معركة كوت العمارة: يوم الذل الكبير للجيش الإنجليزي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

وقال القائد العثماني العام "خليل باشا " في رسالة إلى الجيش السادس العثماني بعد نصر الكوت: "سقط 350 ضابطاً و10 آلاف جندي من جيشنا، شهداء في الكوت، إلا أن المعركة أفضت في النهاية إلى استسلام 13 جنرالاً و481 ضابطاً، و13 ألفاً و300 جندي من الجيش البريطاني، كما انسحبت القوات التي كانت تحاول إنقاذ الجيش البريطاني، بعد أن سقط منها 30 ألف قتيل". وأضاف خليل باشا: "نحن أمام فرق كبير إلى درجة تدهش العالم سيجد المؤرخون صعوبة في إيجاد كلمات لوصف هذه المعركة، كانت جناق قلعة النصر الأول الذي كسر فيه ثبات العثمانيين عناد الإنجليز، وأمامنا هنا النصر الثاني". وبدوره قال العقيد كاظم قره بكر، قائد الفيلق العثماني الـ 18 في خطاب مكتوب: "فلنحمد الله الذي وهبنا نصراً، لم يشهده تاريخنا منذ مائتي عام هذه هي المرة الأولى التي تدخل فيها الحربة العثمانية التاريخ الإنجليزي".

 

 

 

 

 

معركة كوت العمارة، أو حصار الكوت واحدة من أكبر معارك الحرب العالمية الأولى، وأكبر انتصار حققه العثمانيون – بعد معركة جناق قلعة – في هذه الحرب العالمية، وفي نفس الوقت تعتبر هذه المعركة أكبر هزيمة مذلة للإنجليز، إذ أنهم أجبروا على الاستلام كلياً للجيش العثماني، بصورة مهينة دفعت المؤرخ البريطاني جيمس موريس لوصفها بأنها: "الاستسلام الأكثر إذلالاً في التاريخ العسكري البريطاني". في حين وصفها القائد العثماني "خليل باشا" بقوله: "إن التاريخ سيواجه صعوبة في إيجاد كلمات لتسجيل هذا الحادث". وقد كان -رحمه الله- محقاً، فلم تكن معركة واحدة بل خمس معارك في آن واحد، انتهت بالاستسلام المهين للإنجليز.

 

حملة الرافدين:

تبدأ أحداث هذه المعركة الكبيرة بإطلاق إنجلترا التي كانت تلقب وقتها بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بحملة الرافدين للسيطرة على بلاد العراق التابعة للدولة العثمانية وقتها، وذلك سنة نوفمبر 1915م، وذلك لتطويق الجيش العثماني المتمركز في وسط العراق.

 

استطاع الجيش الإنجليزي احتلال البصرة بعد أن قام الأسطول الإنجليزي القوي بإنزال القوات البرية عند البصرة في أول نوفمبر سنة 1915م، وبعد أن سيطر الإنجليز على المدينة قرروا إرسال الفرقة السادسة لاحتلال العاصمة بغداد بقيادة الجنرال تشارلز فير فيريرز تاونسند. وعندما وصلت القوات البريطانية إلى الكوت زاحفة من البصرة حدث اشتباك وتراشق مدفعي بين القوات العثمانية والقوات البريطانية فقرر القائد العثماني نور الدين الانسحاب من سلمان باك وإخلاء المدينة حيث تركت القوات العثمانية المدينة فدخلتها القوات البريطانية في نفس اليوم، فاندفعت قوات تاونسند تطارد القوات العثمانية نحو سلمان باك وهناك حدثت أعظم معارك الحرب من حيث أهمية نتائجها حيث كان القتال مذبحة رهيبة اشتبك فيها جنود الفريقين يداً بيد حتى النهاية عندها شرعت القوات البريطانية بالانسحاب نحو الكوت مستفيدة من ظلام الليل والعثمانيون يطاردون البريطانيين، وصلت القوات البريطانية التي خسرت ثلث جنودها في هذه المعركة إلى المدينة وفي 5 ديسمبر 1915م قامت القوات العثمانية بتحقيق التماس مع قوات تاونسند وأصبحت قوات نور الدين تطوق المدينة، وكان الجنرال "كولمار فون در غولتس "القائد الألماني الذي تم تعيينه في الفيلق السادس العثماني، أمر قائد الجيش العثماني في العراق وما حوله، العقيد "نورالدين باشا"، بمحاصرة بلدة الكوت في 27 ديسمبر 1915م.

 

مدينة الكوت هي مركز محافظة واسط إحدى محافظات جنوب العراق تقع جنوب العاصمة بغداد بنحو 180 كم، وكانت في الأصل ميناء نهري على نهر دجلة تستخدمه السفن التجارية؛ لإفراغ حمولتها، والكوت في لغة أسفل العراق وما داناه من بلاد العرب والعجم هو ما يبنى لجماعة من الفلاحين؛ ليكون مأوى لهم ومسكناً وقد يبنى وحده أو يبنى حوله مجموعة من الأكواخ من الطين أو القصب ولا يطلق هذا الاسم (الكوت) إلا إذا كان البناء على حافة نهر كبير أو على ساحل بحر وأقرب ما يكون لتعريفه: الميناء أو مخزن الذخيرة التجارية.

 

لقد شاع اسم الكوت وذاع وتداولته وكالات الأنباء العالمية واتجهت الأبصار في جميع أنحاء العالم نحوها تبحث عنها على الخريطة ولا عجب في ذلك فقد حوصرت في الكوت قوات بريطانيا العظمى وعجزت كل المحاولات لفك الحصار عن الجنرال تاونسند وقواته وأصبحت الكوت وحتى يومنا هذا يدرس حصارها في جميع الأكاديميات العسكرية في العالم؛ لأنه أطول حصار حدث في الحرب العالمية الأولى حيث سلمت القوات البريطانية المحاصرة إلى القوات العثمانية دون قيد أو شرط.

 

الحصار الرهيب:

قبل القصف المدفعي على المدينة كتب نور الدين القائد العثماني إلى القائد الإنجليزي تاونسند رسالة يدعوه فيها للاستسلام فشكر طاونزند نور الدين على لطفه ودعوته وانتهى كل شيء. بدأت كل المدافع تصب نيرانها على منطقة لا تتجاوز أربع أميال مربعة إنها الكوت، وقد أمر طاونزند بهدم بعض البيوت؛ لفتح طرق واسعة تكفي لعبور عربات النقل وتم الاستيلاء على سوق البلدة وقاموا بتحويله إلى مستشفى ونقل إليه مئات المرضى والجرحى، وقد عاش أهل الكوت مشقة كبرى بسبب الاحتلال الانجليزي والحصار المضروب عليهم.

وتنقسم مراحل الحصار العثماني للقوات البريطانية إلى ثلاث مراحل:

 

الأولى: التي تبدأ من اليوم الأول من الحصار وهو 7 ديسمبر 1915م حيث كانت الأرزاق فيها تعطى للجنود كاملة واستمرت هذه المرحلة (50) يوماً انتهت في 30 يناير1916م.

 

الثانية: بدأت من أول فبراير واستمرت حتى 9 مارس1916م فقد أنقصت الأرزاق إلى النصف.

 

الثالثة: كانت الأرزاق فيها تكاد لا تكفي إلا لسد الرمق وقد استمرت هذه المرحلة (50) يوماً وشرع الجنود يأكلون الكلاب والقطط حتى نفدت تماماً ولم ينج إلا كلب القائد تاونسند. وفي هذه الفترة أصبحت الملابس رثة ومتسخة بشكل لا يمكن وصفه وأصبح النعاس الناشئ عن الجوع الحاد من الأمور الواضحة فكان كل واحد من الحرس يسقط نائماً سواء كان واقفاً أو قاعداً وتبلدت الأحاسيس وغدت الأجساد نحيفة جداً وأصبحت الأصابع بارزة العظام وبدت الأسنان كبيرة وصارت العيون غائرة، وقد كانت النار الخاصة ممنوعة حيث لم يبق وتد واحد لقد قلعت كلها واستعملت وقوداً وصدر القرار التالي (من يلق عليه القبض متلبساً بجريمة سرقة وتد سوف ينفذ فيه حكم الإعدام) وحين بدأت الليالي تبرد أكثر راحت الصلبان الخشبية تسرق من مقبرة الجنود المقتولين؛ لاستعمالها كحطب، مطاعم الضباط نفذ منها السكر والملح، وصار الجميع يبحثون عن الحشائش؛ ليطبخوا منه طعاماً شبه ظاهري بالسبانخ فيتحول إلى مادة خضراء اللون سوداء وقد كانت الحشائش في بعض الأحيان تحتوي على أنواع سامة فصدر الأمر التالي للحامية (التوقف عن أكل الحشيش) راح الرجال يتعقبون ويمسكون كل شيء يتحرك على الأرض فيأكلونه بعد قليه بزيت المحركات.

 الهزائم المتتالية والمحاولات الفاشلة:

حاول الإنجليز فك الحصار على قواتهم المحاصرة في الكوت، فشنوا هجوماً برياً بقيادة الجنرال "أيلمر"؛ لإنقاذ جيشهم المحاصر في الكوت، إلا أنهم اضطروا إلى التراجع، بعد أن خسروا أربعة آلاف جندي في معركة "شيخ سعد" في 6 يناير 1916م، وعقب إصداره أمر الانسحاب للجيش العثماني في هذه المعركة عُزل العقيد نورالدين باشا من قيادة الجيش التاسع العثماني، وعُيّن خليل باشا عوضا عنه، فقد اتهم نور الدين بالتساهل في قتال المحتلين الإنجليز، والتسبب في هروبهم من معركة شيخ سعد بعد أن كادوا أن يهلكوا جميعا.

 

وفي 13  يناير 1916م خسر الجيش البريطاني 1600 جندياً في معركة الوادي، كما فقدوا ألفين و700 جندي في معركة أم الحنة، التي وقعت في 21 يناير، وفي مطلع مارس عاود البريطانيون الهجوم، حيث شنّوا هجوماً على الفيلق 13 العثماني بقيادة العقيد علي إحسان بيك، ودارت معركة سابيس في الثامن من مارس،  بين الجانبين؛ لتنتهي بهزيمة الجيش البريطاني، وفي هذه المعركة معركة سابس رفع قائد الفيلق العثماني العميد علي إحسان شعار (من يحب الله فليذهب إلى سابس) كانت خسائر القوات البريطانية (21000) بين قتيل وجريح ولم تستطيع القوة فك الحصار عن قوات تاونسند. وتمت إقالة الجنرال " أيلمر" من منصبه بعد سلسلة الهزائم المهينة من العثمانيين وفشله الذريع في فك الحصار عن الفرقة السادسة في الكوت.

 

الانهيار ثم الاستسلام:

حاول الإنجليز دفع أموالٍ طائلةٍ للعثمانيين حتى يفكوا الحصار عنهم في الكوت، ولكن العثمانيين رفضوا بشدة. فبحسب الوثائق العسكرية، فإن خليل باشا، أرسل تلغرافا لقيادة الجيش العثماني، أوضح فيه بأن "تاونسند" عرض مليون جنيه، مقابل السماح له ولجيشه، بالتوجه إلى الهند، وطلب من أصحاب القرار في الدولة إعطائه توجيهات بهذا الخصوص. وجاء رد قيادة الجيش العثماني لخليل باشا، "لا حاجة لنا بالنقود "، يمكنكم السماح لتاونسند فقط بالرحيل، مع أسر جيشه ". وفي برقية أخرى، أوضحت فيها قيادة الجيش، أنه يمكن السماح لتاونسند، بالذهاب بحريّة إلى المكان الذي يريد، مقابل استسلامه مع جنوده وتعهّده بألا يحارب الجيش العثماني، طوال فترة الحرب. ومن جانبه طلب تاونسند، من خليل باشا، التوسط له لدى أنور باشا، من أجل السماح له، ولمساعده وثلاثة من أتباعه، بنقلهم إلى إسطنبول، معلناً استعداده لتسليم جنوده، وأوضح تاونسند، في برقيته لخليل باشا: "السيد خليل باشا، الجوع يجبرنا على ترك السلاح، لذا فإنني بناء على عهدكم بأن جنودنا الأبطال سيحلّون ضيوفاً مكرمين لديكم، أُعلِم جنابكم العالي باستعدادي لتسليم جنودي لكم".

 

وكان مما سارع عملية الاستسلام المهين، فشل المحاولة الأخيرة لفك الحصار عن الكوت. فقد حاول الإنجليز إرسال سفينة محملة بمئات الأطنان من مواد الإعاشة إلى الكوت لكن خبر إرسال السفينة قد وصل إلى الأتراك من خلال عيونهم وجواسيسهم فلما وصلت الكوت شعر بها حراس الشاطئ وأطلقوا النار بكثافة وسقطت بأيدي الجنود الأتراك عندها استسلمت القوات البريطانية بقيادة طاونزند إلى القوات التركية في 26 أبريل 1916م دون قيد أو شرط.

 

وبعد النصر العثماني الكبير الذي تحقَّق في الكوت، رفع قائد الفوج الثالث العثماني، النقيب نظمي، العلم العثماني على مبنى الحكومة في الكوت، كما رُفعت راية الفوج على مقر الجنرال تاونسند، وقالت رسالة تلقّتها قيادة الجيش العثماني في إسطنبول، تشرح ما حدث في الكوت: "لقد تلقى الإنجليز مرة ثانية، الدرس الذي سبق أن تلقوه في جناق قلعة، وفهموا أنهم لن يتمكّنوا من كسر المقاومة العثمانية، ومن أخذ غنائم من يد العثمانيين".

 

وقال القائد العثماني العام "خليل باشا " في رسالة إلى الجيش السادس العثماني بعد نصر الكوت: "سقط 350 ضابطاً و10 آلاف جندي من جيشنا، شهداء في الكوت، إلا أن المعركة أفضت في النهاية إلى استسلام 13 جنرالاً و481 ضابطاً، و13 ألفاً و300 جندي من الجيش البريطاني، كما انسحبت القوات التي كانت تحاول إنقاذ الجيش البريطاني، بعد أن سقط منها 30 ألف قتيل". وأضاف خليل باشا: "نحن أمام فرق كبير إلى درجة تدهش العالم سيجد المؤرخون صعوبة في إيجاد كلمات لوصف هذه المعركة، كانت جناق قلعة النصر الأول الذي كسر فيه ثبات العثمانيين عناد الإنجليز، وأمامنا هنا النصر الثاني". وبدوره قال العقيد كاظم قره بكر، قائد الفيلق العثماني الـ 18 في خطاب مكتوب: "فلنحمد الله الذي وهبنا نصراً، لم يشهده تاريخنا منذ مائتي عام هذه هي المرة الأولى التي تدخل فيها الحربة العثمانية التاريخ الإنجليزي".

  

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات