معادن الناس في القرآن والسنة

عبدالعزيز الزبيري

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وكلما استقام الإنسان على دين الله علماً وعملاً، وقولاً وفعلاً، وباطناً وظاهراً طابت سجاياه وطباعه وأخلاقه وطاب وصَفَا معدنه. وبذلك تَغْلِبُ عليه صفة الملائكية؛ طُهراً وعِفَّةً وصفاءً ورِفْعَةً وسُموًّا. وكلما بَعُدَ الإنسان عن الدِّين وَأَوْغَلَ في مخالفته، وتمرد عليه وَفَرَّطَ في أحكامه؛ خَبُثَتْ نفسه، وقَبُحَتْ سجاياه وطباعه وأخلاقه، حتى تغلب عليه صفة الوحشية كالقتل والاعتداء..

 

 

 

 

الإنسان بطبعه وفطرته يحب الخير والمصلحة لنفسه، ويعشق السُّمُوَّ ويحب الكمال والرفعة، ويتطلع إلى المكارم وتميل نفسه إلى حُبِّ المدح والثناء. كما أن الإنسان بطبعه وفطرته أيضاً؛ يكره النقص والتَّدَنِّي، ويَنْفُرُ من الرذائل والعيوب، ويكره أن يوصف بها.

 

والمتأمل في طبائع الناس وسجاياهم وأخلاقهم وسلوكياتهم وأحوالهم وملكاتهم؛ يجدهم أصنافاً وأنواعاً عديدة: فمنهم السَّهل الْمُنْبَسِط الَّليِّن، ومنهم الصَّعْب المنقبض الشديد. منهم الشُّجاع الجريء المقدام, ومنهم الجبان العاجز الخَوَّار. منهم الكريم السَّخي, ومنهم البخيل الشحيح. منهم السَّمح الصفوح, ومنهم المستقصي شديد الخصومة. منهم المتأنِّي الصبور الحليم، ومنهم الأحمق الغضوب المتسرع. منهم الذكي النبيه الفطن، ومنهم البليد الغبي السَّاذج. منهم المتواضع، ومنهم المستكبر المتعجرف.

 

والصفات الإيجابية -التي سبق ذكرها، وغيرها من الفضائل والصفات الطيبة- ليست حِكراً على قوميةٍ أو جِنسٍ أو فئةٍ أو نسبٍ أو سلالةٍ، وإنما هي صفات كَسْبِيَّة بإمكان الإنسان أن يتحقق بها، إذا أراد ذلك وسعى لها سعيها الجاد المخلص. كما أن تلك الصفات تنمو وتَتَرَسَّخ وتَحْسُن إذا رُشِّدت وَوُجِّهَت الوجهة الصحيحة، لتصب في مصب الخير والنفع والصلاح. أما إذا أُهْمِلت من التربية والتوجيه الحسن، فإنها قد تتحول إلى رذائل تضر أكثر مما تنفع.

 

وكذلك الصفات السَّلبية -التي ذكرناها سابقاً، وغيرها من الصفات السَّلبية والسيئة- فإنها أيضاً ليست لصيقة بجنس أو فئة أو قوميةٍ أو نسبٍ أو قبيلةٍ، بل هي صفات كَسْبِيَّة يمكن التخلي عنها، ويمكن تقويمها وإصلاحها بالإيمان والهداية والتقوى والتزكية والتربية، يقول -تعالى-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:7-10].

 

وفي الحديث الشريف -على صاحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم-: "إنما العلم بِالتَّعَلُّم، والحلم بِالتَّحَلُّم، ومن يَتَحَرَّ الخير يُعْطَهُ، ومن يَتَوَقَّ الشر يُوْقَه"(1). وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "ما يكن عندي من خير فلن أَدَّخِرَهُ عنكم, ومن يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ الله، ومن يستغنِ يُغْنِهِ الله، ومن يصبر يُصَبِّره الله"(2).

 

ومن الناس من تجتمع في شخصه صفات إيجابية وأخرى سلبية، ومنهم من يكون إلى الصفات الإيجابية والمحمودة أقرب، ومنهم من يكون إلى الصفات السلبية والمذمومة أقرب. ولو كانت الصفات الإيجابية حِكْراً على أُنَاسٍ دون غيرهم، والصفات السلبية لَصِيْقَةً بِأُنَاس دون غيرهم؛ لَمَا كان هناك حاجةً أو دَاعٍ لأَن يرسل الله الرسل، وينزل الكتب والشرائع، ويبين الحلال والحرام، ويحث على الفضائل وحُسْنِ الأخلاق، ويحذر من الرذائل وسَيِّئِ الأخلاق، وَلَمَا خلق الله الجنة لمن أطاعه والنار لمن عصاه.

 

وكل ما سبق ذكره من الطباع والسَّجايا، والصفات الإنسانية -سواء المحمودة منها أو المذمومة- والتي يَزِنُهَا الناس بالعقل والفطرة قد تنمو وَتَبْرُز لدى الإنسان، وقد تَخْبُو وتضعف، وذلك بحسب ما يتلقاه من العلوم والأفكار والمناهج، وتبعاً للمؤثرات البيئية والأسرية والاجتماعية... الخ.

 

وهذه الطِّباع والسَّجايا قد تتحول وتتغير، صعوداً في سُلَّمِ الارتقاء أو انحداراً في دركات الانحطاط، إلى أن تبلغ منتهاها في الطِّيْب أو الخُبْث، وحتى يغلب على الإنسان صفة من الصفات الأربع الآتية: الصفة الملائكية - الصفة الشيطانية - الصفة الوحشية - الصفة البهائمية.

 

والإسلام هو صبغة الله الذي يصبغ الإنسان بالربانية والخير والفضل، ويُطَيِّبُه ويُزَيِّنُه ويَكْسُوْه بالْحُسْن والجمال.

 

وكلما استقام الإنسان على دين الله علماً وعملاً، وقولاً وفعلاً، وباطناً وظاهراً طابت سجاياه وطباعه وأخلاقه وطاب وصَفَا معدنه. وبذلك تَغْلِبُ عليه صفة الملائكية؛ طُهراً وعِفَّةً وصفاءً ورِفْعَةً وسُموًّا.

 

وكلما بَعُدَ الإنسان عن الدِّين وَأَوْغَلَ في مخالفته، وتمرد عليه وَفَرَّطَ في أحكامه؛ خَبُثَتْ نفسه، وقَبُحَتْ سجاياه وطباعه وأخلاقه، حتى تغلب عليه صفة الوحشية كالقتل والاعتداء والسَّطْو والانتقام والحقد؛ ويصبح معدنه من أخبث المعادن.

 

وعندما يَنْقَاد الإنسان لرغبات النفس الأمارة بالسوء، ويغرق في الشهوات المحرمة، تغلب عليه صفة البهائمية الحيوانية؛ كالدناءة والخسة والمكر والخيانة والبلادة والقذارة.

 

وعندما يتمكن من الإنسان حُبُّ الشر والفساد في الأرض، ويصبح هَمُّه إشاعة الفاحشة، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والصد عن سبيل الله والعداوة لدينه ومحاربة أوليائه، تغلب عليه صفة الشيطانية.

 

فمقياس الشَّرف والرفعة والأصالة والتكريم؛ هو مقياس العمل والأخلاق والسلوك والمواقف، فهي المحك والميزان لمعرفة أصناف الناس ومعادنهم وقيمتهم ومنازلهم. أما الأصل والنسب والسلالة والقبيلة والعشيرة واللون والجنس، إلى غير ذلك من المعايير المادية؛ فإنها ليست مقياساً يُوْزَن به الناس، أو يتفاضلون فيما بينهم على أساسه؛ لأنها لا تصلح لذلك، ولا يَنْبَنِي عليها أي تمايز بين البشر.

 

فأصل البشر جميعاً واحد هو الطين: (وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ) [السجدة:7]. وسلالتهم واحدة هي الماء المهين: (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) [السجدة:8]. وهم جميعاً لأبٍ واحد، وأمٍ واحدة -آدم وحواء-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ...) [النساء:1].. (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً) [فاطر:11]. يستوي في ذلك العرب والعجم، والسود والبيض، والأغنياء والفقراء، والأمراء والمأمورون، قال -صلوات الله وسلامه عليه-: "الناس من آدم؛ وآدم من تراب"(3). وقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "يا أيها الناس؛ إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، ألا هل بَلَّغْتُ؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "فَلْيُبَلِّغ الشاهد الغائب"(4).

 

فالأنبياء والمرسلون -صلوات الله وسلامه عليهم-، والصديقون والشهداء والصالحون، ومن تبعهم من المسلمين الأولين والآخرين إلى يوم الدين؛ كلهم يرجعون إلى ذلك الأصل الطين والماء المهين. وكذلك الكفار جميعاً من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين والمشركين، ومن تبعهم من المنافقين الأولين والآخرين إلى يوم الدين؛ كلهم يرجعون إلى ذلك الأصل الطين والماء المهين. وأنه لا فرق ولا تمايز ولا تفاضل من حيث أصل الخلقة، وصفة الآدمية، بين نطفةٍ ونطفة، وطينةٍ وطينة، وسلالةٍ وسلالة، فمن حيث الأصل الطيني والمائي، لا فرق بين نطفة أفضل خلق الله، ونطفة أرذل خلق الله, ولا فرق بين سلالات أولياء الرحمان، وسلالات أولياء الشيطان, ومن يقل غير هذا ففيه مَثَلٌ من إبليس: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [الأعراف:12]. وفيه مَثَلٌ من اليهود والنصارى في زعمهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة:18].

وأما تقسيم الناس إلى أُسَرٍ وعشائر، وشعوباً وقبائل؛ فإنما هو للتعارف والتآلف، لا لِلْفُرْقَةِ والتفاخر، أو العلو والتناحر، قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات:13]. إذاً: فمن أين جاءت وكيف شاعت فكرة التفاضل بين الناس والتمايز بينهم على أساس الأنساب والاحساب والسلالات والقبائل والأجناس... الخ؟

 

والجواب واضح ومفروغ منه، وهو أن التعصب لعنصرٍ أو جنسٍ أو سلالةٍ أو قبيلةٍ، والتمييز بين الناس على أساس ذلك، إنما هي دعوة إبليسية، ونَبْتَةٌ شيطانية خبيثة، غَرَسَهَا وأَسَسَهَا إبليس اللعين، يقول الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) [البقرة:34]. لماذا أَبَى واستكبر؟ (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ) [ص:75]. فكان الجواب من إبليس بمنطقٍ شيطانيٍ فاجر، ومقولةٍ عنصريةٍ بغيضة، هي البذرة الأولى للشر والعصيان والكفر في هذا العالم: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف:12]. وكان الرَّد الإلَهِي حاسماً قاطعاً شديداً أليماً، وهو إحلال اللعنة على إبليس وطَرْدِهِ من رحاب الله ورحمته، وسقوطه إلى درك الشيطنة وأسفل السافلين. وَيَلْحَقُ به كل من افتخر بسلالته وطينته، وكل من دعا إلى عصبية أو قاتل تحت رايتها، أو مات عليها، ممن برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-.

 

في مقابل ذلك؛ يبرز المنطق الرباني الحكيم العادل السوي، الذي يضع الأشخاص والعقائد والأفكار والأعمال والأخلاق والسلوكيات والمواقف، في ميزان الإيمان والتقوى، فحينما قال الله تعالى للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) كان استفسارهم: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا...) [البقرة:30].

 

ولَمَّا تبين للملائكة قيمة العلم والمعرفة التي فضل الله بها آدم -عليه السلام-: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة:32].

 

وخاتمة هذه المواقف الملائكية الطاهرة؛ هي مشهد سجود الملائكة الكرام الذين خلقهم الله من نور، لآدم الذي خلقه الله من طين، امتثالاً لأمر الله تعالى خالق النور والنار والطين، وخالق كل شيء... رب العالمين.

 

فمقياس وميزان التفاضل بين الناس إنما هو: الإيمان والتقوى، قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خِيَارُكم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقُهوا) (5).

 

 

------
 

(1) الخطيب في تاريخه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.

(2) البخاري في الفتح، ومسلم.

(3) أبو داود.

(4) أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان، عن جابر رضي الله عنه، وهو في الصحيحة للألباني.

(5) البخاري ومسلم.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات