معركة شقحب 702 هـ: يوم أن قاد العلماء الأمة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

اتبع الصليبيون سياسة الجذب بالنساء عن طريق إرسال مئات الأوروبيات إلى بيوت التتار كمحظيات وجواري للتأثير على قرار قادة التتار، فمن الثابت تاريخياً إن زوجة هولاكو كانت نصرانية وكانت تحرضه بشدة على محاربة المسلمين، وأنه بسببها عامل المسيحيين من رعاياه معاملة حسنة، ولما فتح بغداد أعفى أهلها المسيحيين من القتل، ولما فتح المغول في عَهده دمشق ودخلوها، تساهلوا مع المسيحيين من أهلها، حتى أصبحوا نتيجةً لهذا التساهل يشربون الخمر علناً في رمضان، ويرشونها على المسلمين، كما صاروا يمرون في الطرقات وهم يحملون الصليب، ويجبرون المسلمين على القيام احتراماً وإجلالاً لهم.

 

 

 

 

تعرض المسلمون عبر تاريخهم الطويل للكثير من الاعتداءات الخارجية، وتحملت الأمة هجمات ضارية ومتتالية من خصومها الذين لم يكن لهم هدف سوى استباحة ساحة الأمة، وفض بيضتها، والقضاء على دينها ومنهجها وتصورها العقدي للحياة. وعبر التاريخ الطويل للصراع بين الأمة وخصومها، كان العدوان التتاري في القرون الوسطى هو الأفظع والأشنع، من حيث حجم الخسائر والتوقيت وردة فعل الأمة عليه. وظلت أفاعيل التتار الوحشية والمجازر التي ارتكبوها في حق المسلمين ومئات الآلاف من الأرواح التي أزهقوها ومثلوا بجثثهم كابوساً يؤرق حياة كثير من المسلمين الذين عاصروا تلك الفظائع التتارية، وظل مجرد ذكر اسم التتار أو المغول يثير الرعب في قلوب المسلمين الذين لم يذوقوا من أمة مثلما ذاقوا من أمة التتار، حتى بعد أن انتصر المسلمون بقيادة المماليك على التتار في موقعة عين جالوت الشهيرة سنة 658هـ، ظل التتار خطراً ماثلاً أمام العيون والقلوب، وعلى الطرف الآخر كان التتار يكنون للمسلمين عداوة خاصة، وحقداً شديداً بعدما كسر المسلمون التتار وأوقفوا زحفهم البربري على أنحاء المعمورة بأسرها، فلم تتوقف حملاتهم على بلاد المسلمين بعد وفاة الأسد الضاري الظاهر بيبرس فهجموا على الشام سنة 680هـ وكسرهم المسلمون في موقعة حمص الكبرى وهذه الهزيمة كسرت التتار فلم يهجموا بعدها على بلاد المسلمين، ولكن ما زال الكابوس يراود المسلمين في منامهم ويقظتهم حتى كانت سنة 694هـ عندما دخل التتار دين الله أفواجاً عندما أسلم قازان بن أرغون بن أبقا بن تولي بن جنكيز خان ملك التتار وسمى نفسه محموداً ففرح المسلمون بذلك كثيراً وزال عنهم الكابوس.

 

لم يكد المسلمون يفرحون بإسلام التتار وزوال خطرهم وكابوسهم حتى استيقظوا على الكابوس وقد عاد مرة أخرى عندما اتضح أن إسلام التتار لم يغير في طباعهم العدوانية كثيراً فإن حياة الغزو والإغارة والسلب والنهب غلبت عليهم وعلى إسلامهم الذي لم يفد معهم شيئاً , حيث قرر قازان الهجوم على بلاد الشام واحتلالها مرة أخرى وبالفعل دخلوا دمشق واحتلوها سنة 699هـ ومكثوا فيها مائة يوم ووقع الخلاف بينهم بفضل الله عز وجل وحده فعادوا عن الشام إلى العراق بعدما أعادوا للأذهان مرة أخرى كابوس التتار المرعب، وفي سنة 700هـ أرجف الناس بقدوم التتار إلى الشام مرة أخرى ودخلهم الرعب والهلع وفر كثير منهم إلى الديار المصرية وظلت الإشاعات تسري بين الناس كالنار في الحطب طوال العام حتى ظهر حقيقة الأمر أن التتار ما زالوا في العراق .

 

الدوافع الحقيقية للمعركة:

المشهور في كتب التاريخ أن السبب الرئيسي لهجوم التتار على الشام ومصر هو رغبة قازان في القضاء على دولة المماليك التي كانت تعتبر العقبة أمام طموحاته التوسعية في ناحية الغرب، ولكن تتبع الحدث من جميع أطرافه، وبالبحث عن جذوره وخلفياته يتضح لنا أن الأصابع الصليبية لها دور كبير في صناعة هذا الحدث الكبير.

 

فمن المعلوم أن بلاد المسلمين قد تَعرضت إلى أَخطار من جهة أوروبا النصرانية التي سيّرت الحَمَلات الصليبية تِلو الحملات، فعاثت في الأرض فسادا، وأهلكت الحرث والنسل، وانتهى بها الأمر إلى أن تقيم في قلب العالم الإسلامي دولاً، منها إمارات الرها وأنطاكية، وبيت المَقدس، وطرابلس. 

 

واستمر وجود الصليبيين في بلاد المسلمين قرابة قرنين، وقد أَدرك المسلمون خطورة بقاء هذه الإمارات الصليبية في بلادهم، واستيقظ وعيهم، فقامت حركة الجهاد، يذكيها علماء الأمة ومصلحوها، وتجاوب الناس معها، فكان توحيد الجبهة الإسلامية غرضا مهما وكان لنور الدين الشهيد محمود زنكي فضل كبير في تحقيق ذلك، وجاء من بعده صلاح الدين الأيوبي، فاستطاع أن يقطف ثمرة جهاد الرجل العظيم نور الدين، وانتصر في معركة حطين، واستطاع أن يطهر معظم بلاد الشام من رِجس الصليبيين. واسترد المسلمون بيت المقدس، وكل ما كان بأيدي النصارى من قِلاع وحصون، ولم يبق للصليبيين إلا جيوب يسيرة في أنطاكية وطرابلس والساحل بين صور ويافا. في هذا الوقت بالذات ظهرَت حركة المَغول في أقصى الشرق، بزعامة جَنْكِيزْ خانْ. ولقد ثبت بأدلّة قاطعة أنَّ حركة المَغول هذه كانت بتحريض وتخطيط من الصليبييّن المَهزومين من دِيار المسلمين، فقد كانت هناك اتصالات بين الفَريقين قبل سنة 656هـ ( 1258م )، فقد أوفد البابا أنوسنت الرابع رَجلاً في مَهمّة سياسية إلى مَنْغولْيا سنة 642هـ ( 1245م )، ثم أوفد لِويس التاسع المعروف بالناسك بعد ذلك بثلاث سنوات رجلاً آخر، كما اتبع الصليبيون سياسة الجذب بالنساء عن طريق إرسال مئات الأوروبيات إلى بيوت التتار كمحظيات وجواري للتأثير على قرار قادة التتار، فمن  الثابت تاريخياً إن زوجة هولاكو كانت نصرانية وكانت تحرضه بشدة على محاربة المسلمين، وأنه بسببها عامل المسيحيين من رعاياه معاملة حسنة، ولما فتح  بغداد أعفى أهلها المسيحيين من القتل، ولما فتح  المغول في عَهده دمشق ودخلوها، تساهلوا مع المسيحيين من أهلها، حتى أصبحوا نتيجةً لهذا التساهل يشربون الخمر علناً في رمضان، ويرشونها على المسلمين، كما صاروا يمرون في الطرقات وهم يحملون الصليب، ويجبرون المسلمين على القيام احتراماً وإجلالاً لهم.

 

يرى المؤرخ الأَرْمَني (هيتون) أنَّ السبب في سَير هذه الحملة التي وقعت فيها معركة شَقْحَب كان رغبة قازَان  في تحطيم سلطان المسلمين في مصر، واستردادِ الأرض المُقدَّسة، وتسليمِها إلى النصارى، وأنّ قازَان كان يريد السَّير بنفسه على رأس تلك الحملة، ولكنّ تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن يُنيب عنه قَطْلوشَاهْ، الذي تعاون مع النصارى، ولا سيما الأَرمَن الذين كانوا يُشكّلون قوة كبيرة في جيش قَطْلوشَاه، وقد استَولَوا على عَدد من مدن المسلمين ، وقَتلوا فيها ومَثّلوا ونَهبوا، وفَعلوا الأفاعيل البالغة في الفَظاعة والشَّناعة.

 

دور العلماء وقت الأزمات:

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فسادًا، وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال، وأرادوا استكمال غزو بلاد الشام كلها، فأصاب أهل الشام الرعب، وفروا بأموالهم ومتاعهم إلى مصر والكرك، وكان وقتها الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر محمد بن قلاوون مقيمين في مصر، وهم على قلق شديد وخوف أعظم من دخول التتار دمشق، ومن ثم امتداد خط سير حملتهم إلى مصر.

 

سرى الفزع واليأس بين الناس مثل الهشيم، وانتشرت الشائعات المثبطة، وخافوا خوفًا شديدًا، وشرع المثبطون يوهنون من عزائم المقاتلين، ويقولون: لا طاقة للمسلمين بلقاء التتار؛ وأن التتار داخلون لا محالة الشام، وهنا برز دور العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي هتف بالناس للجهاد، وشد من عزائمهم، واتصل بالأمراء ودعاهم للخروج وحماية بيضة الإسلام في الشام،  فاجتمع الأمراء بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد ألا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، يصف ابن كثير دور شيخ الإسلام ابن تيمية أثناء وقعة "شقحب" فيقول: "وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه، فقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: "هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد".

 

لم يكتف ابن تيمية بذلك بل سار إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون، يدعوه للقتال ويثبت قلبه، وكان السلطان الناصر قد أصابه وهن شديد عن لقاء التتار فشد ابن تيمية من أزره وجلس يذكره بفضل الجهاد ووجوب حماية بلاد الإسلام. وخرج الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- من دمشق صبيحة يوم الخميس أواخر شعبان من باب النصر بمشقة كبيرة وصحبته جماعة كبيرة؛ ليشهد القتال بنفسه وبمن معه، فظن بعض الرعاع أنه خرج للفرار، فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد! فلم يرد عليهم إعراضًا عنهم، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.

 

وقد كان دور ابن تيمية هو العامل الرئيس في انتصار المسلمين في وقعة شقحب، ويبرز مثالًا رائعًا للعلماء المجاهدين بالقول والبنان، فقد انضم ابن تيمية لصفوف المجاهدين، ووقف معهم يشجعهم ويبث روح الإصرار والدفاع عن الدين بين جنبات أبناء الشام، وكان يبشر الناس ويثبتهم وهم على خط القتال ويقول لهم: إنكم لمنصورون والله إنكم لمنصورون! فيقولون: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، جزماً لما يرى من اليقين، ويتأول في ذلك الآيات ومنها: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ) [الحج: 60].   

معركة شقحب (مرج الصفر): 

وفي شهر رجب سنة 702هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام فانزعج الناس لذلك واشتد خوفهم جداً وقنت الأئمة في الصلوات وشرع الناس في الفرار إلى مصر وانتظروا قدوم السلطان بالجيوش المصرية فتأخروا عن القدوم فزاد الناس في فرارهم ورعبهم، وقد بان إصرار قازان ملك التتار على أخذ الشام ومصر؛ ليقضي تماماً على سلاطين المماليك، ثم وقعت علامة وإمارة على نصر الله للمسلمين عندما التقت كتيبة للمسلمين تقدر بألف وخمسمائة مقاتل مع كتيبة للتتار تقدر بسبعة آلاف تتاري فصبر المسلمون لهم حتى انتصروا عليهم فاستبشر الناس بذلك.

خرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسوة استعدادًا للقتال، وجاء التتار فخاف أهل الشام أن يكون الجيش الشامي قد فر خوفًا من الهزيمة، وأصاب الناس هم وغم شديد، وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان، فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بأن السلطان قد وصل وقت اجتماع العساكر المصرية والشامية، وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق، بل عرجوا إلى ناحية تجمع العساكر، ولم يَشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق، وقالوا: إن غَلبنا فإن البلد لنا، وإن غُلبنا فلا حاجة لنا به. ودخل رمضان يوم الجمعة، وتضرع الناس في صلاة التراويح أن ينصر جيش المسلمين، وجلسوا يرتقبون الأخبار، وكان وقتها أن وقفت العساكر الشامية قريبًا من قرية الكسوة، فجاء قادة الجيش، وطلبوا من شيخ الإسلام ابن تيمية أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه، فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فرجع معه، فسأله السلطان أن يقف في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: "السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم". وأفتى ابن تيمية الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده؛ ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم ملاقوا العدو غدًا، والفطر أقوى لكم" فعزم عليهم في الفطر، فأفطروا، وتقووا.

 

وفي يوم السبت الموافق 2 رمضان 702هـ/ 20 إبريل 1303م ،وصل السلطان المملوكي الناصر محمد إلى عقبة شجورا، ففرح الناس وتوجه إليه الأمراء. وبينما الأمراء يستقبلونه وصل خبر بأن جيش قطلوشاه قد أقدم. فلبس الجنود السلاح، واتّفق الأمراء على محاربته بشقحب. وقف السلطان الناصر في قلب الجيش، الذي كان يضم نحو 200 ألف مقاتل، وبجانبه الخليفة والأمراء سلار، وبيبرس، الجاشنكير وعز الدين أيبك الخازندار، وغيرهم من الأمراء. وفي الميمنة وقف حسام الدين لاجين الرومي. وعدة من الأمراء وعلى يمينهم الأمير قبجق بعساكر حماة والعربان. وفى الميسرة وقف عساكر حلب. مشى السلطان والخليفة بجانبه، ومعهما القراء يتلون القرآن ويحثون على الجهاد. وهتف الخليفة: "يا مجاهدون لا تنظروا لسلطانكم، قاتلوا عن حريمكم وعلى دين نبيكم -عليه الصلاة والسلام-.

 

انطلق قائد التتار "قطلوشاه" نحو جيش المسلمين بفرقة تضم 10 آلاف مقاتل، واصطدم بالميمنة وجرى قتال شديد، قتل فيه الحسام لاجين أستادار. وكادت الميمنة أن تولى فصاح الأمير سلار: " هلك والله أهل الإسلام". فقام أمراء القلب والميسرة بتعزيز الميمنة وصرخ سلار في بيبرس الجاشنكير والبرجية فأتوه وصدم بهم قطلوشاه، وقاتل هو وبيبرس الجاشنكير قتالاً شديداً إلى أن تمكن من دفع قطلوشاه. ولما قتل أمراء الميمنة تمكن بعض المغول من اجتياز خطها وصاروا خلف المسلمين فحسب البعض أن الجيش منهزم ففرت النساء والأطفال، وكانوا قد خرجوا من دمشق عند خروج الأمراء منها. كشف النساء رؤوسهن، وضج الناس بالدعاء والبكاء، وكادت العقول أن تطيش عند مشاهدة الهزيمة.

 

توقف القتال في اليوم التالي، ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب وصعد عليه وفي ظنه أنه انتصر وأن قواته تطارد المسلمين الفارين. ولكنه لما نظر من فوق الجبل رأى ميسرة السلطان الناصر ثابتة وأعلامها تخفق فتحير، وأحضر إليه عدة من أسرى المسلمين فسأل أحدهم وهو الأمير عز الدين أيدمر عن نفسه فرد عليه أيدمر قائلاً: "من أمراء مصر" فبهت قطلوشاه؛ لأنه لم يكن يدري بقدوم السلطان الناصر بجند مصر.

 

باتت الجنود على ظهور خيولها والطبول تضرب. وراح بيبرس الجاشنكير وسلار وقبجق وكبار الأمراء يدورون طوال الليل على الأمراء والأجناد يرصونهم وينظمونهم ويؤكدون عليهم بضرورة اليقظة والتأهب. ونزل قطلوشاه بمشاته وفرسانه فبرزت له المماليك السلطانية التي استقتلت في القتال وراحت ترمي الجنود المغول بالسهام وتقاتلهم، إلى أن انسحب قطلوشاه إلى الجبل عند منتصف النهار.

 

علم المسلمون من بعض أسرى المغول أن قوات قطلوشاه تعاني من العطش، فلما نزل المغول في فجر اليوم الثالث من المعركة وساروا نحو النهر لم يتعرض لهم المسلمون، حتى وصلوا إلى النهر فقام المسلمون بحصدهم حصداً، وطاردوا الفارين منهم، وقامت العامة بمساعدتهم في المطاردة، ولم يعبر الفرات مع قطلوشاه من جنوده إلا عدد قليل. وأرسل المسلمون بالأمير بدر الدين بكتوت إلى مصر ببشارة النصر. وسار الناصر إلى دمشق التي تزينت ومعه الخليفة، فخرج أهلها يضجون بالدعاء والهناء. وبكى الناس من شدة الفرحة، ونزل الناصر بالقصر الأبلق وصلى العيد بدمشق ثم غادرها عائداً إلى مصر في الثالث من شوال ودخل القاهرة عاصمة ملكه التي تزينت له من باب النصر في الثالث والعشرين من نفس الشهر، ومعه الأسرى ورؤوس المغول، وكان نصراً مبيناً لم ير المسلمون مثله من أكثر من عشرين سنة.

 

أما قطلوشاه فقد وصلت أنباء هزيمته إلى همذان عاصمة مغول إيران، فوقعت الصرخة عند المغول. وأغتم زعيم التتار قازان غماً عظيماً حتى مرض وسال الدم من أنفه، وأمر بقتل قطلوشاه ثم عفا عنه وبصق في وجهه مع سائر الحضور. ولم يعمّر قازان طويلاً بعد تلك الهزيمة الماحقة حيث مات مكموداً بعدها بأسابيع قليلة.

 

لقد كان يوم شقحب هو يوم العلماء والفقهاء وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فقد برز دورهم في قيادة الناس وتثبيتهم وقت الأزمات والنوازل الكبرى، وأبرز مدى الحاجة لوجود أمثال هؤلاء الربانيين في أيامنا هذه.  قال المؤرخ والفقيه ابن عبد الهادي: "وقد أَخبَرني حاجِب أمير، ذو دِين متين، وصِدْق لَهجة، معروفٍ في الدولة قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمَرْج الصُّفَّر وقد تَراءى الجَمْعان: يا فُلان! أَوقِفني مَوقِف الموت. قال: فسُقتُه إلى مُقابَلة العدوّ وهم مُنحدِرون كالسَّيل تَلوح أَسلحتُهم من تحت الغُبار المُنعقِد عليهم. ثم قلت له: يا سيدي هذا مَوقِف الموت، وهذا العدوّ قد أَقبَل تحت هذه الغُبرة المُنعقِدة، فدُونَك ما تريد. قال: فرَفَع طَرْفه إلى السماء، وأَشخَص بصَرَه، وحرّك شَفتيه طويلاً، ثم انبعث وأَقدَم على القتال. وأما أنا فخُيّل لي أنه دعا عليهم، وأنّ دُعاءه استُجيب منه في تلك الساعة، ثم حالَ القتالُ بيننا والالتِحامُ، وما عُدت رأيته حتى فَتَح الله ونَصَر، وانحاز التَّتارُ". انتهى كلامه

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات