حضارةُ الإسلام وأثرها في الحضارة الحديثة

العلامة محمد عبد الله دراز

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

إنَّه مهما تكن الأسباب والبواعث على هذا التسامح الديني عند المسلمين فإنَّها فضيلة تستحق كل إعجاب وتقدير. وإنَّه لمن الخطأ في القياس أن نُقارن بين هذه الفضيلة عندهم وبين ما نسميه نحن أحياناً بالتسامح الديني عندنا؛ فإنَّ هذا التسامح المزعوم ليس له أدنى قيمة خُلُقية، بل ليس له وجود حقيقي؛ لأنَّه يقوم على أساس التحلُّل الديني وعدم المبالاة بشؤون العقيدة، فلكي نقبل وجود ديانة أخرى في بلادنا يجب أن تكون ديانتنا قد ماتت من قبل في نفوسنا، أما المسلم فإنَّه يَتَسامح مع اعتزازه بدينه، واستمساكه التام بعقيدته..

 

 

 

ليس بالمرء حاجةٌ إلى أن يكون مُؤرِّخاً واسع الاطلاع، ملمَّاً بدقائق الحوادث لكي يعرف أنَّ نموَّ الإسلام وانتشاره، ثم ثباته واستقراره حيثما حلَّ ونزل، كان حدثاً فذَّاً، مُنقطع النظير في تاريخ البشريَّة، بل كان معجزةً من معجزاته.

 

وليس بالمرء حاجةٌ إلى أن يكون فيلسوفاً عميق الفكرة، بعيد المقدِّمات، لكي يَستنتج من هذه الظاهرة العجيبة أنَّ الإسلام لابدَّ أن يكون قد حوى من عناصر الحق والخير والجمال كل ما تتطلبه الفطر السليمة على اختلاف مَشَاربها وأساليبها في الحياة، وأنَّ الحضارات التي نشأت في ظِلِّه فاحتضنها وصانها، أو التي اقتبسها مما حوله فنمَّاها وأضاف إليها، ووسمها بطابعه الخاص، كانت لابدَّ محقِّقةً لكل ما تطمح إليه الأممُ والشعب من القوَّة والرَّغَد.

 

بدأ الإسلام شعاعه من النور السماوي، هبطت على قلب رجل فرد، في عَالَم كله ظلمات بعضها فوق بعض: ضلالات وأوهام في العقائد، انحراف وانحدار في الأخلاق والعوائد، فوضى في المعاملات، تفكُّك في الأسرة، اختلالٌ في التوازن بين طبقات المجتمع، السلطان كله للقوة الباطشة، أو للشهوة الجامحة، ولا سلطان للقانون.

وتألَّبت كل عناصر الظلام، في جزيرة العرب، ومن حول جزيرة العرب؛ لتطفئ هذه الشعاعة الأولى من النور، ولكن هذه الشعاعة لزمت مكانها (مكة) وثبتت في قوة وإصرار عشر سنين كاملة، أمام هذه الزوابع والأعاصير. ثم أذن الله –تعالى- لها (بفضل الهجرة إلى المدينة المنورة في سنة 622 الميلادية) أن تشتدَّ وتمتد، وأن تنتشر وتستبحر، فأخذت تزحف بدورها على جيوش الظلام لتبدِّدها، فلم تمضِ عشرُ سنوات بعد الهجرة حتى غمرت بنورها جزيرة العرب كلها.

 

ولم يفارق الدنيا صاحب هذا النور -صلوات الله وسلامه عليه- (في أول السنة الحادية عشرة من الهجرة) إلا بعد أن كان قد فتح لنوره طريقاً إلى خارج جزيرة العرب، ليبدِّد ما حولها من الظلمات، وليكفَّ بأس القوى الشريرة التي تآمرت عليه في الدولتين العتيقتين: دولتي الفرس والروم، ذلك أن - في السنة التاسعة من الهجرة - قادَ بنفسه -صلى الله عليه وسلم- جيش المسلمين إلى (تبوك) مُسارعة إلى صدِّ الحملة التي كان الروم قد تأهَّبوا لها في الشام، فكانت الهزيمة الأدبيَّة التي لحقت بجيش الروم يومئذ، حيث لم يجرؤ أن يتقدَّم لملاقاة جيش المسلمين هنالك، كانت هذه الهزيمة الأدبيَّة إرهاصاً قريباً لهزيمة الدولتين عسكرياً، وسقوطهما نهائياً، في أول عهد خلفائه الراشدين.

 

ثم تتابعت هزيمة الظلام، وتدفَّقَ نورُ الإسلام على الأرض شرقاً وغرباً، فكان ما فتحه المسلمون في قرن واحد (632-732م) أعظم وأضخم مما فتحته الدولة الرومانية في سبعة قرون كاملة.

 

غمرت الموجة الأولى من الفتح الإسلامي بلاد العجم والعراق والشام، ثم مصر وتونس، ثم الجزائر، ومراكش وصقلية وإسبانيا، ثم تجاوزت جيوش المسلمين جبال البرانس، وأوغلت في فرنسا حتى اقتربت من باريس... ولو شاء ربك لأسلمت أوروبا كلها، بل لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، ولكن قضت حكمته العليا ألا يزال الناس مختلفين: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103].

 

وهكذا توقَّفت الفتوح في هذا الجانب من العالم منذ سنة 732م، وعادت الجيوش من فرنسا لتستقرَّ في إسبانيا، وليؤسس المسلمون فيها مملكة عظيمة ظلَّ حُكْمُهم فيها قائماً ثمانية قرون، لم يشهد التاريخ فترة مثلها حضارة وازدهاراً، على أنَّهم إن كانوا اليوم قد فارقوها مُلكاً وحكماً، فإنهم لم يفارقوها أثراً ورسماً.

 

ولم تكد موجة الفتح تنحسر هذا الانحسار اليسير في الجانب الغربي حتى بدأت موجة أقوى منها في الجانب الشرقي، امتدَّ بها الفتح الإسلامي مُشَرِّقاً إلى بلوخستان والهند والصين، بل تجاوز القارة إلى الجزائر الإندونيسية، كما أنَّه انعطف مُغرِّباً فدخل أوروبا من جنوبها الشرقي مُتجهاً نحو الغرب والشمال الغربي إلى النمسا وإلى قرب بحر البلطيق.

 

هذه الفتوح كلها يَعترف المنصفون من المؤرخين الغربيين بأنَّ الأساس الأول والأعظم فيها لم يكن هو الحرب، فهم يقولون بصريح العبارة: إنَّ المعارك الإسلامية الكبيرة كانت نادرة جداً، وإن أكثر ما تمَّ من الفتح الإسلامي إنما كان بفضل التجارة، والدعوة السلميَّة، والإقناع الحكيم، والقدوة الحسنة.

 

وفي الحق لو كان دخول هذه الأمم في حظيرة الإسلام تحت سلطان السيف لخرجوا منها منذ دخلت السيوف في أغمادها، ومنذ غفل المسلمون عن أسلحتهم وأمتعتهم، فانعكست آية القوة الماديَّة، وأصبحت في يد غيرهم، ولكن الإسلام، كما قال هرقل:" متى خالطت بشاشته القلوب لا يرتدُّ أحدٌ عنه ساخطاً". أو كما قال بعض المؤرخين في العصور الحديثة:" إنه لا تُعرف حادثة واحدة ارتدَّ فيها مسلم عن دينه رِدَّةً حقيقية، بعد أن دخل في الإسلام دخولاً حقيقياً، بينما حوادث الخروج من الأديان الأخرى إلى الإسلام أكثر من أن تحصى".

 

نقول: إنَّ في سرعة انتشار الإسلام هكذا في عالم يبلغ خُمس الكتلة البشريَّة على الأقل، وبين أممٍ مُختلفة في ألسنتها وألوانها، ونزعاتها وطبيعة أرضها، وطبيعة جوها، وأسلوب حياتها، وإنَّ في ثباته واستقراره هذا على الرغم من كل عوامل التدمير التي سُلِّطت ولا تزال تسلط عليه في داخل أرضه وفي خارجها.

وإنَّ في قابليته لزيادة الانتشار على الدوام كلها رَفعت الحواجز الصناعيَّة من طريقه. وإنَّ في سرعة تقبل النفوس له كلما عُرض عليها دون صراع ولا خداع؛ إنَّ في ذلك كله لتفنيداً بليغاً لزعمِ من زعم أنَّ الإسلام خُلق للصحراء، وللأمم التي لم تجاوز طور الطفولة البشريَّة، إنَّ في ذلك كله لآية بيَّنة على مَبلغ ما في طبيعة الإسلام من إشباع لحاجات العقول والقلوب، وتوفية لمطالب الأفراد والجماعات، ومجاوبة للفطرة الإنسانية العميقة، التي لا تختلف باختلاف الأقطار والعصور، ولا باختلاف المظاهر وأساليب الحياة، بل إنَّ في ذلك كله لآية على أنَّ الذي فطر الإنسان هو الذي شرع له هذا الدين، وفصَّله على مقياس طبيعته، وأنَّ ذلك كان هو السرَّ الأول في بقائه وخلوده: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال:36].

 

ولقد اتسم الإسلام في غضون تاريخه بسمتين أخريين، كان لهما أكبر العون على استمراره واستقراره، ظاهرتان من أهمِّ مُقوِّمات الحضارة الحقيقيَّة، لم يسع المحققين من علماء أوروبا إلا الاعتراف بهما، والتنويه بشأنهما: ظاهرة داخليَّة، بين مُعْتنقيه، وظاهرة خارجيَّة، تجاه المخالفين له.

 

فأما الظاهرة التي أسبغها على أتباعه فيما بَينهم: فتلك هي ظاهرة الأخوَّة الروحيَّة، التي جعل منها ظاهرةً اجتماعيَّة، تسمو على كل الفوارق العنصريَّة، وتمحو كلَّ الحواجز الإقليميَّة، وإن اختلفت إدارتها ورياستها العُليا، فلقد أتى على الإسلام حين من الدهر في مدى القرنين الرابع والخامس من الهجرة (العاشر والحادي عشر الميلاديين) كان يتولى الخلافة فيها ثلاثة خلفاء في وقت واحد: خليفة عباسي في العراق، وخليفة أموي في الأندلس، وخليفة فاطمي في مصر، ومع ذلك كان المسلم الذي يتنقل في سفره من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، في امتداد يقطعه الراكب في عشرة أشهر على الأقل، لا يجد حيثما حلَّ إلا إخوة في عقيدته، إخوة في عبادته، إخوة في شريعته، نظراء في أخلاقه وعوائده، أو كما يقول المؤرخ الألماني (منز) في كتابه (نهضة الإسلام)كان المسلم يشعر أنَّه حيثما حلَّ فهو في قلب وطنه.

 

وأما الظاهرة الخارجيَّة: فهي ظاهرة التسامح بإزاء المجوسيَّة، التي عاملها الإسلام مُعاملة الأديان السماوية، ولم يقتصر الأمر في هذا التسامح على أنَّه ترك أصحاب الديانات المختلفة يتمتعون بحريَّة عقائدهم وعباداتهم ولغاتهم؛ بل إنَّ الخلفاء خوَّلوا لكل رئيس ديني أن يقضي في شؤون طائفته الخاصَّة التي لا تصطدم ومصالح الدولة، أضف إلى هذا أنَّ عدداً كبيراً منهم كان أداة فعالة في جهاز موظفي الدولة، حتى إنَّ منصب وزارة الحربيَّة أسند إلى المسيحيين مرتين، أثناء القرن الثالث الهجري.

 

ولقد حاول المؤرخ الألماني (كريمر) في كتابه (حضارة الشرق في عهد الخلفاء) أن يحلِّل طبيعة هذا التسامح الإسلامي، ويتعرف أسبابه، فنفى نفياً قاطعاً أن تكون له بواعث سياسيَّة، وأن يكون هدفه في نظر أولي الأمر المسلمين هو تسكين قلوب الرعايا غير المسلمين حتى لا يثوروا على الحكم.

 

قال كريمر:" كلا فإنَّ هذه الفضيلة لم تكن خاصة بالخلفاء والرؤساء وحدَهم، بل كانت سارية في الشعب عامَّة، ثم إنَّها لم تقتصرْ على عصر المسلمين القُدامى فحسب، بل شملت سائر العصور"، ويَنتهي المؤرِّخ من تحليله إلى هذه النتيجة: وهي أنَّ المسلم يفصل فصلاً تامَّاً بين العقيدة، التي يحترم حريتها عند الآخرين، وبين المصالح الدنيويَّة التي تعتمد الكفاية والأمانة والتي لا تميز بين دين ودين في سبيل التعاون ([2]).

 

ولن يفوتنا أن نعدَّ من بين هؤلاء المؤرِّخين المنصفين الأستاذ الفرنسي (جوتييه) فقد خصَّص في كتابه (أخلاق المسلمين وعوائدهم): فقرات طويلة قارن فيها مُقارنة رائعة بين هذا التسامح الديني عند المسلمين بخاصة والشرقيين بعامة، وبين ما عند المسيحيين الغربيين من عصبية عنيفة توارثوها خلفاً عن سلف، وعلى سبيل المثال لهذه الحميَّة الجاهلية يشير المؤلف إلى ما حدث في جنوب فرنسا على يد البارون (سيمون دي مونفور) الذي توجَّه بإذن البابا على رأس لفيف من البارونات الفرنسيين، ومعهم فرقة من الرهبان إلى مقاطعة (لانج دوك) لاستئصال الديانة المجوسية منها، فأغرقوا الإقليم كله في أنهار من الدم والنار، حتى أهلكوا من كان فيه من المجوس.

ويستطرد المؤلف فيقول: إنَّ هذا العنف لم يؤدِّ إلى نتيجة حاسمة من وجهة نظر الكنيسة، فقد نبتت هذه الفِرْقة المارقة مرَّة أخرى في (بوهيميا) فحوربت وهزمت، ثم نبتت مرة ثالثة في شمال ألمانيا باسم (الإصلاح الديني) وقد حُوربت في هذه المرة أيضاً بأساليب أشد عنفاً، ودامت المعارك من أجلها ثلاثين عاماً، ولكنها لم تُفلح في إخضاعها.

 

فلما استنفدت الحروب جهود الطرفين وأرادوا أن تضع الحرب أوزارها لم تطوِّع لهم أنفسهم قبول فكرة التسامح الديني فيما بينهم، بل فضَّلوا أن تقسم المسيحية قسمين مُتناكرين، ليس بينهما تعايش سلمي في دولة واحدة، بل لكل دولة دينها، بحيث لا يعيش في كل أمَّة إلا مذهب واحد.

 

يقول المؤلف: فأين هذا مما نشاهده في داخل بلاد الإسلام قديماً وحديثاً، حيث يحتضن الإسلام دائماً بين جناحيه من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي طوائف من غير المسلمين، يهوداً ونصارى، ومجوساً وطوائف من المسلمين المبتدعين، شيعة وخوارج وإباضية.

 

ولم يفكر العرب ولا المسلمون يوماً ما، حتى في أشد أوقات حميَّتِهم الدينيَّة، أن يُطفئوا بالدم ديناً مُنافساً لدينهم، بل لم يفكر الخليفة يوماً ما في أن يضطهد مسيحياً يَعقوبياً أو مجوسياً مانوياً.

 

إنَّه مهما تكن الأسباب والبواعث على هذا التسامح الديني عند المسلمين فإنَّها فضيلة تستحق كل إعجاب وتقدير. وإنَّه لمن الخطأ في القياس أن نُقارن بين هذه الفضيلة عندهم وبين ما نسميه نحن أحياناً بالتسامح الديني عندنا؛ فإنَّ هذا التسامح المزعوم ليس له أدنى قيمة خُلُقية، بل ليس له وجود حقيقي؛ لأنَّه يقوم على أساس التحلُّل الديني وعدم المبالاة بشؤون العقيدة، فلكي نقبل وجود ديانة أخرى في بلادنا يجب أن تكون ديانتنا قد ماتت من قبل في نفوسنا، أما المسلم فإنَّه يَتَسامح مع اعتزازه بدينه، واستمساكه التام بعقيدته.

 

وكأننا بالأستاذ (جوتييه) حين أشاد بفضيلة التسامح الديني عند المسلمين وجعلها قاعدة عامَّة عندهم، توقَّع ما قد يجول بذهن القارئ من اعتراض على هذه القاعدة العامَّة بالأمثلة المشاهدة في المستعمرات، حيث إنَّ المسلمين في الجزائر وغيرها يمقتون المسيحيين جميعاً، فرنسيين كانوا أو إنجليز أم هولنديين أم غيرهم.

 

فتصدَّى لدفع هذا الاعتراض قائلاً:" إنَّهم لا يمقتون فينا مسيحيتنا، وإنما يمقتون أوربيتنا"، فإنَّ أوربا منذ قرن أو يزيد أصبحت خطراً يهدِّد سلام الكرة الأرضية، فالأوربي عندهم رمزٌ للتدخُّل الذي يجرحُ كبرياءهم، ويحطِّم استقلالهم، ويفسد أسلوبَ مَعِيشتهم، أما عقائدنا الدينيَّة وآراؤنا الفلسفيَّة، المخالفة لعقائدهم وآرائهم، فإنَّ أمرها كان يهون عليهم لو بقيت محصورة في دائرة الاختلاف النظري. ولقد صدق!

 

هذان هما العنصران الأساسيان في بناء الحضارة عند كلِّ أمة رشيدة تطمح إلى البقاء والخلود: عنصر الوحدة الروحيَّة والوطن المشترك بين أبنائها على اختلاف مَذَاهبهم وأقطارهم، وعنصر التسامح والتعايش السلمي مع جيرانهم المخالفين لهم في عقائدهم.

 

غير أنَّ هذين العنصريين لابدَّ لهما من عنصر ثالث يمازجهما ويكملهما، ويجبر ما قد يعتريهما من نقص، ذلك أنَّ رحمة الأخوَّة كثيراً ما ينفلت زمامها، فتصل إلى حدِّ التراخي والتهاون والإغضاء عن الإثم والفوضى والفساد الداخلي، كما أنَّ نزعة التسامح وحبَّ السلام العالمي كثيراً ما يختلُّ ميزانها، فتنحدر إلى مستوى الضعف والاستسلام أمام العدو الخارجي.

 

لهذا وذاك جاء الإسلام مُنظِّماً لكلتي النزعتين، محتفظاً بما فيهما من خير ونفع، نابذاً ما فيهما من شذوذ وانحراف.

 

يتلخَّص هذا التنظيم الإسلامي في أنَّه جَهَّز أتباعه بجهازين: داخلي وخارجي، وجعل كل واحد منهما يتألَّف من عنصرين: أدبي ومادي.

 

فأما في الداخل فقد جهَّزهم معنوياً بجهاز الدعوة إلى الخير، والتناهي عن المنكر، والتناصح والتواصي بالحق دعوة وتناصحاً لا يمتاز فيهما كبير عن صغير، ولا يقل فيهما مأمور عن أمير.

 

ثم جهَّزهم مادياً بجهاز العقوبات والتأديبات التي يوجب توقيعها على كل من لم تنفعه الموعظة الحسنة، بالغاً ما بلغ قدره وخطره، دون أن تأخذنا به رأفةٌ في دين الله.

 

وأما في الخارج فقد زوَّد أتباعه معنويَّاً بمبادئ العزَّة والحميَّة وإباء الضيم، أشربها قلوبهم مع عقيدة التوحيد، حتى إذا قيل لهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ) [آل عمران:173].

 

ثم جهَّزهم مادياً بقانون الجهاد الذي جعله عليهم فريضة محكمة، يدافعون به عن كيانه وكيانهم، ويُرهبون به عدوَّ الله وعدوَّهم.

 

وهكذا كان الإسلام في لِينه بعيداً عن الضَّعف، كما كان في حربه بعيداً عن العُنف، وبذلك تجافى عن طرفي التفريط والإفراط اللذَين انتهى إليهما الأمر في كثير من الديانات.

 

نعم لقد جاء الإسلام بريئاً من طابع الخَوَر والاستكانة التي اتسمت بها بعض الديانات الوعظيَّة التبشيريَّة، التي لا حول لها ولا قوَّة، ولا سلطان لها على نظام المجتمع، كما جاء بريئاً من طابع الغرور والكبرياء والعتو، الذي اصطبغت به بعض الديانات المحرَّفة، التي توحي إلى أتباعها أنَّ من عداهم ليسوا من فصيلة البشر، وأنَّ دماء غيرهم وأموالهم ليست لها حرمة ولا قدسيَّة.

 

هكذا جاء وفي وقت واحداً مُبرَّءاً من العناصر الخامدة الخائرة، ومن العناصر الهادمة المدمِّرة، مُزوَّداً بعناصر الصلاح والإصلاح، وأسباب البقاء والإبقاء، جامعاً بين القوة والنظام، والرحمة والسلام.

 

و-صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم-.

 

المصدر: (مجلة المجلة، رمضان 1376 - العدد 4).

([1]) يقول المؤرخ متز: إن الأقباط لم ينسوا لغتهم القبطية إلا في القرن الثالث الهجري.

([2]) نقول: أليست هذه هي وصية القرآن الكريم: [وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا] {لقمان:15}. [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256}.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات