معالم رئيسة في واقع العمل الإسلامي (2-2)

عدنان علي رضا النحوي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

كيف ينشأ التخطيط والنهج إذا عانى المسلمون من جهل بمنهاج الله وجهل بالواقع، واضطراب في التصور الإيماني والممارسة الإيمانية. إن الارتجال وردود الفعل هي النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب والجهل، وإنَّ الأهواء وتزاحم الشعارات هي المظهر الرئيس لهذا الخلل والوهن، وإن الاختلاف والشقاق هو ثمرة ذلك كلّه، ثمرة مرّة مؤذية.

 

 

 

كنا وقفنا في المقال السابق عند أهم القضايا التي تحتاج إلى عناية وبحث وتوقف عندها، وكان آخرها: غياب الميزان وردّ الأمور إلى منهاج الله وتبين أن ممارسة الانتخابات كشفت في واقع المسلمين خطورة غياب هذا الميزان، فصار الناس يتقدّمون بأموالهم وأنسابهم، وعائلاتهم وعلاقاتهم ومصالحهم، وأحزابهم، ومدى قوّتهم ونفوذهم من خلال ذلك كلّه. وأصبحت قواعد " اللعبة " الديمقراطية، كما يُسمّونها، هي التي تسود وتحكم، وترفع وتخفض، بدلاً من القواعد الإيمانية التي اختفت من الصدور ومن ميدان الممارسة.

 

لم يكن الانتخابات هي الساحة الوحيدة التي غاب عنها الميزان. فقد غاب الميزان عن معظم الساحات إن لم يكن كلّها. وصار من السهل تسرّب قواعد مضطربة وعلاقات متشابكة لتحكم في ساحة الممارسة والتطبيق، حتى ولو حملت شعاراً إسلاميّاً.

 

ولا يقتصر الميزان على تحديد " منازل الرجال " وتحديد المسؤوليات والواجبات، فإذا صورته العامة تتسع لتوزن به قضايا الأمة وأحداثها، وليصبح " الميزان " في حقيقة أمره هو المنهاج الربّاني الذي يجب أن ترُدَّ القضايا كلّها إليه. فمن خلال اضطراب التصوّر الإيماني وجفاف العلم بمنهاج الله والغيبوبة عن الواقع وما يدور فيه، من خلال ذلك لم يعد من المتيسّر ردّ الأمور إلى منهاج الله. وبسبب ذلك غلب الهوى، حين لم يعد أمام الكثيرين إلا أهواؤهم ومصالحهم الخاصة ليردّوا القضايا إليها، ولينظروا إلى الواقع من خلالها. فاختلطت الحدود والمنازل، واضطربت المسؤوليات والواجبات، وساء تقدير الواقع والأحداث، واختلت الأحكام، حين أخذ الكثيرون يصدرون عن تصوّراتهم البشرية وما حملوه من نزوات وأهواء.

 

هذه القضيّة الخطيرة في التصوّر الإيماني -وهي ردّ الأمور إلى منهاج الله- لم تأخذ حظّها العادل الأمين في مناهج التربية إذا وجدت تلك المناهج! فنشأت أجيال كثيرة لا تعرف هذه القضيّة ولا تشعر بخطورتها ولا تقوى على ممارستها، غابت هذه القاعدة عن مناهج التربية وربما غابت المناهج ذاتها، وغابت عن مناهج التدريب، وربما غاب التدريب ذاته.

 

وكان من أول النتائج هو زيادة النكبات وتوالي المآسي وامتداد الظلام، في ساحة واسعة لا تكاد تعرف إلا الشعار، وتكاد تغيب فيها قواعد الإيمان شيئاً فشيئاً.

ومن نتائج ذلك أيضاً هو عدم معرفة الأخطاء حين لم يعد يحدّدها ميزان أمين، وعدم توافر القدرة على معالجتها، فأخذت الأخطاء تتراكم في ساحة العمل الإسلامي حتى أصبحت ركاماً يحجب الرؤية ويضلّل الناظر، وربما اعتاد الناس الخطأ حتى ألفوه، ثمّ رغبوا به وأجازوه.

 

وقد تُجْرى بعض المحاولات الارتجالية لمعالجة خطأ هنا أو هناك، فإذا المعالجة تزيد الخطأ بدلاً من أن تعالجه، وتورث الفتنة والشقاق. ذلك لأن المعالجة تأخذ حادثة أو بعض الحوادث، فيدور حولها الخلاف والشقاق، ولا تُعالج القواعد الخاطئة والأساليب المريضة والمناهج المضطربة.

 

 6-غياب النهج والتخطيط:

من السهل أن ندرك الآن، بعد العرض السابق، أنَّ من أهم أخطاء العمل الإسلامي هو غياب النهج والتخطيط عن معظم ميادين العمل أو كلّها.

 

كيف ينشأ التخطيط والنهج إذا عانى المسلمون من جهل بمنهاج الله وجهل بالواقع، واضطراب في التصور الإيماني والممارسة الإيمانية. إن الارتجال وردود الفعل هي النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب والجهل، وإنَّ الأهواء وتزاحم الشعارات هي المظهر الرئيس لهذا الخلل والوهن، وإن الاختلاف والشقاق هو ثمرة ذلك كلّه، ثمرة مرّة مؤذية.

 

إننا نستطيع أن ندرس أي حركة أو نقوّمها على أُسس ثلاث: العقيدة العامة التي تحكمها، الطاقة البشرية التي تحملها ومدى تمسُّكها بها وخضوعها لها، النهج الذي تضعه الطاقة البشرية على أساس من عقيدتها وواقعها.

 

ففي حالة الحركات الإسلامية فإن الإيمان والتوحيد مع كلّ ما يتبعهما ويرتبط بهما وعلى ضوء ما يعرضهما منهاج الله كما جاءا باللغة العربية، يمثلان العقيدة العامة التي يجب أن تحكم كلّ حركة إسلامية وعلى أساس من هذا المنهاج الرباني والإيمان الذي يعرضه، وعلى أساس الواقع الذي تعيشه الطاقة البشرية، الواقع الذي تدرسه من خلال منهاج الله، على هذين الأساسين يقوم النهج والتخطيط الذي يجب أن تضعه الطاقة المؤمنة البشرية.

 

إن هذا النهج يجب أن ينطلق من النية الخالصة لله -سبحانه وتعالى-، ثم يرسم الدرب الذي يسير عليه، ويُحدّد كذلك الأهداف كلّها. ثمّ يكون من واجب كل فرد في الدعوة الإسلامية أن يطمئن هو بنفسه عن ارتباط الدرب والوسائل والأساليب بالأهداف، فلا يتجه الدرب شرقاً وتكون الأهداف غرباً. وأن يطمئن كذلك إلى ارتباط هذا كلّه بمنهاج الله وقواعد الإيمان والتوحيد. إنها مسؤولية كلّ إنسان فهو الذي سيحاسَب بين يدي الله -العزيز الجبّار- لا يغني أحدٌ عن أحدٍ شيئاً.

 

والأهداف منها ما هو ثابت حدّده منهاج الله، ومنها ما هو مرحلي يضعه الإنسان على أساس من منهاج الله والواقع؛ لينقله من هدف ثابت إلى هدف ثابت. ويكون الهدف الأكبر والأسمى هو الجنّة والدار الآخرة وطاعة الله ورضاه، هذا الهدف الأكبر والأسمى ترتبط به جميع الأهداف الثابتة وتقود إليه، وترتبط به جميع الأهداف المرحلية.

 

ولقد كان من أثر غياب النهج والتخطيط، ليس تفرّق الحركات الإسلامية فحسب، وإنما تفرّق الميادين في الحركة الواحدة، لقد ساء حال المسلمين حتى تفرّقت الأمة إلى شعوب وأقطار متنابذة، وتفرّق العمل الإسلامي إلى حركات متصارعة، وتفرّقت الحركة الواحدة أحزاباً وشيعاً، ثمّ تمزّقت الميادين والساحات حتى أصبحت كأنها مفتحة لولوج أعداء الله.

 

 7-الاضطراب الفكري وتعدد الاتجاهات، والاضطراب النفسي:

 من خلال الوهن الذي عرضناه، استطاعت أفكار كثيرة أن تتسلّل؟ إلى قلب الدعوة الإسلامية تحمل كلّ الزينة والزخارف، في ظروف كانت الحالات النفسية فيها وردود الفعل المتوقّعة تساعد على تقبّل هذه الأفكار المتسلّلة. يضاف إلى ذلك ما يتولّد في داخل الحركة نفسها من أفكار منحرفة نتيجة الضعف الذي عدّدناه سابقاً. فيجتمع انحراف إلى انحراف، وتختلط الأمور حتى يصعب على الفرد أن يُميّز بين الانحراف وغيره، وقد يصعب الأمر على الفرد العادي، ويصعب كذلك على مستويات أعلى، وزاد من ذلك وقوع نكبات ومآسٍ دفعت بعض النفوس دفعاً إلى هذا الانحراف الفكري أو ذاك، وقد ساعدت الظروف الاجتماعية والسياسية وسهولة وسائل المواصلات والضغط الدولي الهائل الذي يُغذّي كلّ اتجاهات الانحراف على ذلك كلّه على قدر من الله حقٍّ وقضاء نافذة.

 

ولقد كان من أخطر الأفكار التي تسلّلت: الوطنية والقومية والإقليمية والديمقراطية والاشتراكية مع جميع صورها المنحرفة عن الإيمان والتوحيد، حتى أخذ بعضهم يبحث في الإسلام عن الأدلة الشرعية لها، ونحن لا ننكر أنّ أيّ فكر في الأرض مهما كان نوعه فلا بدّ من أن يحمل زخارف تُحَبّبه إلى الناس، ولكن هذه الزخارف ليست هي الميزان الذي نَقْبل به أو نَرْفض. إن الميزان هو منهاج الله، فنرفض أن تصبح القومية عصبية تُحَدّد الفكر والمذهب والحقوق والواجبات، وننكر أن تصبح الوطنية وثناً يُعْبد من دون الله، ويزيح أحكام الدين وسلطان الإسلام.

 

أما بالنسبة للاشتراكية والديمقراطية وأمثالهما، فإن أحسن ما يظنّه دعاتها فيها، وما يتوهمه أصحابها، هو أقل بكثير مما يقدّمه الإسلام للإنسان على الأرض، وإن الشرّ الذي تحمله من علمانية وشرك هو أسوأ ما يحاربه الإسلام!

 

 8-ضعف التكوين الداخلي والروابط الإيمانية وغياب النظام الإداري:

لا نقصد بذلك الروابط التنظيمية في واقع العمل الإسلامي فحسب. فهذه قد تقوى وتضعف متأثرة بعوامل متعددة ومتأثرة بجميع عوامل الضعف التي سبق ذكرها، فقد تقوى الروابط التنظيمية حتى تصبح عصبية جاهلية، تزيد انحراف الدعوة وتزيد من تمزّقها، وتصبح مظهر ضعف وانحراف ومصدر فتنة وشقاق، وتضطرب معاني الأخوة في الله والموالاة بين المؤمنين اضطراباً واسعاً.

 

لقد اضطربت العلاقات والروابط الإيمانية كلها اضطراباً واسعاً حين صاغ هذه العلاقات والروابط أفكار متضاربة ومذاهب متصارعة ونزعات هائجة. لم يعد الإيمان والتوحيد، ولا الولاء الخالص لله، ولا العهد الأول مع الله، ولا الحبّ الأكبر لله ولرسوله، لم يعد هذا وغيره من قواعد الإيمان وقواعد المنهاج الرباني يصوغ الروابط والعلاقات. فاضطربت تبعاً لذلك، كما ذكرنا، قواعد السمع والطاعة، والعلاقات بين القيادة والقواعد، حتى تباينت بين تعظيم مغالى فيه، وبين تهوين مفرط ومسيء. وفي كلتا الحالتين فتنة وبلاء.

 

لقد غاب النظام الإداري الذي يوفّر نظام المتابعة والمراقبة والإشراف، ونظام التوجيه والنصح العملي التطبيقي، ونظام المعالجة والمحاسبة والتذكير، ليتمّ ذلك كلّه بصورة منهجيّة مدروسة محددة تحقق أهدافها وغاياتها الإيمانية. لقد غاب النظام الإداري الإيماني القائم على منهاج الله والملبِّي لحاجات الواقع، والذي يبيّن قواعد الأحكام والجزاءات والوسائل والأساليب في ميدان التطبيق لينمو مع الممارسة.

 

لقد أدى هذا الخلل الكبير إلى تسلل أفراد إلى مواقع لا يحقّ لهم بلوغها؛ لعدم توافر شروطها فيهم، وكذلك أدّى إلى أن تخسر الدعوة طاقات ومواهب كثيرة قتلتها الفوضى الإدارية والتحاسد والتباغض والتناجش والصراع على الدنيا وزخارفها وعصبياتها.

 

 9-عدم انتقال الدعوة الإسلامية إلى ميدان القادة الدوليين ولا إلى شعوبهم:

لقد امتدّت الدعوة الإسلامية إلى أقطار متعددة في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وآسيا. وقامت مراكز إسلامية متعددة، وهيئات وحركات ومنظمات، وأُقيمت مساجد يدوِّي منها الأذان والتكبير، وذلك كلّه فضل من الله ونعمة، ولكن النتائج التي بلغتها الدعوة الإسلامية بين تلك الشعوب وبين قادتها كانت أقلّ مما ترجوه القلوب المؤمنة، وإنك لتجد أن معظم القادة الدوليين لا يدركون حقيقة الإسلام، بالرغم من اتساع أفق بعضهم في الثقافة والتجربة. فحين يتحدث غورباتشوف في كتابه: "البيروسترويكا" يبيّن أن هنالك عقيدتين وخطين في العالم هما الشيوعية والرأسمالية، ثمّ ينظر نظرة عطف وإشفاق على دول العالم الثالث، متجاهلاً الإسلام عقيدةً ونهجاً وفكراً، وكذلك يفعل قادة الغرب. وإذا تحدّث أحدهم عن الإسلام حسب الإسلام ما يراه من واقع المسلمين اليوم، أو حسب الإسلام كالمسيحية دين طقوس وشعائر لا علاقة له بمنهج الحياة البشرية السياسي أو الاقتصادي أو غير ذلك، أو رأى في الإسلام قوة إرهاب وتسلّط، أو غير ذلك من الأفكار التي يُزيّنها شياطين الإنس والجنّ.

 

لقد شُغلت معظم الحركات في كثير من الأحيان بالدعوة إلى أفكارها الخاصة وحركاتها أكثر مما شُغلت بالدعوة إلى الله ورسوله وإلى حقائق الإيمان والتوحيد، وشُغلتْ بالخلافات بينها أكثر مما شُغلت ببناء الأمة المسلمة الواحدة في الأرض.

 

وشُغلت الأمة كلّها بغير الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، إلى الله ورسوله. ولقد حدّد منهاج الله علاقة المسلم مع غير المسلم بصورة مفصَّلة في جميع الظروف والأحوال، حتى تستقيم العلاقات على جميع المستويات على نهج إيماني. وأول هذا النهج هو الدعوة إلى الله ورسوله هو البلاغ والبيان، وعرض حقائق الإسلام من منطلق القوة والإيمان واليقين.

 

إنَّ كثيراً من غير المسلمين يجهلون الإسلام، سواء أكانوا من العامة أم الرؤساء. ولو أنهم عرفوا الإسلام كما أنزله الله لخفت عداوتهم وأحقادهم أو عداوة بعضهم على الأقل. إن كثيراً من الأحقاد تتوارثها الأجيال عن الأجيال في الشعوب غير المسلمة، تغرسها فيهم عصابات الإجرام والظالمون المترفون فيهم.

 

 إنَّ الله يهدي من يشاء، ولكننا مكلفون بحمل هذه الأمانة العظيمة وتبليغ الرسالة إلى الناس كافّة. فإن قصرنا في ذلك فنحن الآثمون، نجني حصاد تقصيرنا فيما نراه من نكبات وابتلاء.

 

إنَّ الدعوة إلى الله ورسوله يجب أن تكون الهدف الثابت الأول في حياة المسلم، وفي حياة كلّ حركة إسلامية، وفي مسيرة الأمة المسلمة كلّها بجميع مستوياتها. إن هذه الدعوة إلى الإيمان والتوحيد هي أول الجهاد، وأول خطوة فيه إلى الجنّة، وهي سبيل المؤمنين العاملين.

 

هذه ملاحظات عاجلة موجزة عن أهم ما نعتقد أنه يجب النصح به في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا. ونؤمن أن كلّ قضيّة عرضناها هنا تحتاج إلى دراسات علمية أمينة؛ لتكون الحركات الإسلامية هي أول من ينقد نفسه، وأول من يتقبل النصيحة، حتى تصبح تجربة العمل الإسلامي زاداً نامياً للدعوة، فلا تبدأ كلّ حركة من نقطة الصفر، حين تموت تجارب السابقين.

 

وحين نذكر هذه الملاحظات ونقدم هذه النصيحة، نؤكد أهمية الأثر الطيب للعمل الإسلامي، كما سبق أن أشرنا له في مستهل كلمتنا هذه، مؤمنين أن الأجر عند الله -سبحانه وتعالى-، هو أعلم بعباده، وهو أرحم بهم.

 

وندعو الله مخلصين أن يتقبل من الدعاة، قادةً وأفراداً، أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، إنه هو الغفور الرحيم.

 

---------

(1) يراجع كتاب: الشورى وممارستها الإيمانية، وكتاب الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته للدكتور.

(2) يراجع كتاب: لقاء المؤمنين الجزء الثاني. وكتاب التوحيد وواقعنا المعاصر للدكتور.

(3) يراجع كتاب: دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية للدكتور.

(4) يراجع كتاب: دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية ـ الباب السابع ـ للدكتور.

(5) جريدة اللواء ا لأردنية: العدد 685 السنة في 19/10/1406هـ.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات