حادثة نزول الوحي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: السيرة النبوية

اقتباس

تساقط أراء المشككين فى حقيقة الوحي ومكانة النبي - صلى الله عليه وسلم -, فلقد كان أميا لا يقرأ ولا يكتب, حتى لا يساير البعض من المفتونين والجهال دعاوى أعداء الأمة, فى أن الوحي السماوى إنما تعلمه من الأحبار والرهبان والعلماء من الأديان السابقة, وليس فى وسع أمي أن يخبر عن حقائق تاريخية كبيرة مثل

 

 

 

 

 

 تعتبر حادثة نزول الوحي من أهم وأكبر الحوادث فى تاريخ البشرية والإنسانية جمعاء وليس فى تاريخ المسلمين وحدهم, ومن أعز تكرمات المولى جل فى عليائه على خلقه ومهما حاولنا أن نسطر فى وصفه كلمات أو ندبج في مدحه عبارات ما وفينا الحدث معشار قدره وفضله وجلالته, فهو الحياة بعد الموت, والنور بعد الظلمة, والهداية بعد الضلالة, والإستقامة بعد الحيرة والتوهان, والبعث بعد العدم, والمحبة بعد المقت, والنجاة بعد الهلاك, إنها لحظة الإصطفاء والإنتقاء لعبده ورسوله الكريم صلوات ربي وسلامه عليه, ليكون للعالمين هاديا ومبشرا ونذيرا.

 

ولضخامة هذا الحدث الجلل فإن الله - - عز وجل - - قد جعل له مقدمات وعلامات وتمهيدات لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - تهيئة واستعدادا للحظة الحاسمة التي سينزل فيها جبريل - - عليه السلام -- بوحي من السماء.

 

الحديث الشامل لحادثة الوحي:

 

الحديث الجامع لمبتدأ التنزيل والبعث قد أخرجه البخاري فى كتاب التعبير, وكتاب التفسير, وكتاب الإيمان, وكتاب الوحي, كما أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان – باب بدء الوحي – وأخرجه الترمذي والنسائي في التفسير, والإمام أحمد فى مسنده, وكلهم عن عائشة - - رضى الله عنها -- أنها قالت: أول ما بدء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة ( فى لفظ البخاري الصادقة ) فى النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد – الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع الى خديجة فتزوّده لمثلها, حتى فجأه الحق وهو فى غار حراء فجاءه الملك فيه فقال: إقرأ, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فقلت: ما أنا بقارئ, قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: إقرأ, فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: إقرأ فقلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: ( إقرأ بإسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم ) فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني, فزملوه حتى ذهب الى عنه الروع, فقال: يا خديجة مالي, فأخبرها الخبر, وقال قد خشيت علىّ فقالت له: كلا, أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم, وتصدق الحديث وتحمل الكلّ, وتقري الضيف, وتعين على نوائب الحق, ثم إنطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي, وهو ابن عم خديجة ابن أخي أبيها وكان امرؤ تنصر فى الجاهلية, وكان يكتب الكتاب العبراني, وكان شيخا كبيرا قد عمى, فقالت له خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك, فقال ورقة: ابن أخي ما ترى ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رآه, فقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني فيها جذعا أكون حيا حين يخرجك قومك, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجي هم ؟ قال ورقة: نعم, لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي, وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا, ثم لم ينشب ورقة أن توفي, وفتر الوحي ).

 

إرهاصات نزول الوحي:

 

لم يكن قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره من البشر كافة ليحتمل النزول المفاجئ للرسول الملكي جبريل - عليه السلام -بهيئته المهولة – يسد ما بين الأفق وله ستمائة جناح – إلا بعد تمرين وإعداد وتعويد على هذا اللقاء الضخم, لذلك كانت هناك عدة إرهاصات قبل الحادثة منها:

 

تسليم الحجر:

 

فقد كانت من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا أراد قضاء حاجته أبعد طلبا للستر والصيانة, وكان كلما مر بطريق معين سلم عليه حجر بعينه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول الله, فعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث, إني لأعرفه الآن " أخرجه مسلم فى كتاب الفصائل, الترمذي فى المناقب, والإمام أحمد والدارمي فى المقدمة.

 

وفى سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد والسيرة للذهبي: أن هذا التسليم لم يكن قاصرا على حجرا بعينه, ولكن على كل حجر وشجر يمر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاليا وكان الرسول يلتفت فلا يرى إلا الحجارة والشجر.

 

2. الرؤيا الصادقة:

 

الصادقة هى لفظ البخاري, وتروى الصالحة كما عند مسلم وغيره, فعن عائشة - رضى الله عنها - قالت: " أول ما بدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة فى النوم, فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح..... " أي تتحقق كاملة بحذافيرها كما رآها الرسول تماما, والرؤيا الصالحة هي التي ينشرح لها الصدر وتسعد بها النفس ويرتاح إليها الخاطر.

 

فضل الرؤيا الصالحة:

 

هي من المبشرات, ففى الحديث " لم يبق من النبوة إلا المبشرات, فقالوا: وما المبشرات ؟ قال ك الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " البخاري فى كتاب التعبير, مسلم فى كتاب الصلاة.

 

من أجزاء النبوة, ففى الحديث " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " البخاري كتاب التعبير, مسلم فى كتاب الرؤيا.

 

هي هبة من الله، ففي الحديث " الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان " البخاري فى كتاب بدء الخلق, مسلم فى كتاب الرؤيا.

 

استمرت الرؤيا الصالحة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر كما ورد بذلك الأثر, لم ينزل خلالها شيء من القرآن, والحكمة من تلك الرؤى هي تدريب النبي - صلى لله عليه وسلم -, لتلقي وحي السماء كلام الله - - عز وجل - - والذي يحتاج لجنان ثابت وعقل كامل لحفظه وفهمه وتدبره ثم نقله للعالمين.

 

3. حب الخلاء والتعبد:

 

وذلك فى نفس سياق حديث عائشة - - رضى الله عنها -- وفيه: " ثم حبب إليه الخلاء, فكان يخلو بغار حراء, فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد, قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك, ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء " البخاري فى عدة مواضع – فى كتاب التعبير كتاب التفسير وكتاب الإيمان وكتاب بدء الوحي, ومسلم فى كتاب الإيمان, والترمذي والنسائي فى التفسير, وابن حبان فى كتاب الوحي.

 

الخلاء هو الخلوة والانقطاع عن مخالطة الناس ومشاغل الحياة, وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج الى غار حراء فى كل عام شهرا من السنة, وغار حراء غار لطيف الموقع والمساحة, إذ يقع على بعد نحو ميلين من مكة فى جبل متوسط يشرف على مكة ــ يعرف عند العامة باسم جبل النور ــ, ومساحة الغار أقل من ثلاث أمتار طولا فى متر ونصف عرضا, أي تلائم فكرة الخلوة والإعتكاف للتأمل والتدبر.

 

قد كان ذلك الغار مقصد المتنسكين من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -, وكذلك شهر رمضان كان المفضل عندهم - لعل ذلك من أثار الدين الإبراهيمي – وكان الرسول ينقطع للتعبد والتأمل والنظر فى ملكوت الخالق ومشاهد الكون من حوله, وكان يطعم من جاءه من المساكين, وربما كانت تأتيه زوجته خديجه بالطعام والشراب فيجالسها فترة من الوقت ثم تعود هي الى بيتها, وربما نزل هو - صلى الله عليه وسلم - كل بضعة أيام للتزود ثم العوده, وقول عائشة: فيتحنث الليالي ذوات العدد, فهذا كناية عن توسط خلوته - صلى الله عليه وسلم -, فلا هى قليلة ولا هى كثيرة وكان ذلك فيما بعد شعاره - صلى الله عليه وسلم - التوسط فى الأعمال والطاعات ليناسب الناس جميعا.

 

وقد اختلف أهل العلماء فى تحنثه أي تعبده - صلى الله عليه وسلم - فى غار حراء, كيف كان ؟ وعلى أي شريعة ؟ فذهبوا مذاهب شتى من كونها على شريعة نوح تارة, وشريعة إبراهيم تارة, وشريعة موسى, وشريعة عيسى وعليهم وعلى رسولنا أفضل الصلاة وأتم التسليم, والأشبه الأقوى كما رجح ذلك ابن كثير أنه على كان شريعة ابراهيم - عليه السلام -.

 

أما الحكمة من هذه الخلوة فقد كانت بمثابة الإعداد الخاص والتربية الراقية لتحمل أعباء وتكاليف الدعوة, كانت تصفية للنفس وتقوية للقلب واستجماعا للخاطر, كان تأديبا ربانيا لحامل الدعوة الذى لابد له من فترات ينقطع فيها عن شواغل الارض وضجيج الحياة وهموم الناس الكثيرة, ولعظم الفوائد التى يتحصلها العبد من خلوته شرع لنا سنة الاعتكاف فى رمضان, وهى مهمة لكل مسلم لتنقية الشوائب التى تعلق بالنفوس والقلوب.

 

توقيت نزول الوحي:

 

بالنسبة لتوقيت نزول الوحي فقد حدث فيه خلاف واسع بين أهل العلم على الرغم من اعتقاد كثير من الناس أن لا خلاف فى المسألة, هذا الخلاف طوال العام والشهر واليوم, وإن كان قد حدث اتفاق على تحديد أيام الأسبوع.

 

فقد ذهب جمهور العلماء على أن الوحي قد أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو فى سن الأربعين, قالوا: إن هذا هو سن الكمال وعليه ترسل الرسل, واستدلوا على ذلك بحديث البخاري عن أبي عباس قال: " بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وستين سنة ".

 

فى حين ذهب سعيد بن المسيب وعامر الشعبي الى أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه وهو ابن ثلاث وأربعين, فمكث بمكة عشرا وبالمدينة عشرا, ومات وهو ابن ثلاث وستين, وقد تعقب الإمام النووي تلك الرواية وحكم عليها بالشذوذ, وقال: الصواب أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث على رأس الأربعين سنة, وهذا هو المشهور الذى أطبق عليه العلماء, ووافقه السهيلي فى الروض الأنف وقال: إنه الصحيح عند أهل السير, والعلم بالأثر.

 

وبالنسبة للشهر الذى أنزل عليه فيه, فانقسم أهل العلم لفريقين, الأول أنه يرى أنه شهر رمضان وهو الراجح الذى لا يعتد إلا به لقوله - عز وجل - (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن. .... ) [البقرة: 185] وقوله: ( إنا أنزلناه فى ليلة القدر ) [القدر: 1], وعليه كثير من أهل العلم فى حين ذهب الفريق الثانى أنه قد أنزل عليه فى شهر ربيع الأول وهو مروي عن بعض الصحابة مثل إبن عباس وجابر - رضى الله عنهما -.

 

أما بالنسبة لليوم من شهر رمضان فاختلفوا فيه لأقوال شتى, منها قول أبى جعفر الباقر من آل البيت: أنه كان لسبع عشرة ليلة حلت من رمضان, وقيل فى أول ليلة وليلة عشرين رمضان, ولكن ورد فى تحديد اليوم حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد عن وائلة بن الأسقع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أنزلت صحف إبراهيم فى أول ليلة من رمضان, وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان, وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان, وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان, وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " وهو فى صحيح الجامع برقم 1497.

 

وقد اجتهد العلامة صفي الرحمن المباركفوري فى كتاب القيم ( الرحيق المختوم ) ورجح أن يكون نزول الوحي يوم الحادي والعشرين وهو قول غير مسبوق استنبطه من الربط من كون نزول الوحي يوم الاثنين وبين الحسابات الفلكية العلمية للسنة, وهو اجتهاد مشكور مأجور عليه, ولكن الدليل الصحيح الصريح يقطع كل اجتهاد, لذلك كان الراجح أن نزول الوحي كان يوم الرابع والعشرين من شهر رمضان.

 

أما تحديد أي من أيام الأسبوع فهذا مما لم يقع فيه خلاف بين أهل العلم, إذ أجمعوا على أنه كان يوم الاثنين لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن صوم الاثنين: " فيه ولدت وفيه أنزل عليّ القرآن. ... " أخرجه مسلم وأحمد.

 

كيفية نزول الوحي:

 

وفى اللحظة الخالدة التى هي أهم محطة فى حياة البشرية جمعاء, أذن المولى - جل فى عليائه - بنزول الوحي على خير عباده وصفوة خلقة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -, وبالنظر لحديث عائشة - رضى الله عنها -فى وصف نزول الوحي تتضح لنا عدة حقائق هامة منها:

 

التعب والجهد الكبير الذي عانى منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثناء تلقيه لرسالة السماء, ولك أن تتخيل ملك مقرب مثل جبريل - عليه السلام -الذى هو رأس الملائكة وأقواهم، يسد ما بين السماء والأرض، وله ستمائة جناح، يضم بشري مهما كان كماله مثل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويضغط عليه عدة مرات, والله - عز وجل - غني عن تعب عبده ومشقته ولكنه سبحانه وتعالى أراد بذلك حكمة عظيمة وهى معرفة قدر أهمية هذا الوحي وعظمته وضخامة مكانته وأنه يحتاج لبذل أقصى وسع وأكبر مجهود للقيام بواجب تحمله وأدائه, وأن هذا الدين الجديد لن يقوم به إلا الأشداء والرجال, ليعلم المسلمون الآن أن ما هم عليه من علم وهداية ما جاءهم إلا بعد شدة وكرب وعلى أكتاف رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

إن أول ما نزل من وحي السماء قوله - عز وجل – ( إقرأ باسم ربك الذي خلق. ..) هو دعوة للعلم والاهتمام بالنظر فى خلق الإنسان وأصله, وفى ذلك إشارة واضحة بأن العلم والمعرفة من أخص خصائص الإنسان عامة والمسلم خاصة, وأيضا فيه تنويه بخطورة وأهمية العلم الذي يعتبر من أهم أدوات البناء المعرفي للأمم والجماعات, حتى يتقى الله كل من كتب له الله - عز وجل - أن يكون من حملة الأقلام, ولا يكتب بيده إلا كل نافع وبانى للأمة.

       

وقد ذهب بعض أهل العلم مثل أبي سلمة    بن عبد الرحمن الى أن أول ما نزل  من القرآن سورة المدثر, ولكن الراجح إن المدثر هي أول ما نزل من القرآن بعد فتور الوحي, وإن سورة القلم هى أول ما نزل من القرآن.

 

تساقط أراء المشككين فى حقيقة الوحي ومكانة النبي - صلى الله عليه وسلم -, فلقد كان أميا لا يقرأ ولا يكتب, حتى لا يساير البعض من المفتونين والجهال دعاوى أعداء الأمة, فى أن الوحي السماوى إنما تعلمه من الأحبار والرهبان والعلماء من الأديان السابقة, وليس فى وسع أمي أن يخبر عن حقائق تاريخية كبيرة مثل قصص الأنبياء والمرسلين ويؤكد صدقها علماء الأديان السابقة, إلا إذا كان يعلمه ويوحى إليه هو الله - عز وجل -, وأمية الرسول - صلى الله عليه وسلم - من معجزاته الدالة على صدق نبوته والقاطعة لشكوك المبطلين كما قال الله عز وجل: ( وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون. ..) [العنكبوت: 48].

 

أنواع الوحي:

 

إن حقيقة الوحي هى الأساس الذى تترتب عليه جميع الحقائق والثوابت فى هذا الدين من تشريعات وعقائد وآداب وأخلاق وأحكام تشمل مناحي الحياة كلها, لذلك نزل الوحي منجما من السماء حسب الوقائع والأحداث, وتلك الطريقة من النزول أخذت أنواعا مختلفة من الوحي منها:

 

الرؤيا الصادقة, واستمرت ستة شهور كما مر بنا:

 

الإلهام, وهو أن ينفث الملك فى قلبه أو روعه من غير أن يراه, ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن روح القدس نفث فى روعي لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها, فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب ".

 

صلصلة الجرس أي مثل صوته فى القوة, وهى أشد الصور, وفى حديث عائشة أن الحارث سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف يأتيك الوحي ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ, فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمني, فأعي ما يقول " أخرجه البخاري فى بدء الوحي.
الوحي المباشر بلا واسطة كما حدث فى فرضية الصلاة فى حادثة الإسراء والمعراج.

 

الوحي عن طريق جبريل - عليه السلام -وهو فى صورة رجل, يخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وأحيانا كان الصحابة يرون هذا الرجل وغالبا ما يكون يتمثل فى صورة الصحابي دحية بن خليفة الكلبي.

 

نزول الوحي كان من الشدة والعظمة بمكان أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أرتجف من شدة الفزع أول مرة وعاد بيته ترتجف بوادره – ما بين الرقبة والكتف – من هول ما رأى وهو يقول: زملوني زملوني, على الرغم من كونه - صلى الله عليه وسلم - أشجع خلق الله وأثبتهم قلبا وأقواهم بدنا ونفسا كما هو معروف طوال رحلة كفاحه من أجل نشر الدين, ومن شدة الوحي كان - صلى الله عليه وسلم - يتفصد عرقا فى اليوم الشاتي شديد البرودة, ويتربد وجهه, بل إن راحلته كانت تبرك حتى تكاد تندق عنقها إذا نزل عليه الوحي وهو على ظهرها, وكان إذا نزل عليه الوحي وهو بين أصحابه غاب عنهم بقلبه فلا يكاد يجرؤ أحد على الحديث معه أثناء ذلك.

 

دور خديجة فى تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم -:

 

إن كان الوحي قد نزل على رسول الله - عليه الصلاة والسلام -, وهو أهم شخصية فى تلك الحادثة – وفى كل الأحداث – إلا إن خديجة - رضى الله عنها -قد لعبت أبرز وأهم الأدوار المساعدة فى تثبيت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبوأت المكانة السامية فى سلم كمال العقل ورجحان الرأي, فهي لم تستقبل زوجها المفزوع بما رآه من هول نزول الوحي بالبكاء والصياح الولولة كما هى عادة معظم النساء, بل كانت له ملاذا آمنا وحضنا دافئا وسكنا هادئ أذهب روع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لها عظيم الأثر فى خدمة الدعوة.

 

 ولقد أتبعت خديجة - رضى الله عنها -منهجا فريدا فى تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك باتباع الخطوات المنهجية العلمية والعملية التى شملت أدق وأرقى الأساليب في التقرير والاستدلال والوصول للنتيجة, وهى بذلك قد لبست مسوح فطاحل العلماء على الرغم من بساطتها وأميتها, وهذه الخطوات والأساليب شملت ما يلي:

 

الإقناع الإستدلالي:

 

فلما دخل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم – وهو يرتجف مما رآه ثم قص عليها الخبر وقال لها: لقد خشيت على نفسي أى خاف أن يكون قد أصيب بمرض أو مس من الشيطان أو أي نوع من المصائب والابتلاءات, فلما سمعت منه هذا الكلام هدأت من روعه وطمئنت باله, واستخدمت فى هذا الإقناع الاستدلالي بالعلامات والبراهين فقالت له بعبارات وجيزة بليغة: " كلا والله ما يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم, وتصدق الحديث, وتحمل الكل, وتقري الضيف, وتعين على نوائب الحق ".

 

وعلى الرغم من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم جيدا أن هذه الصفات الحميده وخصال الخير موجودة فيه ويقوم بها على الدوام, إلا أنه فى تلك المرحلة الحرجة من نزول الوحي كان محتاجا لمن يذكره بها يستدل له بها على أن ما تعرض له ليس من الشيطان أو مصائب الدنيا, فخديجة قد استدلت بتلك الكلمات الوجيزة على الكمال المحمدي, وأن صاحب تلك الخصال والصفات لن يخزيه الله - عز وجل - أبدا, كأن خديجة قرأت قوله - عز وجل - قبل أن ينزل به الوحي: ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد) [فصلت: 46].

 

سؤال أهل العلم:

 

حيث لم تكتفي خديجة - رضى الله عنها -بأدلتها العقلية فى إقناع النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ما رآه هو الخير العظيم المقبل أيامه, بل سارعت به للدرجة الثانية من الإقناع وهى سؤال أهل العلم الثقات عن هذه الحادثة, فلم تسأل أحدا من الكهان أو العرافين كما كان سائدا فى الثقافة الجاهلية وبيئة العصر, لأنها علمت أن هذه الحادثة لا مجال للكهان فيها, ثم إنها قد أستدلت من قبل على أن ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من الشيطان, فكيف إذا تذهب الى الكهان الذين هم أولياء الشيطان ؟ لذلك كله ذهبت خديجة لمن عنده علم من الكتاب والرسالات السماوية السابقة وهو ورقة بن نوفل ابن عمها, وهو فى نفس الوقت من أقرباء النبي - صلى الله عليه وسلم - لتكون الإجابة أدق وأخلص وأنصح لذوي القربى, وجاءت الإجابة لتؤكد ما استدلت به خديجة من قبل, إذ قال له له: " هذا الناموس – أي صاحب سر الخير ويقصد جبريل – الذي أنزل على موسى. ......".

 

التجربة العملية:

 

الإقناع العقلي ثم سؤال أهل العلم – ورقة بن نوفل – كلاهما أفضى بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لمرحلة الطمأنينة والتصديق بنبوته, غير أن خديجة - رضى الله عنها - قد فعلت ما هو أبعد من ذلك, حيث أثبتت بالتجربة العملية صدق نبوة الرسول وإن الذي يأتيه إنما هو ملك مقرب من عند الله - عز وجل -.

 

فقد أخرج البيهقي بسنده وابن إسحاق فى سيرته وقد صرح بالسماع: أن خديجة بنت خويلد قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك – يعني جبريل – هذا الذي يأتيك إذا جاءك فقال: نعم, فقالت: إذا جاءك فأخبرني, فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها إذ جاء جبريل, فرآه رسول الله فقال: يا خديجة هذا جبريل, فقالت: أتراه الآن فقال: نعم, فقالت: فاجلس الى شقي الأيمن, فتحول فجلس, فقالت: هلى تراه الآن ؟ فقال: نعم, قالت: فاجلس فى حجري فتحول رسول الله فجلس, فقالت: هل تراه الآن ؟ قال: نعم, فتحسرت رأسها فألقت خمارها ورسول الله جالس فى حجرها فقالت: هل تراه الآن: فقال لا, قالت: ما هذا شيطان إن هذا لملك يا ابن العم, فاثبت وأبشر, زاد ابن اسحاق وقال: فحدثت عبدالله بن الحسن هذا الحديث, فقال: قد سمعت فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول: " أدخلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل - عليه السلام –".

 

فضل خديجة ووفاء النبي لها:

 

لقد ضربت خديجة المثل الأعلى والقدح المعلى فى الزوجة العاقلة المؤمنة الصابرة الحانية الحاضنة, وكانت من أكبر عوامل نجاح الدعوة المحمدية فى بدايتها واستحقت بما قدمته للرسول - صلى الله عليه وسلم - والدعوة لأن تكون فى سدة الفضل لنساء العالمين, فقد أخرج البخاري فى كتاب أحاديث الأنبياء, ومسلم فى كتاب فضائل الصحابة من حديث على رضي الله عنه, قال: سمعت رسول الله صلى وسلم يقول: " خير نسائها مريم بنت عمران, وخير نسائها خديجة بنت خويلد " وأشار وكيع بن الجراح أحد رواة الحديث الى السماء والأرض, وفى مسند الإمام أحمد والترمذي فى كتاب المناقب والهيثمي فى موارد الظمآن والحاكم فى مستدركه وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي, عن أنس رضى الله عنه, أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران, وخديجة بنت خويلد, وفاطمة بنت محمد, وآسيا إمرأة فرعون ".

 

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: " أتى جبريل النبي - صلى لله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام, فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ".

 

وفى المقابل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد الحب والوفاء لخديجة - رضى الله عنها - فلم يتزوج عليه حتى توفيت على الرغم من أنه كانت تكبره بخمسة عشر سنة, وكان بعد رحيلها دائم الذكر والثناء عليها يصل قريباتها ويود صحاباتها, حتى أن عائشة كانت تغار منها ولم تراها وكانت تقول: " ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان يكثر ذكرها, وربما ذبح الشاه ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثها فى صدائق خديجة, فربما قلت له: كأنه لم يكن فى الدنيا كلها امرأة إلا خديجة ؟ فيقول: كانت وكانت وكان لي منها ولد " متفق عليه.

 

 وكفى لخديجة فضلا ومنقبة أنها كانت أول من آمن بنبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وجه الأرض, وهي المثل الأرقى لزوجة الداعية وصاحب الرسالة وقدوة الزوجات الصالحات العظيمات اللأتي يقضين خلف أزواجهن الدعاة أصحاب قضية نشر الدعوة الإسلامية.

 

فضل ورقة بن نوفل وشرف الصحبة:

 

ورقة بن نوفل كان أحد القلائل الذين رفضوا ما عليه قومهم من شركيات وضلال وخرجوا يبحثون عن الحق بأرض النبوات – الشام – وهناك أعتنق ورقة النصرانية وأخذ يكتب كتبها بالعبرانية فى حين رفض زميله زيد بن عمرو من فضل اعتناقها واتبع دين إبراهيم, ولما نزل الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ورقة شيخا كبيرا كف بصره وثقل بدنه ولكن عنده علم واسع وقد أطلع على أخبار النبي من الكتب السابقة وكان يتوقع ظهوره لاقتراب زمانه, فلما أخبرته ابنة عمه خديجة بالخبر, صدق وآمن مباشرة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -, بل تمنى أن يكون شابا قويا جلدا يجاهد فى سبيل الله ودفاعا عن رسول الله عندما يحدث الصدام والمواجهة مع قوى الكفر والشرك.

 

لذلك فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تسبوا ورقه فإني رأيت له جنة أو جنتين" أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

 

وهذا يدل على مكانة وعظم وشرف صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -, فورقة لم يلتقي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - سوى مرة واحدة وآمن فيها بنبوته وأقرها ثم لم ينشب أن مات, قبل الشرائع والأحكام والعبادات، فكان له النعيم المقيم والجنة والجنتان لإيمانه وصحبته للنبي, وفى هذا وأقوى وأبلغ رد على هؤلاء الرافضة أعداء الدين الذين يسبون خير القرون وخير الناس بعد الأنبياء والمرسلين ويتناولونهم بالتفسيق والتكفير.

 

أهم الدروس والعبر:

 

نزول الوحي هو أعظم وأخطر الأحداث التى وقعت للأمة الإسلامية فى بدايتها.

 

الأحداث الجسام تحتاج لتربية وتعويد وتدريب قبل القيام بها وهذه ظاهرة من إرهاصات نزول الوحي مثل تسليم الحجر والرؤيا الصالحة.

 

أهمية الخلوة ومراجعة النفس ومحاسبة المرء لنفسه على أعماله, وأهمية النظر والتأمل والتفكير فى الخلق من أجل تنوير القلب والإنتصار على الهفوات والشهوات.

 

التحقيق التاريخي لتوقيت نزول الوحي.

مدى التعب والمشقة والجهد الشديد الذى تحمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجل تحمل نزول الوحي وواجب الدعاة نحو حمل هم قضية الدعوة والصبر على مشاقها.

 

دور المرأة الصالحة العاقلة فى خدمة الدعوة, وأثر الثبات الذى تلقيه فى قلب زوجها الداعية وهو ظاهر من دور خديجة وأساليبها فى تقرير صدق النبوة.

 

شرف الصحبة ومكانتها فى ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم -.

 

 

---------

 

المراجع:

 

  • سيرة ابن هشام.
  • دلائل النبوة.
  • الروض الأنف.
  • تاريخ الطبري.
  • البداية والنهاية.
  • السيرة النبوية للذهبي.
  • الطبقات.
  • السيرة النبوية للصلابي

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات