قصة أصحاب الكهف دستور النجاة من الفتن

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الأمم السابقة

اقتباس

وفى قصة الفتية نجد أنهم رفضوا حياة الترف وما كان عليه أهلوهم وقومُهم من عبادة غير الله، وهم لا زالوا في مرحلة الشباب والفُتوَّة، والآمال في الحياة عريضة، ومَجالات الانطلاق نحو الشهوات سهلة مُيسَّرة؛ لكنهم رفضوا وأنكروا ما كان عليه قومهم، وقرَّروا العزلة وترك الإقامة بين ظهراني أهل الشرك والترف، الذين لا يعرفون لهم ربًّاً ولا إلهًا حقًّاً يعبدونه، (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف:16].

 

 

 

تَرتبِط سورة الكهف ارتباطًا وثيقًا بأحداثِ آخِر الزمان؛ والفتن العظيمة التي تصاحبها، ومنها ظهور الدجال الأكبر الذي يُمهِّد له دجالون صغار؛ صناعتهم الكذب، وبضاعتهم التمويه وقلب الحقائق، وغاياتهم الدنيئة تُبرِّر وسائلهم وأساليبهم التي لا تَعرِف صِدقًا ولا رحمةً ولا عدلاً. وقد اشتملت السورة على أربع قصص متَّفقة في أغراضها ومدلولاتها؛ وهي: قصة الفِتية المؤمنين - قصة صاحب الجنتين - قصة موسى والخضِر - قصة ذي القرنين-  وكلها تُعالج قضية الصراع بين الإيمان والمادية، بين الحقيقة والزَّيف، بين العلم بظواهر الأمور وبواطنِها وما تؤول إليه، بين راغبي الدنيا المُغترِّين بزينتها، وبين طالبي الآخرة الذين يَزِنون الأمور بميزان العدل والخير، وتضع خريطة طريق واضحة المعالم لطالبي النجاة من الفتن.

 

فقصص سورة الكهف الأربعة يربطها محور واحد وهو أنها تجمع الفتن الأربعة في الحياة:  فتنة الدين: (قصة أهل الكهف)، فتنة المال: (صاحب الجنتين)، فتنة العلم: (موسى عليه السلام والخضر) وفتنة السلطة: (ذو القرنين )، وهذه الفتن شديدة على الناس والمحرك الرئيسي لها هو الشيطان الذي يزيّن هذه الفتن ولذا قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف:50]، وكان -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ في صلاته من أربع منها فتنة المسيح الدجال.

 

وقصص سورة الكهف ككل تتحدث عن إحدى هذه الفتن ثم يأتي بعده تعقيب بالعصمة من الفتن:

1-فتنة الدين: في قصة الفتية الذين هربوا بدينهم من الملك الظالم فآووا إلى الكهف حيث حدثت لهم معجزة إبقائهم فيه ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً، وكانت القرية قد أصبحت كلها على التوحيد.

 ثم تأتي آيات تشير إلى كيفية العصمة من هذه الفتنة، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف: 28 – 29].

 

2-فتنة المال: في قصة صاحب الجنتين الذي آتاه الله كل شيء فكفر بأنعم الله وأنكر البعث فأهلك الله –تعالى- الجنتين.

 

ثم تأتي العصمة من هذه الفتنة: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:45-46].

 

3-فتنة العلم: في قصة موسى -علية السلام- مع الخضر وكان ظنّ أنه أعلم أهل الأرض فأوحى له الله –تعالى- بأن هناك من هو أعلم منه فذهب للقائه والتعلم منه فلم يصبر على ما فعله الخضر؛ لأنه لم يفهم الحكمة في أفعاله وإنما أخذ بظاهرها فقط. وتأتي آية العصمة من هذه الفتنة: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) [الكهف:69].

 

4-فتنة السلطة: في قصة ذو القرنين الذي كان ملكاً عادلاً يمتلك العلم وينتقل من مشرق الأرض إلى مغربها عين الناس ويدعو إلى الله وينشر الخير حتى وصل لقوم خائفين من هجوم يأجوج ومأجوج فأعانهم على بناء سد لمنعهم عنهم وما زال السدّ قائماً إلى يومنا هذا.

 وتأتي آية العصمة: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103 -104]، ولعل قصة أصحاب الكهف كانت الأبرز في هذه السورة لذلك سميت السورة باسمها، وطارت الشهرة كلها لأصحابها.

 

أولاً: فضائل سورة الكهف:

قد ورد في فضلها أحاديث منها ما أخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال".

 

 وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن حبان عن أبي الدرداء قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ". وأخرج البخاري و مسلم وغيرهما عن البراء قال: "قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اقرأ فلان، فإن السكينة نزلت للقرآن". وهذا الذي كان يقرأ هو أسيد بن حضير كما بينه الطبراني. وأخرج الترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال". وفي قراءة العشر الآيات من أولها أو من آخرها أحاديث، وأخرج ابن مردويه، والضياء في المختارة عن علي قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون، فإن خرج الدجال عصم منه". وأخرج الطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، والضياء عن أبي سعيد الخدري قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ سورة الكهف كانت له نوراً من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره". وأخرج الحاكم وصححه من حديث أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". وأخرجه البيهقي أيضاً في السنن من هذا الوجه ومن وجه آخر، وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين"، وفي الباب أحاديث وآثار، وفيما أوردناه كفاية مغنية.

 

ثانياً: مختصر قصة أصحاب الكهف:

وفى قصة الفتية نجد أنهم رفضوا حياة الترف وما كان عليه أهلوهم وقومُهم من عبادة غير الله، وهم لا زالوا في مرحلة الشباب والفُتوَّة، والآمال في الحياة عريضة، ومَجالات الانطلاق نحو الشهوات سهلة مُيسَّرة؛ لكنهم رفضوا وأنكروا ما كان عليه قومهم، وقرَّروا العزلة وترك الإقامة بين ظهراني أهل الشرك والترف، الذين لا يعرفون لهم ربًّاً ولا إلهًا حقًّاً يعبدونه، (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف:16]. 

 

إنهم فتية من الشباب ذوو قوة وعزيمة، ما تجاوز عددهم العشرة وهم إلى السبعة أقرب، نشئوا في مجتمع كفر وطغيان، ومنّ عليهم المنان بكرامة الإيمان، وزادهم من هداه، وربط على قلوبهم بالثبات والطمأنينة في أتّون  ذلك المجتمع الكفري الظلوم الذي لا يتعامل مع المؤمن إلا بالرجم أو الفتن عن الدين؛ فقاموا بالإيمان قولاً وفعلاً، (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف: 14]؛ إقراراً منهم بالربوبية والألوهية، ورأوا بنور التوحيد حلكة ظلمة الشرك التي اكتنفت قومهم، ولما رأوا ألا يد لهم بإظهار إيمانهم ومقارعة قومهم وخافوا الفتنة في دينهم والبوء بالخسار بادروا في هجرة قومهم؛ إذ كانت هي السبيل الأمثل لحفظ الإيمان ونمائه؛ لئلا يحرموا الفلاح. وتمخض رأيهم في طلب النجاء بعد اعتزالهم قومهم بإوائهم إلى كهف يعرفونه، يجتمعون فيه ويعبدون ربهم دون أن يراهم أحد حتى يقضي الله بفرج تغيّرِ الحال أو بتوفيّه إياهم من غير افتتان. وشأنهم تضرع إلى الله بسؤاله رحمةً تحيطهم وتهيئتَه لهم أسبابَ رشدٍ تعصمهم من الزلل. وحسن ظنهم بربهم وهم يباشرون الهجرة إلى الكهف يملأ قلوبهم: أنْ ينشر لهم من رحمته؛ فلا يضيقون بالكهف، وأنْ يهيئ لهم في جميع أمورهم رفقاً ويسراً.

 

وكانت -رحمة الله- وتيسيره تحيط بهؤلاء الفتية حين اختاروا كهفاً ذا باب شمالي تميل عن يمينه الشمس إذا طلعت، وإذا تضيفت للغروب تصيبهم؛ فكانوا في جوفه الرحب. وتأمل حفظ الله لهم وهم في رحبة الكهف؛ إذ جعل الشمس لا تصيبهم إلا وقتاً يسيراً قبل الغروب حين يضعف وهجها؛ فينتفعون بها دون ضرر، والهواء يغشاهم في تلك الرحبة، وضرب على آذانهم نومة استغرقت ثلاثمائة وتسع سنين لو رآهم الرائي لظنهم أيقاظاً؛ لانفتاح أعينهم، وتقلبهم في نومهم بين جنبهم الأيمن والأيسر؛ لئلا يختلَّ توازن الدم في أجسامهم أو تأكل الأرض أجسادهم والله -تعالى- قادر على حفظهم من الأرض من غير تقليب لكنه تعالى حكيم؛ أراد أن تجري سنته في الكون، ويربطَ الأسبابَ بمسبباتها، وكلبهم باسط ذراعيه عند الباب للحراسة كأنه لم ينم، وألقى عليهم مهابة تملأ قلب رائيهم رعباً فلا يملك إلا الفرار حين يراهم؛ وذاك ما أوجب بقاءهم كلَّ هذه المدة الطويلة دون أن يعثر عليهم أحد مع قربهم من المدينة. فلما أذن في بعثهم ونشورهم من رقدتهم الطويلة، وخرجوا يلتمسون طعاماً لهم، ورغم كل الاحترازات التي أخذوها كشف الله -عز وجل- أمرهم إذ أعثر الناس على مكانهم؛ لحكمة أرادها الله؛ فاليقين بحقيقة وعد الله وعدم تخلفه - ومن ذلك وعده بإنجاء أوليائه من براثن أعدائه - من مقاصد تقدير الله لحادثة الكهف، وكذلك من مقاصدها العلم واليقين بقيام الساعة وبعث الموتى لها.

 

وعندما عرف الناس مكان أهل الكهف الذي ماتوا فيه؛ وقع التنازع بينهم في الصنيع بهم؛ فمنهم من رأى أن يقام بنيان عليهم يُحمون به ويكونَ أثراً من الآثار، ومنهم من رأى أن يتخذ كهفهم مسجداً، وكان ذلك رأي أهل الغلبة وهم أولوا الأمر فيهم، وذاك ما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولعن فاعله، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ - أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِداً. رواه البخاري ومسلم؛ فالعواطف تلجم برباط الشرع المعصوم؛ فلا تحمل محبة المخلوق على تعظيمه وإنزاله فوق قدره.

 

 

ثالثاً: الدروس والعبر من قصة أصحاب الكهف:

الدروس والعبر والعظات الدعوية والتربوية والإيمانية والعقائدية المستفادة من قصة أصحاب الكهف تصلح لئن تكون دستوراً للسالكين على طريق الله، والباحثين عن مرضاته – جل وعلا – فهي بحق من أعظم القصص القرآني الحكيم الذي يولد دفقات إيمانية وثابة في القلب والنفس والروح. ومن أبرز هذه الدروس:

الأول: الثبات على الحق:

ذكر ابن كثير -رحمه الله - قصة تعرف هؤلاء على بعضهم، وأن كلاً منهم كان يفر بدينه ولا يريد أن يبينه؛ لأنه لا يدري أن أحداً سيكون معه، وهذا من أعظم ما ينبغي أن ينتبه إليه كل داع إلى الله -عز وجل-، وكل عامل في مجال الدعوة إلى الله، وكل مجاهد في سبيل الله، بل كل مسلم في الحقيقة، كل منهم خرج وهو يظن أنه الوحيد، ولم ينتظر أن يكون معه أحد ليتبرأ ويترك دين الباطل، كلهم تركوا قومهم يعبدون الأوثان، وانصرفوا إلى الأرض الواسعة، وكل منهم يظن نفسه وحيداً.

 

لذلك لابد أن تكون ملتزماً بالحق ولو كنت ترى نفسك وحيداً، وهذه فائدة عظيمة، وهذه هي الغربة التي يستشعرها المؤمن حين يرى أكثر أهل الأرض يبتعدون عن دين الله -سبحانه وتعالى-، ولربما كان في مكان أو زمان لا يرى غيره على الحق، ولا شك أن النفوس تتأثر بمن حولها، وأكثر الناس يتبعون الغوغاء والكثرة، ويقولون: وجدنا الناس يقولون شيئاً فقلناه. والناس دائماً تحتاج إلى من يحركها ويوقظها ويدفعها دفعاً إلى الخير أو الشر، إلا الأفذاذ من العالم الذين يتحملون أن يكونوا أفراداً في الحق ولو لم يجدوا على الحق معيناً، فكل منهم كان في نفسه أنه وحده وليس معه أحد، ثم جعل الله صداقتهم وأخوتهم وارتباطهم واجتماعهم على توحيده -سبحانه وتعالى- بعد ذلك إذاً: سر في الطريق وسوف تجد لك رفاقاً بإذن الله، خصوصاً في أمتنا التي قال عنها النبي -عليه الصلاة والسلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة"، وإياك أن تقول: هل أصنع ذلك وحدي؟ لو لم تجد أحداً يدعو إلى الله فكن أنت، لو لم تجد أحداً ينصر الإسلام فكن أنت، لو لم تجد أحداً يقول الحق فقل أنت، لو لم تجد من يطع الله -سبحانه وتعالى- فكن أنت الذي تطيع، واستحضر في ذلك من سبقك على طريق الهدى وما حولك من الكون المطيع؛ فإن من أقوى ما يعينك على الثبات على الحق: أن تستحضر أن الطريق الذي تسير عليه قد سار قبلك فيه خيرة الخلق، أنبياء الله وأولياؤه، فاستحضر على بعد الديار والأزمان مسيرهم، وأنك معهم، وإن افترقت الأبدان الآن فإن الأرواح مجتمعة، وكذلك استحضر أن الكون كله -إلا الثقلين- يعبد الله -سبحانه وتعالى-، وأن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات، وأن الله يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن.

 

الثاني: التضحية سبيل الخلود:

قال ابن كثير في تفسيره: (إنهم فتية)، وهم الشباب، وهم أقبلُ للحقِّ وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتَوْا وانغمَسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثرُ المستجيبين لله –تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- شبابًا، أما المشايخ مِن قريش فعامَّتهم بَقُوا على دينهم ولم يُسلِم منهم إلا القليل والله -عز وجل- إنما وصف أهل الكهف بالفِتْية في سن الشباب التي هي سن النزوة والانطلاق والتحرر والقوة؛ ليَكونوا أُسوةً حسَنة للشباب على الدوام في المعاني الراقية والمثل العالية في خدمة الدين والعمل والتضحية من أجله، وإن خالفَهم مَن خالفهم؛ قال الله -عز وجل-:  (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف: 10]، فتية شباب ترَكوا القصور والبيوت المهيَّأة وأوَوْا إلى الكهف الذي لم يتعوَّدوا أن يعيشوا فيه، ومع ذلك رَجَوْا في هذا الكهف الرحمةَ والرشد؛ لأن العادات والمساكنَ المرضيَّة، والمطعم الهنيء، والملابس النظيفة، ومكان النوم المهيَّأ - كل ذلك لا يسهل على النفوس تركه والتخلي عنه، ولكنها زينة الدنيا الفانية التي لا تأسر العبدَ المؤمن، فتَحمَّلوا أن يكونوا في كهف، وقد كانوا في قصورٍ وبيوت مهيَّأة، وكانوا في مدينة، وربما تحتاج مرة أن تعيش في بيئة غير التي نشأتَ فيها، وفي مسكن غير الذي تعودتَ عليه، وفي فِراش غير الذي تنام عليه؛ لِتَعلَم مدى الفرق بين أن يَعيش الإنسانُ في بيت أو قصر وبين أن يَبيت في كهف، ومع ذلك لم يعبئوا بذلك، ولم يكن ذلك همهم؛ لأنهم ملتفتون إلى ما هو أعظم، ما الذي يُهوِّن على الإنسان أن ينال طعامًا دون طعام، ولباسًا دون لباس؟! كما قال الإمام أحمد: "إنما هو طعامٌ دون طعام، ولباسٌ دون لباس، وصبرُ أيامٍ معدودة".

 

وعلى نهج هؤلاء الفتية المضّحون سار الصحابة الأكرمون والسلف الصالحون، فكم تركوا من لذات ومجون، فأسهروا ليلهم حين نامت العيون، وأظمئوا نهارهم حين شبعت البطون، وقارعوا عدوهم حين هرب الخائفون، فكان لهم الخلود بالذكر الحسن، كما كان لفتية الكهف الخلود بالذكر في أعظم كتب الله - عز وجل.

 

الثالث: اعتزال الناس في أوقات الفتن العامة:

أشار الله - تعالى - بقوله: (فأووا إلى الكهف) يرشد المؤمنين إلى سبيل النجاة وقت اختلاط الأمور وشيوع الفتن وعدم قدرة المؤمن على مواجهة الباطل بعد أن استفرغ جهده، وجاء بكل ما في وسعه لوقفه، يرشدنا إلى اعتزال الناس في الفتن، وقد يكون مرة في الجبال والشعاب، ومرة في السواحل والرباط، ومرة في البيوت وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان يكون خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن".  ولعل هذا يكون في آخر الزمان عند مجيء المسيخ الدجال، أو عندما تشتد الفتن وتطغى.

 

وقد جاء في الخبر: "إذا كانت الفتنة فأخفِ مكانك وكُفَّ لسانك"، ولم يخص موضعاً، ومن هذا نفهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعقبة بن عامر حين سأله: "ما النجاة يا رسول الله؟ "، "يا عقبة أمسك عليك لسانك، ولْيسعْك بيتُك، وابك على خطيئتك".

 

وقد جعلت طائفة العلماء العزلةَ اعتزالَ الشر وأهله بقلبك وعملك إن كنت بين أظهر الناس. قال ابن المبارك -رحمه الله- في تفسير العزلة: "أنْ تكون مع القوم، فإن خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت".

ومن مراسيل الحسن البصري " نعْمَ صوامع المؤمنين بيوتهم " أي وهم في مجتمعهم يدعونهم ويتعرضون إليهم بالنصح والموعظة، فإن اشتدوا عليهم أوَوْا إلى بيوتهم، ثم عاودوا الكرّة. ويؤكد هذه الفكرة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ".

 

والعزلة على مراتب: فأما اعتزال الشر نفسه فهذا فرض على كل أحد، بمعنى أن الإنسان يلزمه أن يترك الشرك والبدع والمعاصي وأن يعتزلها، فهذا فرض لا نحيد عنه، ولا يباح لإنسان مختار أن يأتي شيئاً من المعاصي أو الفسوق فضلاً عن الكفر ويخالط الناس؛ لأنه يشق عليه أن يفارق بلده ووطنه وأهله إلا أن يكون مكرهاً، (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل:106]، فهذا هو فقط المعذور، وأما من وقع في الباطل شركاً كان أو فسقاً أو معصية وهو يزعم أنه مستضعف مع قدرته على الضرب في الأرض ليبحث عن أرض يعبد الله فيها، فهذا وأمثاله ممن أنزل الله فيهم (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء:97]. فاعتزال الشر فرض على كل أحد، ولا عذر لأحد أن يفعل الشر بدرجات مختلفة بزعم أنه يريد أن يكون مع الناس، أو أن الناس يضغطون عليه، أو أنه يخجل منهم إلا أن يكون مكرهاً، ومن شروط الإكراه الشرعي أن يكون عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وإذا استطاع أن يفر منهم لم يكن مكرهاً. والمرء إذا لم يكن يستطيع أن يقيم دينه، وأن يعمل بطاعة الله في الأرض التي هو فيها لزمه تركها، ولذا قال أهل العلم فيمن تجب عليه الهجرة: "هو من عجز عن إقامة الدين، وقدر على الهجرة؛ فيلزمه أن يهاجر ويفارق الناس ببدنه".

 

ومن معالم إقامة الدين: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن ذلك من الدين، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يقيم بأرض يعلن فيها بمخالفة الشرع بدرجاته المتفاوتة، لغير غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، وهذا ما صنعه أصحاب الكهف، فلا يجوز له أن يقيم ويقول: أنا أقيم ديني، بمعنى أنه يصلي ويصوم ويتصدق ويتركونه يذهب إلى الحج والعمرة، ويأكل ويشرب ويلبس ما يريد، مع كونه يراهم على الشرك والكفر، أو على الفسوق والعصيان ليل نهار ولا يصنع شيئاً، لا يجوز الإقامة على ذلك؛ لأن هذا ليس من إقامة الدين، فإقامة الدين تشمل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طالما قدر على صورة من صور ذلك، فإذا لم يكن قادراً إلا على التغيير بالقلب مع عدم وجود مصلحة شرعية أخرى فإنه لا يجوز أن يقيم ساكتاً، وطالماً قدر على الهجرة فيجب عليه أن ينتقل إلى أرض لا يعلن فيها بهذا الفساد، وإن لم يجد ففي الشر خيار، فيختار أقل الأمور شراً وضرراً على دينه. وأما إذا كان يقيم هناك لمصلحة شرعية، بأن كان قادراً على إقامة الدين، ومن ضمن إقامته ما ذكرنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الأنبياء جميعاً قد أقاموا مدداً في أقوامهم، وقد كان الشرك مستعلياً مستعلناً ظاهراً في الناس وهم يدعون إلى الله -سبحانه وتعالى- لنبذ الشرك وتركه، فكانت إقامتهم هي المصلحة الراجحة على مفسدة الإقامة وسط الكفار، وإلا لما أنقذ أحد من الشرك، ولو كان الرسل أول ما أوحي إليهم أن هذا شرك وكفر رحلوا وفارقوه لما اهتدت أقوام بعضهم، فليس كل من يعلم الحق بمجرد أن يعلمه ينصرف عن أهله، فلا بد أن يوجد من يقيم بين الناس حتى يبلغ دعوة الحق.

 

وأما اعتزال أهل الشر بهجرانهم، بأن لا يصاحبهم في مجالسهم التي يرتكبون فيها المنكر فهو أيضاً من الواجبات، كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء:140]، فمن هنا كان إقامة الإنسان في مجالس المنكر محرم، ويجب عليه أن يعتزل مجالس المنكر وأماكن المنكر حتى لا يكون مثلهم في الحكم مشاركاً لهم فيما هم فيه.

 

الرابع: فتية الكهف أمة واحدة:

لما صرح بعضهم لبعض بسبب خروجه، وعرفوا أنهم فارقوا دين قومهم كراهية له؛ اجتمعوا وصاروا يداً واحدة، وطائفة واحدة، وصاروا سبعة -أو ما الله عز وجل أعلم به -، صاروا جماعة وأمة لا يذكرون بأسمائهم ولكن يذكرون كطائفة واحدة؛ لأنهم تعاونوا على ذلك (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الكهف:14]، قال ابن كثير: "صاروا يداً واحدة، وأعان كل منهم الآخر، وصاروا إخوان صدق، وتوافقوا على كلمة واحدة حتى يستطيعوا عبادة الله -عز وجل-". وهكذا ينبغي أيضاً أن يكون المؤمنون، فإذا علموا أن أحداً على طريقهم فلا بد أن يكونوا معاً لا يفترقون ولا يختلفون، بل أنت تفرح وسط الغربة بوجود من يكون معك على طريقك فكيف تفارقه؟ وكيف تبتعد عنه؟ إن الذين يرغبون في الاختلاف والفرقة، وأن يكون كل واحد منهم متميزاً بنفسه هم مرضى في الحقيقة، وهذا -والعياذ بالله- من أخطر الأمراض التي تلبس في زماننا ثوب الصحة والعافية.

 

فالواجب أن تأتلف القلوب وتجتمع، وليس الاجتماع على طاعة الله -سبحانه وتعالى- حزبية ممقوتة، ولكنه من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به، أما الذين يلبسون رغبتهم الخبيثة في أن يكون كلاً منهم عالياً بنفسه متميزاً عن غيره ثوب الصحة والعافية في أنه لا يريد الحزبية، فيترك إقامة دين الله -عز وجل-، ويترك التعاون على البر والتقوى، حتى تموت الدعوة إلى الله، وتموت سائر الفروض الأخرى؛ لأن التمزق والتفرق يؤدي إلى التنازع والشحناء والبغضاء، وإلى أن تكون فروض المسلمين الكفائية غائبة وضائعة، وهذا هو الذي سبب ما يرى من غثاء السيل كما وصف النبي -عليه الصلاة والسلام-، فآلاف الملايين من المسلمين عاجزون عن أن يصنعوا شيئاً لأعداء الله من الكفرة المجرمين من اليهود والنصارى والمنافقين.

 

الخامس: وجوب الحذر:

الحذر أمر إلهي من المولى - جل وعلا - إلى عباده المؤمنين وقت الأزمات ومقارعة الأعداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [ النساء:71]،  فالحذر في مجالات الحياة كلها؛ حلوها ومرها، أمنها وخوفها مطلوب، فالتخفي والكتمان والتلميح من أنواع الحذر. فماذا فعل الفتيان حين أحياهم الله –تعالى-؟ شعروا بالجوع فقد استيقظوا بعد ساعات طويلة استغرقت يوماً أو بعض يوم – كما ظنوا – والطعام والشراب وسيلة الحياة. والعدو الذي هربوا منه يطلبهم ويرسل العيون والجند بحثاً عنهم. فينبغي الحذر في التحرك. ماذا يفعلون؟

 

أرسلوا واحداً فقط يشتري لهم طعاماً فالواحد أقدر على التخفي ولا ينتبه له أحد. وهروبه أسهل إذا شعرت به عيون العدو وإذا وقع في أيدي الظلمة فهو فدائي واحد، ولن تسقط المجموعة كلها.

 

وأمروه باللطف في الشراء واللين في الطلب، وليتكلم المختصر المفيد، وليكن تصرفه حكيماً وحركاته بعيدة عن الريبة. وليختر أطيب الطعام وأزكاه، فالطعام الطيب الحلال أنفع للجسم، وأرفع للروح.

 

وإجمالاً فإن مِن تمام الإيمان، والإعذار إلى الله –تعالى-، وإبراء الذمة: القيام بإنكار ما يُناقض التوحيد، والإعلان بحق الله -تعالى- بإفراده بربوبيته وألوهيته على خلقه، وأن الحكم والأمر بيده؛ (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف: 14]. من يَقُم لله -تعالى- بهذا الواجب العقديِّ، يَربِطِ اللهُ على قلبه - فردًا كان أو جماعة - ويكف الله عنه أذى الطواغيت، ويَزِدْه رشدًا، ومن أمره مِرفقًا، وينجيه من الفتن كلها.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات