النار التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى

مشرف زاوية الأحداث التاريخية

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم لما كان بتاريخ ليلة الأربعاء الثالث من جمادي الآخرة ومن قبلها بيومين عاد الناس يسمعون صوتا مثل صوت الرعد فانزعج لها الناس كلهم وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي البشير وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد:

فما خبر النار الذي أضاءت له أعناق الإبل ببصرى!

إنه حدث عجيب وغريب، فهو وإن كان عظيما في ذاته فالأغرب هو حدوثه أو حدوث مشابه له كما أخبر الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.. ولا عجب فكل ما أخبر به الشارع حتما واقع لا محالة...

ينبغي علينا أن نستصحب مسألة مهمة في هذا الباب وهي: مسألة الحكم على الوقائع بإنزال النصوص عليها..

هذه مسألة زل فيها من زل، وأوجدت إشكالات عظيمة وكثيرة نتيجة للتسرع في إطلاق الأحكام دون تروٍ أو تؤدة!!

وعليه أقول: إن مرد هذه المسألة –أعني إنزال النصوص على الوقائع- إلى أهل العلم الراسخين، الذين يدركون مدلولات النصوص وأبعادها، لا إلى غيرهم!!...

عوداً على النار التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى فإني سأقف على الأحاديث الواردة في ذلك، وننظر من خلالها إلى كلام أهل العلم والمؤرخين في حادثة عجيبة متواترة حصلت في عام أربع وخمسين وست مئة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

فأقول مستعينا بالله:
جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى ".

وجاء في المسند من حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَتَعَجَّلَتْ رِجَالٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِتْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ سَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ: تَعَجَّلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ: " تَعَجَّلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَالنِّسَاءِ!! أَمَا إِنَّهُمْ سَيَدَعُونَهَا أَحْسَنَ مَا كَانَتْ "، ثُمَّ قَالَ: " لَيْتَ شِعْرِي مَتَى تَخْرُجُ نَارٌ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ جَبَلِ الْوِرَاقِ تُضِيءُ مِنْهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بُرُوكًا بِبُصْرَى كَضَوْءِ النَّهَار ".

وفي المستدرك نحو هذه الرواية وفيه: " ليت شعري متى تخرج نار من جبل الوراق فتضيء لها أعناق البخت بالبصرى سروجا كضوء النهار". وقد تابع الذهبي الحاكم في تصحيحه.

وجاء في المعجم الكبير من حديث بشير السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يوشك أن تخرج نار تضيء أعناق الإبل ببصرى تسير سير بطيئة الإبل تسير النهار وتقيم الليل تغدو وتروح يقال: غدت النار أيها الناس فاغدوا، قالت النار أيها الناس فقيلوا راحت أيها الناس فروحوا من أدركته أكلته ". قال الحافظ في الفتح: " وهذا ينطبق على النار المذكورة التي ظهرت في المائة السابعة وأخرج أيضا الطبراني في آخر حديث حذيفة بن أسيد الذي مضى التنبيه عليه وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من رومان أو ركوبة تضيء منها أعناق الإبل ببصرى "، قلت: وركوبة ثنية صعبة المرتقى في طريق المدينة إلى الشام، مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ذكره البكري، ورومان: لم يذكره البكري ولعل المراد رومة البئر المعروفة بالمدينة، فجمع في هذا الحديث بين النارين وأن إحداهما تقع قبل قيام الساعة مع جملة الأمور التي أخبر بها الصادق صلى الله عليه وسلم والأخرى هي التي يعقبها قيام الساعة بغير تخلل شيء آخر وتقدم الثانية على الأولى في الذكر لا يضر والله أعلم "..

وقال القرطبي في التذكرة: " خرجت نار بالحجاز بالمدينة وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت وظهرت النار بقريظة عند قاع التنعيم بطرف الحرة ترى في صور البلد العظيم عليها سور محيط بها عليه شراريف كشراريف الحصون وأبراج ومآذن ويرى رجال يقودونها لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته ويخرج من مجموع ذلك نهر أحمر ونهر أزرق له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور والجبال بين يديه وينتهي إلى محط الركب العراقي فاجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم وانتهت النار إلى قرب المدينة ومع ذلك فكان يأتي ببركة النبي المدينة نسيم بارد وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر وانتهت إلى قرية من قرى اليمن فأحرقتها وقال بعض أصحابنا لقد رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام من المدينة وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى.."

وقال النووي: " تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام ".

وقد جاء في بعض الكتب شرحا لما حصل في تلك الحادثة كما ذكر العيني قال: " ظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة في شرقي المدينة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم انفجرت من الأرض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد وفي كتاب آخر سال منها واد مقداره أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال يجري على وجه الأرض يخرج منها مهاد وجبال صغار وفي كتاب آخر ظهر ضوؤها إلى أن رأوها من مكة.. ".

وأما بصرى: فهي مدينة معروفة وهي مدينة حوران بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل، كما ذكر ذلك شرّاح الأحاديث..

وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة أربع وخمسين وستمائة من الهجرة خبر النار التي ظهرت من أرض الحجاز مما ذكره أبو شامة عنها.. ونظرا للوصف والتفاصيل المذكورة في ذلك فسأنقله بطوله فقال رحمه الله: " وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال: وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام بخروج نار عندهم في خامس جمادي الآخرة من هذه السنة، وكتبت الكتب في خامس رجب والنار بحالها ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان.

ثم قال -أي في كتابه-: بسم الله الرحمن الرحيم ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ". فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب!!

قال: " وكنا في بيوتنا تلك الليالي وكان في دار كل واحد منا سراج، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها!!، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل ".

قال أبو شامة وهذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة فيها: لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادي الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء وقد مدت مسيل شظا وما عاد يسيل - والله -، لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيرانا وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجيء إلينا ورجعت تسيل في الشرق فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة فيها أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه: ( إنها ترمي بشرر كالقصر * كأنه جمالة صفر )، وقد أكلت الأرض، وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج!.

وأما أم النار الكبيرة: فهي جبال نيران حمر والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك والله يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أصف هذه النار!!!.

قال أبو شامة: وفي كتاب آخر نظهر في أول جمعة من جمادي الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ووقع في شرقي المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم انفجرت من الأرض وسال منها واد من نار حتى حاذي جبل أحد ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل ؟!

ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم عليه الصلاة و السلام مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة.

قال: وفي كتاب آخر لما كان يوم الاثنين مستهل جمادي الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة ن أقام على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلازل، فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي برأي العين من المدينة نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر كما قال الله تعالى، وهي بموضع يقال له: ( أجيلين )، وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربع فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض ويخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الأرض وهو صخر يذوب حتى يبقى منك الآنك، فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه أحمر، وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها.

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادي الآخرة حدث بالمدينة بالثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة، أشفقنا منها وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه إذ سمعنا صوتا للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة في رأس ( أجيلين ) نار عظيمة مثل المدينة العظيمة وما بانت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفا عظيما، وطلعت إلى الأمير كلمته وقلت له: قد أحاط بنا العذاب ارجع إلى الله تعالى، فأعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم، فلما فعل ذلك قلت: اهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سال منها نهر من نار وأخذ في وادي ( أجيلين ) وسد الطريق، ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادي وادي الشظا وما عاد يجيء في الوادي سيل قط لأنها حضرته نحو قامتين وثلث علوها، والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج وجاء في الوادي إلينا منها يسير وخفنا أنه يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة، وأما قتيرها الذي مما يلينا: فقد طفىء بقدرة الله وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا ترى مثل الجمال حجارة ولها دوي ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب، وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال، وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن أسعد وجاء وعدا إليها، وما صبح يقدر يصفها من عظمها، وكتب الكتاب يوم خامس رجب وهي على حالها والناس منها خائفون والشمس والقمر من يوم ما طلعت ما يطلعان إلا كاسفين، فنسأل الله العافية.

قال أبو شامة: وبان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان، وكنا حيارى من ذلك: إيش هو ؟! إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار.

قلت -أي الذهبي-: وكان أبو شامة قد أرّخ قبل مجيء الكتب بأمر هذه النار، فقال: وفيها في ليلة الاثنين السادس عشر من جمادي الآخرة خسف القمر أول الليل وكان شديد الحمرة ثم انجلى وكسفت الشمس، وفي غده احمرت وقت طلوعها وغروبها وبقيت كذلك أياما متغيرة اللون ضعيفة النور والله على كل شيء قدير، ثم قال: واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكسوف والعيد واستبعده أهل النجامة.

ثم قال أبو شامة: ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه: وصل إلينا في جمادي الآخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد وانهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون دارا، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شيء كثير، وأشرف الناس على الهلاك وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة وتخترق أزقة بغداد.

قال: وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم لما كان بتاريخ ليلة الأربعاء الثالث من جمادي الآخرة ومن قبلها بيومين عاد الناس يسمعون صوتا مثل صوت الرعد فانزعج لها الناس كلهم وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله يوم الأربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة وصبح يوم الجمعة ارتجت الأرض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم وأشفق الناس من ذنوبهم وسكنت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر، ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الأرض فارتاع لنا الناس روعة عظيمة ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة، ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة وعظمت، وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة واستجار الناس بها وأحاطوا بالحجرة وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى واستجاروا نبيه عليه الصلاة و السلام وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل، وخرج النساء من البيوت والصبيان واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله وغطت حمرة النار السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر وبقيت السماء كالعلقة وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن وراكع وساجد وداع إلى الله عز وجل ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب، ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ذلك ولهيبها، وصعد الفقيه والقاضي إلى الأمير يعظونه فطرح المكس وأعتق مماليكه كلهم وعبيده ورد علينا كل ما لنا تحت يده وعلى غيرنا، وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهابا وهي كالجبل العظيم ارتفاعا وكالمدينة عرضا يخرج منها حصى يصعد في السماء ويهوى فيها ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعد، وبقيت كذلك أياما ثم سالت سيلانا إلى وادي ( أجيلين ) تنحدر مع الوادي إلى الشظا حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرة الحاج والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرة العريض، ثم سكنت ووقفت أياما ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها حتى بنت لها جبلين وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياما، ثم إنها عظمت وسناءها إلى الآن وهي تتقد كأعظم ما يكون، ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة، ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال وإنما هذا طرف يكفي. والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الآن.وكتب هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر.

وقد قال فيها بعضهم أبياتا:

يا كاشف الضر صفحا عن جرائمنا *** لقد أحاطت بنا يا رب بأساء
نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها *** حملا ونحن بها حقا أحقاء
زلازل تخشع الصم الصلاب لها *** وكيف يقوى على الزلزال شماء!
أقام سبعا يرج في الأرض فانصدعت *** عن منظر منه عين الشمس عشواء
بحر من النار تجري فوقه سفن *** من الهضاب لها في الأرض أرساء
كأنما فوقه الاجبال طافية *** موج عليه لفرط البهج وعثاء
ترمي لها شررا كالقصر طائشة *** كأنها ديمة تنصب هطلاء
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت *** رعبا وترعد مثل السعف أضواء
منها تكاثف في الجو الدخان إلى *** أن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سفعة في البدر لفحتها *** فليلة التم بعد النور ليلاء
تحدث النيرات السبع ألسنها *** بما يلاقي بها تحت الثرى الماء
وقد أحاط لظاها بالبروج إلى *** أن كاد يلحقها بالارض إهواء
فيالها آية من معجزات رسو *** ل الله يعقلها القوم الألباء
فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت *** منا الذنوب وساء القلب أسواء
فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد *** واصفح فكل لفرط الجهل خطاء
فقوم يونس لما آمنوا كشف الـ *** العذاب عنهم وعم القوم نعماء
ونحن أمة هذا المصطفى ولنا *** منه إلى عفوك المرجو دعّاء
هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت *** محجة في سبيل الله بيضاء
فارحم وصل على المختار ما خطبت *** على علا منبر الأوراق ورقاء".

البداية والنهاية (13/199)

والله المستعان وعليه التكلان، اللهم اصرف عنا وعن إخواننا المصائب، ورد عنا رد المعائب، ولا تؤاخذنا بما فعلنا، ولا تعذبنا بذنوبنا.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات