذي يمكن أن يجرد المؤمنين من إيمانهم ويلقى بهم في هاوية من الضياع ليس لها قرار، قال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [الفتح: 11]، وقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) [العنكبوت: 10 - 11]، وقال: (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 168].

 

ومن آثار الخوف المذموم: الجزع وضعف اليقين، وقلة الصبر في مواجهة البلاء، والخور أمام الرزايا والمحن العامة والخاصة، وهذا قد يكون من باب التمحيص، وتصفية الصف، ولإبراز الوزن الحقيقي للجماعة الإسلامية، قال الحق -جل وعلا-: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 140 -141]، يقول سيد قطب عند هذه الآية: "إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو التبرم به والجموح! عندئذ يتميز الصف، ويتكشف عن مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم، ويزول عن الصف ذلك الدخل، وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده وهم مختلطون مبهمون".

سادساً: إهمال القلوب:

القلب هو معدن الثبات وأصل الصلاح، والرعاية لهذا العضو الخطير في الجسم من أولى أولويات المسلم العادي فضلاً عن الدعاة والخطباء والمصلحين، لذلك فالقلب في حاجة ماسة لدوام الاعتناء والمراقبة والتفتيش اليومي عن أحواله وتقلباته، ومتى أهمل الداعية مراقبة أحوال قلبه، فإنه يكون شفا جرف هار سينهار به عن قريب؛ فإن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وعبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات.

 

فالعناية بالخشية والرجاء والمحبة وكل أعمال القلوب مطلب، والبعد عن الكبر والحب التصدر وطلب الرياسة، والعشق والشهوات المضلة، وسائر أمراض القلوب مهم، بل ومن ضرورات الثبات، وزيادة الإيمان، ومعرفة الواحد الديان، يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "صلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" أي إذا صلحت بالمعارف ومحاسن الأحوال والأعمال صلح الجسد كله بالطاعة والإذعان، وإذا فسدت بالجهالات ومساوئ الأحوال والأعمال فسد الجسد كله بالفسوق والعصيان".

 

سابعاً: الغرور وحب الظهور:

بعض الدعاة قد يرى نفسه أفضل من أقرانه، وأولى منهم بالتبجيل والإكرام والمنزلة؛ لذلك نجده دائما يبحث عن صدر المجالس عن المذابح عن مواضع الشهرة، والنقاط المضيئة، يبحث عن اللقطة المناسبة التي يبرز فيها ملكاته وإمكاناته الدعوية أو الخطابية، فعلى العاملين في الحقل الإسلامي والدعاة إلى الله أن يدركوا أن دعوة الإسلام لا يصلح لها، ويثبت عليها من كان مختالاً فخوراً أو متكبراً مغروراً، فالداعية بحاجة لئن يجلس مع الناس، ويتواضع للناس، ويخدم الناس، ويخفض جناحه للناس، ويتقبل النصح، والنقد من الناس هكذا كان الداعية الأول -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا كان الدعاة الأولين ممن تربوا في مدرسة النبوة -رضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين-؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأكل متكئاً يقول: "آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد"، وعن جرير -رضي الله عنه- أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- من بين يديه فاستقبلته رعدة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد"، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يأنف ولا يستكبر أن يجلس إلى المسكين والضعيف أو يذهب معه حتى يفرغ من حاجته، وتستوقفه امرأة في الطريق حتى يقضى لها حاجتها فيفعل ويشارك أهل بيته والمسلمين الأعمال كلها كأي واحد منهم.

 

وعلى هذا الخلق سار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتسلل العجب إلى نفوسهم، ولم يداخل الغرور قلوبهم، بل تواضعوا لله فرفعهم الله وأكرمهم في الدنيا والآخرة؛ فقد أخرج الدينورى عن محمد بن عمر المخزومى عن أبيه قال: "نادى عمر بن الخطاب الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكثروا صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "أيها الناس لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم فيقبضن لي القبضة من التمر والزبيب فأظل يومي وأي يوم.."، ثم نزل فقال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: "يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قمئت نفسك (يعنى عبتها وحقرتها) فقال: "ويحك يا ابن عوف، إني خلوت فحدثني نفسي فقالت: أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك؛ فأردت أن أعرفها نفسها"، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال: "رأيت عثمان -رضي الله عنه- نائماً في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين"، وأخرج ابن عساكر عن زاذان عن على -رضي الله عنه-: "أنه كان يمشى في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال، وينشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83].

 

ثامناً: تكرار الفشل:

دوام الإخفاق، وتكرر الفشل؛ من أقوى الأسباب الداعية للانهزام والاحتقار؛ حيث يتولد شعور متنامي لدى الداعية أنه لا يصلح لهذا العمل الجليل، وأن الفشل هو النتيجة الحتمية لأي عمل يشترك فيه، وهو طبعا يجهل أن للنجاح سننا لابد من رعايتها وإتباعها إن أراد المرء أن يحوز النجاح بفضل الله -عز وجل-، وعندما يتم تجاهل هذه السنن والطرق سيكون الفشل والإخفاق هو النتيجة الحتمية، والإخفاق وقتها سيكون ليس بسبب الداعية نفسه، ولكن بسبب سوء إدارته للعمل، وعدم انتهاجه سبل النجاح.

 

وهذه النظرة المتشائمة عن مستقبل العمل والدعوة دفعت الكثيرين للتخلي عن هذا الطريق، والله -عز وجل- أمرنا بإتقان العمل وإحسانه؛ فقد كتب سبحانه الإحسان على كل شيء، حتى لا نقع في هذه النظرة السوداوية عن أنفسنا.

 

عندما تجتمع هذه الأسباب بعضها أو كلها؛ فإن الداعية ينكص تدريجيا بانهزام قلبه وضعف يقينه؛ حيث تبدأ آثار هذا النكوص في الظهور عليه وعلى طريقته في الدعوة؛ متمثلة في البعد التدريجي عن المهام الدعوية، والتكاليف والمسؤوليات، ثم تغيير الآراء والأفكار، وهو ما نشهده من مراجعات كثير من الدعاة لمناهجهم وأساليبهم، لا من باب التغيير والتجديد ومواكبة التطورات الكبيرة على الساحة، ولكن من باب الانهزام والدونية والذلة، ويلي ذلك مباشرة الارتماء في أحضان الطغاة والظالمين، ومداهنتهم، والسير في ركابهم، وتبرير فسادهم واستبدادهم، من باب الخوف والرجاء من هؤلاء الجبارين الظالمين، ثم تجده بعد ذلك منعما بمتع الدنيا الكثيرة؛ مستمتعا بها لأقصى درجة، فيسكن القصور الشامخة، ويركب السيارات الفارهة، ويلبس الثياب الفاخرة، ويقتني الثروات الطائلة، وعندها يحق عليه القول، وتجري عليه السنن التي لا تعرف محاباة ولا جورا، ويطبق عليه قانون السقوط بكل بنوده، ولله (الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) [الروم: 4].

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات