معركة إفراغة-أعظم أيام رمضان في الأندلس

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

وفي تلك الأثناء كان ألفونسو قد وصل بقواته إلى إفراغة، وضرب حولها الحصار، فقاومته حاميتها وأهلها بقيادة واليها "سعد بن محمد بن مردنيش" أشد مقاومة، واضطر أن يرفع الحصار غير مرة، ثم يعود إليه، وحملته هذه المقاومة ذاتها على مضاعفة جهوده في التضييق على المدينة المحصورة، والتصميم على أخذها، وأقسم ألفونسو تحت أسوار إفراغة، أن يفتتح إفراغة أو يموت دونها، وأقسم معه عشرون من قادته كذلك، وأمر ألفونسو كذلك أن يؤتى برفات القديسين إلى المعسكر؛ إذكاءً لحماسة الجند، وأن يتولى الأساقفة والرهبان قيادة الصفوف.

 

 

 

 

إنها واحدة من أعظم معارك المسلمين في الأندلس، رغم أنها لم تنل نفس الشهرة التي نالتها معارك أخرى مثل الزلاقة والأرك ووداي لكة وغيرهم، ذلك أن هذه المعركة دون غيرها، كانت أكثر معارك الأندلس تمايزاً في حقيقة الصراع بين الإسلام والنصرانية، والروح الصليبية المضطرمة التي اتسمت بها هذه المعركة من أولها إلى آخرها صبغت هذه المعركة بصبغة مميزة عن غيرها من المعارك، فالتمايز بين جند الرحمن وجند الشيطان كان في منتهاه، في هذه المعركة، ناهيك أنها وقعت في شهر البطولات الكبرى، في شهر رمضان، وهي ميزة لم تكن لمعركة كبرى في الأندلس من قبل باستثناء معركة الفتح بوادي لكة.

 

بعد وفاة الفونسو السادس ملك قشتالة الإسبانية. والذي تصدر قيادة حرب الاسترداد على شبه الجزيرة الإيبيرية، التي تهدف لإعادة حكم الأسبان تولى الراية بعده الفونسو المحارب ملك ارغون، وكان لظهور شخصية (ألفونسو المحارب) ملك أرغون الإسبانية أثر كبير في تغيير مجرى الأحداث في الأندلس، إذ كان شديد الاهتمام بمحاربة المسلمين واستعادة البلاد منهم، حتى إنه لم يكن يمكث في قصره أبدًا، إنما هو في قتال مستمر يدفعه في ذلك عاطفة دينية جياشة واضطرام صليبي لا نظير له. كان ميزان القوى في الأندلس قد تغير بدخول المرابطين القادمين من المغرب كطرف في المعادلة. وقد أنهى المرابطون حكم دويلات الطوائف وأخضعوا الأندلس لنفوذهم، وعطلوا التمدد الإسباني.

 

كان ألفونسو المحارب ملك (أراجون) إحدى الممالك النصرانية الإسبانية في شمال الأندلس من أشد وأعتى ملوك الإسبان في حربه ضد المسلمين، وكان يضطرم بروح صليبية عارمة ويهدف لتوحيد الممالك الإسبانية في الشمال تحت إمرته، لمواصلة حرب الاسترداد المقدسة والتي تهدف لإعادة حكم الإسبان على شبه الجزيرة الإيبرية، لذلك خطط لاحتلال سرقسطة مستغلاً انشغال المرابطين ببعض الفتن الداخلية.

 

كان موقع سرقسطة موقعًا خطيرًا حساسًا؛ فقد كانت تلك المملكة المسلمة تقع بين الممالك النصرانية؛ بين إمارة برشلونة من الشرق، ومملكتي أراجون ونافار (نبرة) من الشمال، ومملكة قشتالة من الغرب؛ لذا كان النصارى يتحينون أي فرصة لضعف سلطان المرابطين للاستيلاء عليها، ومد نفوذهم على قواعدها الهامة. وفي عهد أمير المسلمين علي بن يوسف استغل النصارى فرصة خلو سرقسطة من والٍ يدير شؤونها بعد وفاة أميرها (أبي بكر بن إبراهيم بن تافلوت)، وانشغال أمير المرابطين "علي بن يوسف" بخوض عدة معارك بالبرتغال، وتورد المصادر الإخبارية أن علي بن يوسف قد عين في النهاية (عبد الله بن مزدلي) والي غرناطة؛ ليكون واليًا لبلنسية وسرقسطة، وذلك في أواخر سنة 511 هـ (أواخر 1117م). ويبدو أن الحاكم الجديد لم يستطع الصمود طويلًا أمام أطماع الممالك النصرانية؛ إذ سرعان ما فرض النصارى حصارًا على سرقسطة، بدأ في شهر صفر سنة 512 هـ، الموافق لشهر مايو سنة 1118م. ولم يكن الجيش المحاصر مكونًا فقط من الأرجونيين، أعداء سرقسطة الأصليين، بل كان يضم طوائف عديدة أخرى من النصارى من ألمان وفرنسيين وهولنديين وإنجليز، والواقع أننا نجد أنفسنا في هذا الموطن أمام حملة صليبية حقيقية، حيث كان عدد الجيش المحاصر لسرقسطة خمسين ألف فارس.

 

وقد سارع علي بن يوسف بالكتابة إلى أمراء الأندلس بالمسير إلى أخيه تميم، وكان واليًا على شرق الأندلس؛ ليسيروا معه؛ لاستنقاذ سرقسطة ولاردة، على وجه السرعة، وسار تميم إلى سرقسطة وخاض عدة معارك مع جيش النصارى هناك، حيث اشتبك عند لاردة في موقعة شديدة مع ألفونسو المحارب، وأنزل به هزيمة ساحقة، ولكنه بعد ذلك أدرك استحالة الحفاظ على سرقسطة وصعوبة استردادها في ظل إحاطة جميع الممالك النصرانية بها؛ مما اضطر تميمًا أن يعود على إثر ذلك إلى مقر ولايته بلنسية، ويترك أهل سرقسطة لمصيرهم المحتوم. وقد وقع خلال الحصار الذي استمر سبعة أشهر كاملة معارك شديدة بين المسلمين والنصارى، اشترك فيها عبد الله بن مزدلي، آخر ولاة سرقسطة المسلمين، بقواته في هذه المعارك وأبلى فيها، وفي خلال ذلك الحصار اعتلَّ الأمير "عبد الله بن مزدلي"، فتوفي في رجب، فكتم خبر وفاته أيامًا؛ حتى لا يعلم به ملوك النصارى، ثم أذيع فكان له أثر سيئ على جميع من بالمدينة، ومع نفاد الأقوات، وشدة الحصار، سلمت المدينة بمعاهدة في يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان من عام 512 هـ، والذي يوافق 18 ديسمبر سنة 1118 م على الأرجح. وكان ذلك من أكبر الضربات التي حققها ألفونسو المحارب بدولة الإسلام بالأندلس .

 

انشغل ألفونسو المحارب بحروب داخلية طاحنة مع جيرانه في مملكة قشتالة، استمر فيها عدة سنوات شغلته عن حرب المسلمين، فلما اصطلح مع جيرانه القشتاليين، قرر استئناف حملته على الأندلس وكان هدفه في هذه المرة (مدينة طرطوشة) العريقة على الساحل الشرقي للأندلس؛ ليضمن السيطرة على نهر (إبيرة) الكبير، ومن ثم الملاحة في شمال الأندلس كله ولكن كان عليه أولاً أن يستولي على مدينة (إفراغة) كي يحتل طرطوشة.

 

وأعد ألفونسو حملة جديدة قوية للبدء في تنفيذ مشروعه، واشترك في هذه الحملة كثير من الأشراف والفرسان الفرنسيين، على غرار ما حدث في حملة سرقسطة، وبدأ ألفونسو بالزحف على مدينة مكناسة الواقعة عند ملتقى نهري سجري وإبرة، وهي قاعدة حصينة، ولكن الدفاع عنها لم يكن ميسورًا؛ لوقوعها في السهل المكشوف، فهاجمها النصارى بشدة، واضطرت إلى التسليم بعد مقاومة عنيفة، وذلك في يونيو سنة 1133م (أواخر سنة 527 هـ).

 

واتجه ألفونسو بعد ذلك إلى الاستيلاء على مدينتي إفراغة ولاردة، وبدأ الزحف على إفراغة، وهي تقع على الضفة اليمنى لنهر سنكا على مسافة قريبة من شمال مكناسة، وكانت مدينة إفراغة شديدة التحصين وتقع على ربوة عالية في نهاية منحدر وعر ضيق، وهرع "الزبير بن عمرو اللمتوني" من قرطبة إلى الثغر الأعلى، في ألفي فارس، ومعه مقادير وفيرة من المؤن، واشترك معه الأمير أبو زكريا يحيى بن غانية والي بلنسية ومرسية، في قوة تقدرها الرواية بخمسمائة فارس، وكان من أعظم وأشجع القادة المرابطين، وكذلك حشد "عبدالله بن عِياض" والي لاردة قواته للدفاع عن إفراغة، وفي تلك الأثناء كان ألفونسو قد وصل بقواته إلى إفراغة، وضرب حولها الحصار، فقاومته حاميتها وأهلها بقيادة واليها "سعد بن محمد بن مردنيش" أشد مقاومة، واضطر أن يرفع الحصار غير مرة، ثم يعود إليه، وحملته هذه المقاومة ذاتها على مضاعفة جهوده في التضييق على المدينة المحصورة، والتصميم على أخذها، وأقسم ألفونسو تحت أسوار إفراغة، أن يفتتح إفراغة أو يموت دونها، وأقسم معه عشرون من قادته كذلك، وأمر ألفونسو كذلك أن يؤتى برفات القديسين إلى المعسكر؛ إذكاء لحماسة الجند، وأن يتولى الأساقفة والرهبان قيادة الصفوف.

 

كانت الجيوش المرابطية منقسمة إلى عدة سرايا نظرًا لأنها قدمت من عدة أماكن متفرقة من الأندلس، فوصلت إحدى السرايا مبكرًا عن باقي الجيوش، وأسرعت هذه السرية فاشتبكت مع الصليبيين، فهزمت بسبب الفارق الكبير بين الفريقين، وعندها دب اليأس والوهن في قلوب أهل المدينة وعرضوا التسليم نظير الأمن على النفس والمال والولد، فرفض ألفونسو المحارب هذا العرض وأصر على اقتحام المدينة بالقوة وقتل جميع أهلها وفاءً بيمينه.

 

في هذه الأثناء وصلت باقي الجيوش المرابطية بقيادة (يحيى بن غانيه) الذي وضع خطة ذكية؛ لاستدراج الصليبيين خارج أسوار المدينة، بواسطة قافلة من المؤن، وبالفعل نجحت الخدعة الحربية، وتحرك الصليبيون عن أسوار المدينة، وعندها انقض المرابطون على الصليبيين، ورغم التفاوت الكبير بين الجيشين، إذ كان الصليبيون أضعاف المسلمين، إلا إن المعركة كانت من أشد وأعنف ما عرفه تاريخ القتال بين المسلمين والنصارى في شمال الأندلس، ثم حدث تغير كبير في القتال عندما خرج أهل إفراغة من أبواب المدينة التي ترك الصليبيون محاصرتها وانقضوا على مؤخرة الجيش الصليبي الذي وقع بين فكي كماشة فتاكة، وتمزق الجيش الصليبي ووقعت عليه الهزيمة المروعة في 23 رمضان سنة 528هـ. ولقد كان وقع الهزيمة الساحقة على ألفونسو المحارب بالغ الأثر، فلقد انسحب من القتال بصحبة فارسين فقط، ومن شدة خجله لجأ إلى دير (خوان دي لابتيا) في سرقسطة، وبه توفي همًا وغمًا بعد ثمانية أيام من المعركة، وبالتالي اختفت شخصية في غاية الخطورة من ميدان الصراع بين المسلمين والإسبان، وكان ألفونسو هذا من المقاتلين الأشداء الذين لا يعرفون في حياتهم إلا قتال المسلمين، فلم يتمتع من متع الدنيا بشيء، وقضى حياته كلها في قتال المسلمين من أجل إعادة الأندلس نصرانية مرة أخرى ، فكان جزاؤه من جنس عمله، ولم ينل في نهاية عمره سوى الموت كمداً وغماً من هول الهزيمة.

 

وكان سقوط سرقسطة أول ضربة موجعة حقيقية نالت دولة المرابطين وضعضعت هيبتهم العسكرية وهزت أركانها، وكانت بداية لزوال ملك المرابطين وانحساره، وجرأة ملوك النصارى على التهام إماراتهم في الأندلس.

 

 

  

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات