فاجعة بئر معونة: الأمة بين المحن والمنح

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: السيرة النبوية

اقتباس

انتهى العام الثالث الهجري على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه بنازلة زلزلت كيان الدعوة والمجتمع الإسلامي، والدولة الجديدة في المدينة النبوية؛ ففي شوال سنة 3هـ تعرض المسلمون لهزيمة قاسية في معركة أحد، وذاقوا مرارة مخالفة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتبدلت منازلهم من فرح يوم بدر إلى انتكاسة يوم أحد، فخسائر مادية فادحة بلغت سبعين شهيداً من خيرة المهاجرين والأنصار على...

كلما كان العمل شاقاً ودقيقاً ومعقداً احتاج المرء إلى بذل جهد أكبر في الإعداد والتدريب؛ لكي يكون على مستوى ذلك العمل، ولا يوجد أعظم ولا أرقى ولا أشق ولا أنفع من العمل لدين الله -تعالى-، فهو عمل مستمر ومتنوع وفسيح، ومهمته لا تقف عند حدود أشكال معينة، بل تتعدى الشكل إلى المضمون والمحتوى، ومسؤولية العامل فيه تزداد يوماً بعد يوم، ومسؤوليته بعد انتصار فكرته أعظم منها قبل ذلك؛ من أجل ذلك وغيره شاء الله -سبحانه- أن يخضع الدعاة لصنوف من الاختبارات الشاقة، ولا تصل الجماعة المؤمنة إلى تحقيق أهدافها إلا مروراً بالابتلاء.

 

لذلك كانت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- والفئة المؤمنة المجاهدة عبارة عن سلسلة متواصلة من صنوف البلاء، ابتلاء تلو ابتلاء، ابتلاء في النفس والمال والولد والأصحاب والأحباب، ابتلاء مادي وابتلاء معنوي، وهذه صفحة من صفحات الابتلاء التي تعرضت لها الدعوة الإسلامية وطالت خير من فيها، وألقت بظلالها الحزينة على الجميع وأولهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكنها في نفس الوقت كانت زاخرة بالدروس والعبر والعظات والمنارات التي تضيء الدرب للسالكين؛ إنها صفحة فاجعة بئر معونة.

 

مدينة الدعوة في مطلع العام الرابع الهجري:

انتهى العام الثالث الهجري على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه بنازلة زلزلت كيان الدعوة والمجتمع الإسلامي والدولة الجديدة في المدينة النبوية؛ ففي شوال سنة 3هـ تعرض المسلمون لهزيمة قاسية في معركة أحد، وذاقوا مرارة مخالفة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتبدلت منازلهم من فرح يوم بدر إلى انتكاسة يوم أحد، فخسائر مادية فادحة بلغت سبعين شهيداً من خيرة المهاجرين والأنصار على رأسهم عم الحبيب حمزة -رضي الله عنه-، مع تمثيل وحشي همجي لجثامين الشهداء، وخسائر معنوية أفدح تمثلت في زلزلة النفوس، وريب القلوب، وشكوك وظنون وإدالة للكافرين على المؤمنين، والأكبر من ذلك سقوط هيبة الدولة الإسلامية الجديدة ومكانتها التي اكتسبتها بعد نصر بدر قبل ذلك بعام.

 

سقوط الهيبة كان له عوارض خطيرة تمثلت في تجرأ القبائل المحيطة بها، وتحرش الأعراب والبدو القساة الغلاظ بمسلمي المدينة، فلم يمض سوى شهران على أحد حتى تهيأت قبائل أسد للهجوم على المدينة، واستعدت غطفان أيضا للهجوم، ولكن حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحسن قيادته وتصرفه السريع أنهى هذه المؤامرات في مهدها، فتشتت قبائل أسد، وانشغلت قبائل غطفان بنفسها عن مهاجمة المدينة، ولكن لم يكن ذلك كافياً لوقف نزيف الهيبة من الدولة الجريحة.

 

ففي مطلع شهر صفر سنة 4هـ وقعت حادثة الرجيع عندما فتكت قبائل رعل وقارة وزكوان بعشرة الصحابة الكرام أرسلهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مهمة دعوية فيما عُرِف في السيرة النبوية بسرية الرجيع، ثم لم تمض أيام حتى وقعت فاجعة بِئْرِ مَعُونَة، التي تُعد من أشد الفواجع التي مرت بالمسلمين، فقد استُشهِدَ فيها سبعون صحابيًّا من قراء القرآن الكريم، حيث قُتِلوا غدراً وخيانة.

 

تفاصيل الفاجعة:

فاجعة بئر معونة رواها أصحاب السير والسنن والتاريخ بحيث أصبحت من الحوادث شبه المتواترة من كثرتها وشيوعها في المصنفات التاريخية والحديثية.

 

وقد بدأت عندما وفد على المدينة أحد رجالات نجد المعدودين، وهو أبو البراء عامر بن مالك الملقب بملاعب الأسنة على المدينة، واجتمع مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسمع له القرآن وبنود الدعوة، فلم يسلم في حينه، وفي نفس الوقت لم يبعد، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا محمد! لو بعثتَ رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أخشى عليهم أهل نجد" قال أبو البراء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنذر بن عمرو (أحد بنى ساعدة، الملقب: المعنق ليموت) في سبعين من خيار المسلمين، منهم: الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو أم سليم، وهو خال أنس بن مالك، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر الصديق وغيرهم، فنهضوا فنزلوا بئر معونة، وهى بين أرض بنى عامر وحرة بنى سليم، ثم بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عدو الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه، ثم عدا عليه فقتله، ثم استنهض إلى قتال الباقين بنى عامر، فأبوا أن يجيبوه؛ لأن أبا براء أجارهم، فاستغاث عليهم بنى سليم، فنهضت معه عصية ورعل وذكوان، وهم قبائل من بنى سليم، فأحاطوا بهم، فقاتلوا، فقُتِلوا كلهم -رضوان الله عليهم- إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار، فإنه ترك في القتلى وفيه رمق، فرُفِع وبه جراح من القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق -رضوان الله عليه-".

 

وكان عمرو بن أمية الضَمْري والمنذر بن عقبة بن عامر في سَرْح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذرُ فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأُسر عمرو بن أمية الضَمْري، فلما أَخْبَرَ أنه من مضر جزَّ ابن الطفيل ناصيته، وأعتقه عن رقبةٍ كانت على أمه.

 

وقد وقعت كرامة لأحد الشهداء رآها عدوّ الله عامر بن الطفيل فقد جاء في صحيح البخاري: أن ابن الطفيل لما أسر عمرو بن أمية الضَّمْري أشار إلى أحد القتلى فقال: "من هذا؟" فقال له عمرو بن أمية: "هذا عامر بن فُهيرة"، فقال: "لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وضع"، وجاء في رواية أخرى أن قاتله أسلم وقال: "دعاني إلى ذلك ما رأيت من عامر بن فُهيرة".

 

وروي مسلم في صحيحه هذه الحادثة عن أنس -رضي الله عنه- قال: "جاء ناس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراماً، خال أنس، من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "إن إخوانكم قد قُتِلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا"، وكان ضمن الصحابة الذين قُتِلوا اثنان لم يشهدا هذه المؤامرة الغادرة، أحدهما: عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنه-، فأقبلا يدافعان عن إخوانهما، فقُتِل صاحب عمرو، وأفلت هو وسار راجعاً إلى المدينة المنورة، وفي طريق عودته لقي رجلين من المشركين ظنهما من بني عامر فقتلهما، وهو يري أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعرف به.

 

وصل عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنه- إلى المدينة المنورة حاملاً معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين وقرائهم، تذكر نكبتهم الكبيرة بمصيبة يوم أُحد، إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتالٍ واضح، وأولئك ذهبوا في خيانةٍ وغدر، فلما أخبر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بما فعل، قال صلى الله عليه وسلم للناس: "إن أصحابكم أصيبوا، وإنّهم قد سألوا ربّهم فقالوا: ربّنا أخبر عنّا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنّا" (رواه البخاري)، ثم قال لعمرو: "لقد قتلتَ قتيلين لأدِيَنَّهما لأدفعن ديتهما" (رواه الطبراني)، وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بجمع ديتهما، مع أنه كان بإمكانه أن يعتبر عمل عمرو بن أمية -رضي الله عنه- انتقاماً لما فُعِل بأصحابه، لكنه الوفاء النبوي للعهود، الذي لم يُعرف له مثيل في التاريخ.

 

قد حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- حزناً شديداً، وتأثر لمقتل أصحابه -رضي الله عنهم- في بئر معونة تأثراً كبيراً، حتى قال أنس -رضي الله عنه-: "فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجَدَ (حزن) على شيء ما وجد عليهم" (رواه البخاري)، فقد كان عددهم يساوي عدد شهداء أُحُد، إضافة إلى أنهم من القرَّاء العبَّاد، وقد قُتِلوا غدراً وخيانة، ومن ثم ظل النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو على من قتلهم شهراً كاملاً، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "أنَّ رِعْلًا وذَكْوانَ وعُصَيَّةَ وبَني لَحْيانَ، اسْتَمَدُّوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحْياء العرب: على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان" قال أنس: "فقرأنا فيهم قرآناً، ثم إن ذلك رُفِع (نُسِخ): بَلِّغوا عنَّا قَومَنا أنا لَقينَا رَبَّنا، فرَضيَ عَنَّا وأرْضانا".

 

دروس وعبر وعظات:

الفواجع تصيب كل الناس، مؤمنهم وكافرهم، مصداقاً لقوله تعالى: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) [النساء: 104]، ولكنها تأتي على المؤمن فتزيده إيماناً وتسليماً، وتأتي على الفاجر والكافر فتزيده شكاً وتكذيباً، لذلك كانت فواجع الفئة المؤمنة فرصة قدرية لاستلهام الدروس والعبر والوقوف على الأسباب والمسببات، وإصلاح المسار، والاستيثاق من الانتصار.

 

الدرس الأول: الابتلاء قدر الدعاة والمصلحين:

حقيقة الابتلاء في طريق الدعوة والإصلاح أنه قدر واقع لا محالة، فلا تمكين دون ابتلاء، والراحة لا تنال بالراحة كما قال أهل العلم، لذلك كانت أول كلمة قالها ورقة بن نوفل -رضي الله عنه- للرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ليتني فيها جذعة حين يخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: لم يأت أحد بمثل ما أوتيت إلا عودي"، فمن ظن أنه سيسلك هذا الطريق دون ابتلاء فهو أما واهم أو مغرور أو غير صادق في طريقه.

فالابتلاء يكشف عن صدق الصادقين، وحقيقة انتسابهم للإيمان، وهذا ما تضمنته آيات من سورة آل عمران وهي تُعقَّب على ما أصاب المسلمين يوم أحد: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) [آل عمران: 140]، (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 141]، يقول الرازي في تفسيره: "واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله -تعالى- ينصر الكافرين؛ لأن نصرة الله منصب شريف، وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين، وذلك من وجوه:

الأول: أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب، فلهذا تارة يسلط المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر.

 

الثاني: أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له.

 

الثالث: الابتلاء يعمق الهوة بين المؤمنين والكافرين، فلا يعود اللقاء ممكناً؛ لأن ممارسات الكافرين في إيقاع الأذى بالمؤمنين، وحرص الكافرين على استئصال الإيمان وجنده، كل هذا يجعل المعركة دائمة مستمرة لا تنتهي إلا بخضوع الكفار لأحكام الإسلام.

 

ولو ظهر لين الكفار مع المؤمنين وسمح الكفار للمؤمنين بأن يدعو للإسلام كما يشاؤون لقال ضعاف الإيمان: إن الكفر ليس تلك الصفة البالغة في السوء.

 

ومن هنا جاء البيان الإلهي لهذا الموقف المبدأ الدائم: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [البقرة: 105]، وقال سبحانه: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) [البقرة: 217].

 

الرابع: الابتلاء يربط بين المؤمنين بعضهم ببعض برباط عقلي وعاطفي، إذ بالابتلاء تصل عقول المؤمنين إلى حقيقة البناء الإسلامي المتراص، وأن الابتلاء يعطي هذا البناء قوة وصلابة.

 

وإن الذين يبتلون من أجل إيمانهم، إنما يسهمون بأعز ما يملكون من النفس والمال والأهل والأوطان.

 

وأمَّا ما يحققه الابتلاء من الرباط العاطفي، فإن الألم أدعى إلى تحقيق المشاركة والتعاون، وقد ينسى المرء من شاركه في مناسبة سعيدة هنيئة، ولكنه لن ينسى من شاركه في الألم والمعاناة.

 

والابتلاء يقدم الدليل القوي على جدارة الدعوة؛ ومن هنا فإن كثيرين أقبلوا على الدعوة عندما رأوا ثبات أهلها واصطبارهم على تحمل الابتلاء الذي لا تثبت له الجبال الراسيات، وتحمل الابتلاء شهادة يدلى بها المُبتلى أمام الناس، ومن المعلوم أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره، ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب، كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مُرَفَّه الحال لا كُلفة عليه في هذا المذهب.

 

حين تستقر هذه الحقيقة القدرية في أذهان الدعاة والمصلحين لا يصيبهم هم ولا غم ولا حزن من كثرة الابتلاء الذي يتعرضون له أو تتعرض له عموم الأمة، إذا كان المسلم يحزن ويتألم لما يصيب الأمة الإسلامية من مصائب وابتلاءات، ومن تسلط ومؤامرات الكافرين عليها، وشماتة المنافقين بها؛ فإن هذا الحزن والألم قد أصاب نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في مواطن كثيرة، فما وَهَنَ من عزيمتهم، وما فتَّ في عضدهم، ولا أضعف من ثباتهم على دينهم، والقيام بحق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَاء المُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34].

 

الدرس الثاني: حقيقة أعداء الدين:

حادثة بئر معونة تكشفت فيها الكثير من حقائق الكفر والكافرين، فقد تجسدت في هذه الفاجعة كل معاني الغدر والخيانة والنذالة والجبن والحقد والحسد على المؤمنين، وأنهم متى قدروا على المؤمنين فتكوا بهم، فعداوتهم لا تنتهي، ومكرهم لا يأمن، وعداوتهم مبعثها الجرح الذي لا يندمل، والفتق الذي لا يرقع، عدواتهم مبعثها الدين والإيمان والعقيدة والتوحيد، وآيات سورة التوبة المسماة بالفاضحة تكشف حقيقة الكافرين والمنافقين ومدى عمق عداوتهم.

 

ففي بئر معونة وجدنا: أن أخلاق العرب وأعرافهم من حفظ الجوار وعدم خفر ذمم الكبار صارت هباءً منثوراً، على الرغم من أن حفظ الجوار كان من فضائل العرب والخلق المتأصل فيهم، فكانوا في الجاهلية يدافعون عن الجوار، ويَمنعون مَنْ حالَفهم أو استجار بهم، ممَّا يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فاحتمال الغدر مُستبعد، ولا سيما أن القراء كانوا في جوار رجل له منزلته في بني عامر.

 

ومع ذلك كله أقدم عدو الله عامر بن الطفيل على جريمته الشنعاء غير مبالٍ بما يقال عنه أو يُفعل ضده، فقلب الكافر مشحون بالعداوة والكفر تجاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يطمع في الرئاسة والزعامة، فلما رفض الرسول -صلى الله عليه وسلم-، نذر حياته كلها لمحاربة الإسلام والمسلمين حتى قتله الله -عز وجل- شر قتلة بالطاعون سنة 9 هـ.

 

فالواجب على المؤمنين عدم الثقة مطلقاً في الكافرين، والاستعداد للحظة غدرهم القادمة لا محالة، وعدم التسليم لزخرف أقوالهم ومعسول وعودهم، فالمسلم وهو يمد يده لرد مصافحة الكافرين لابد أن تكون يده الأخرى على سيفه.

 

ثالثاً: الوفاء بالعهد مهما كانت الضغوط:

الوفاء بالعهد شرف يحمله المسلم على عاتقه وهو قيمة إنسانية وأخلاقية عظمى، بها تدعم الثقة بين الأفراد، وتؤكد أواصر التعاون في المجتمع، وهو أصل الصدق وعنوان الاستقامة، الوفاء بالعهد خصلة من خصال الأوفياء الصالحين، ومنقبة من مناقب الدعاة المخلصين، وهو أدب رباني حميد، وخلق نبوي كريم، وسلوك إسلامي نبيل، الوفاء بالعهد من شعب الإيمان وخصاله الحميدة، ومن أهم واجبات الدين وخصال المتقين وخلال الراغبين في فضل رب العالمين، فمن أبرم عقداً وجب أن يحترمه، ومن أعطى عهداً وجب أن يلتزمه؛ لأنه أساس كرامة الإنسان في دنياه، وسعادته في أخراه.

 

سطّر المسلمون في تاريخهم أروع الأمثلة في الوفاء بالعهود حتى مع المشركين، بل اشتهر هذا الخلق بين جيوش المسلمين حتى أصبح سمة لهم وكان سبباً في دخول الناس إلى دين الله أفواجاً، وفتح الكثير من البلدان لما رأوا من وفائهم بعهدهم فالوفاء خلق عام، يلتزم به المسلم مع المسلمين وغيرهم، وفي أهل الذمة جاء الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا" فمن الوفاء مع غير المسلمين، حديث حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: "مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ. فلم يشترك حذيفة -رضي الله عنه- في المعركة لأنه أعطى العهد ألا يقاتلهم على الرغم من أنهم مشركون مقاتلون ومحاربون، فوفى بذلك، بل وأمر بالوفاء.

 

ومن ذلك ما جاء في صلح الحديبية، وموضع الشاهد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- اتفق مع قريش أنه من جاءه مسلماً يرده إلى قريش، وعند كتابة العهد ووقت كتابة الصلح قبل أن ينفضوا جاء أبو جندل ابن سهيل ابن عمرو وهو مفاوض قريش الذي كان يوقع العقد مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، أبو جندل كان مسلماً وقد عذِّب عذاباً شديداً وجاء وهو مصفد بالأغلال والقيود يريد أن يأتي إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- وإلى الصحابة ويكون معهم ويرجع معهم، فقال سهيل بن عمرو: يا محمد قد لجّت القضية بيننا (يعني انتهى الاتفاق، ولم يكونوا قد كتبوا، اتفقوا ولم يكتبوا) فردّه النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة في شدة من الغيظ أن أخاهم المسلم المضطهد المعذب يُرد إلى المشركين لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصرّ على أن يفي بالوعد، وفي بعض الروايات ألفاظ عجيبة في هذا الحديث منها أنه جاء أبو جندل يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إنّا لم نقض الكتاب بعد" فقال سهيل بن عمرو: فو الله إذا لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي: "فأجزه لي (يعني اترك هذا وننفذ الاتفاقية بعده) قال: ما أنا بموجزه لك، قال: "بلى فافعل"، قال: ما أنا بفاعل، فردّه النبي -صلى الله عليه وسلم-".

 

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أعطانا القدوة والأسوة الحسنة في الوفاء بالعهد مهما كانت الضغوط أو المبررات التي ممكن أن تساق أو تروج من أجل نقض هذا العهد، ما دامت شروط العهد ثابتة لم تنقض، فوجب الوفاء به مهما كانت استضعاف أو استنفار المسلمين أو رغبتهم في الانتقام والثأر، فقد رفض قتل عمرو بن أمية للرجلين على الرغم من كفرهما لوجود المانع من إباحة دمائهما وهو العهد، ولكنه عذره بعدم العلم، ورغم ذلك التزم باستحقاقات الوفاء بالعهد وأخذ في جمع الدية للقتيلين، وكان هذا الوفاء سبباً لفتح عظيم لم يكن أحد يعلمه، وهو فتح بني النضير، كما هو معروف في السيرة النبوية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ذهب إلى ديار بني النضير في المدينة ليسألهم المشاركة في دية الرجلين كما تنص بنود المعاهدة الموقعة بين المسلمين واليهود في المدينة، وقد حاول يهود بني النضير استغلال الأمر لاغتيال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل الله -عز وجل- جبر يل -عليه السلام- فأخبر النبي فنجا من كيدهم الخبيث، وكان غدر اليهود سبباً لطردهم المدينة، فقارن بين عاقبة وفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعهد حتى مع المشركين، وبين عاقبة غدر اليهود بعهودهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

رابعاً: الدعاء سلاح ماض:

جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وفيه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بلغه خبرُ مقتل أصحابه وغدر بني سليم بهم قنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياءٍ من أحياء العرب، على رعْل وذكوانَ وعُصَّيه وبني لحيان"، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرًا مُتتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو عليهم، على حي من بني سليم، على رعل وذكوان وعصيَّة، ويؤمِّن مَنْ خَلْفَه".

 

ومن هذه الحادثة: استفاد أهل العلم في استحباب الدعاء على الكافرين بسبب جرائمهم ضد الإسلام والمسلمين، وقد أخذ العُلماء من ذلك مشروعية القنوتِ في الصلوات الخمس في النازلة العظيمة تنزل بالمسلمين، كما أخذوا مشروعية الدعاء على المشركين المحاربين، وهذا فيه رد على من زَعم أن الدُّعاء للمشركين بالهداية أولى من الدعاء عليهم بالهلاك والعذاب؛ والهَدْيُ النبوي في ذلك هو أكمل الهدْي، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو لهم ويدعو عليهم، وموجبات الدعاء عليهم التي وجدت على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ما زالت قائمة في عصرنا هذا، بل هي ممتدة آخر الزمان وهي عداوتهم لأهل الإسلام، وقال الحافظ ابن حجر: "وحكى ابن بطال أن الدعاء للمشركين ناسخ للدعاء على المشركين، ودليله قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران: 128]، قال (أي ابن بطال): "والأكثر على أن لا نسخ، وأن الدعاء على المشركين جائز، وإنما النهي عن ذلك في حق من يرجى تألفهم ودخولهم في الإسلام. ويحتمل في التوفيق بينهما أن الجواز حيث يكون في الدعاء ما يقتضي زجرهم عن تماديهم على الكفر، والمنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم".

 

خامساً: لا دعوة دون تضحيات:

إن للسعادة ثمنًا، وإن للراحة ثمنًا، وإن للمجد والسلطان ثمنًا، وثمن هذه الدعوة: دم زكي يهراق في سبيل الله من أجل تحقيق شرع الله ونظامه، وتثبيت معالم دينه على وجه البسيطة، وإرسال النبي -صلى الله عليه وسلم- لخيرة أصحابه لم يكن إلا حلقة من حلقات الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيل الله، ثم أليس غاية ما يُحتمل أن يموتوا شهداء؟ فهذا ما كانوا يرجونه رضوان الله عليهم.

 

فلابد للدعوة من تضحيات فهؤلاء الصحابة أرسلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- معلمين ومرشدين وهداة مهديين ولم يرسلهم مقاتلين أو محاربين، ومع ذلك وقعت لهم هذه المجزرة الرهيبة الدنيئة، وحصل عليهم هذا الغدر المشين لكن ذلك كله لم يفت في عضدهم ولم يفتر من همتهم، ولم يكسر أبدا عزمهم على مواصلة الدعوة إلى الله وخدمة دين الله؛ لأن مصلحة الدين فوق مصلحة الأنفس والدماء إذ الدعوة لا يكتب لها النصر إذا لم تبذل في سبيلها الأرواح والمهج ولا شيء يمكّن للدعوة في الأرض إلا استرخاص التضحيات من أجلها، فالدعوات بدون تضحيات فلسفات وأخيلة تلفها الكتب، وترويها الأساطير ثم تطوى مع الزمن.

 

والتضحية لا تذهب هدراً ولا سدى، سيحصد الداعية ثمرتها في الدنيا والآخرة، ويخلد ذكره في العالمين، ويظهر الله -عز وجل- كرامته لتكون آية للعالمين، وباعثاً للسالكين، فحرام يطعن برمح يخرقه ظهراً لقلب، ويصيح فرحاً: "فزت ورب الكعبة" كلمة لا تصدر إلا منتصر وفائز حقيقي، حتى أن من روعة التعبير، يسلم قاتل حرام بعد ذلك، فقد بدأ جبار بن سلمى الذي طعن حرام بن ملحان يتساءل عن قول حرام: "فزت ورب" فقال: إن مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلاً منهم برمح فخرج من صدره فسمعته يقول: فزت ورب الكعبة، فقلت في نفسي ما فاز؟! ألست قد قتلت الرجل فسألت بعد ذلك عن قوله فقالوا: فاز لعمر الله بالشهادة فكان سبباً لإسلامي.

 

وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ترفعه الملائكة أمام أعين الناس بين السماء والأرض ليرى كل ذي عين، كيف تكون عاقبة البذل والفداء والتضحية.

 

والأعظم من ذلك أن الصحابة -رضوان الله عليهم- الذين قضوا نحبهم في الفاجعة قد أنزل الله -تعالى- فيهم قرآناً (نسخ بعد ذلك) جاء فيهم عاجل بشرة المؤمن لمن قضى ولمن بقى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "إن إخوانكم قد قُتِلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا".

 

في فاجعة بئر معونة دليل على أن أهل الحق قد ينال منهم المبطلون، ولا يكون ذلك دالًا على فساد ما عليه أهل الحق، بل كرامة لهم وشقاء لأهل الباطل؛ فإن هؤلاء حين بعثهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأصيبوا كلهم كان ذلك فتنة للكافرين، ثمّ إنّ الله -عز وجل- أظهر دينه، وأعلى كلمته، ولم يضر ذلك الحق شيئًا، وإن القوم لما لقوا من فضل الله من ثواب الشهادة، ما لم يفتقر فيه شيء إلى زيادة إلا أنهم تمنوا لو قد علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أكرمهم الله به ليكون ذلك داعيًا إلى طيب نفسه صلى الله عليه وسلم من أجلهم، وإلى رغبة إخوانهم من المسلمين في مثل حالهم، فقالوا في الجنة ما قالوا، فتولى الله -عز وجل- إبلاغ نبيه -صلى الله عليه وسلم- عنهم، وكفى بذلك شرفًا.

 

إن حادثة بئر معونة تبصرنا بالمسؤولية الضخمة عن دين الله، والدعوة إليه، وتحذرنا من غدر الغادرين، وتفيدنا كيف أن الله -سبحانه- يكرم بعض عباده بكرامات تزيد إيمان أوليائه، وتؤثر في نفوس أعدائه، ومن مات صابرا محتسبا فله البشارة من الله.

 

كما أنها تضع نصب أعيننا نماذج من التضحيات العظيمة التي قدمها الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- من أجل دينهم ومرضاة ربهم.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات