حاجتنا إلى مفتشين عن خطب الجمعة (4)

محمد بن لطفي الصباغ

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

كيف يبقى خطيبًا مَن لا يُقيم لسانَه في آية من كتاب الله أو في حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ كيف يبقى خطيبًا من لا يُفرِّق بين حديث صحيح وحديث موضوع مكذوب؟ كيف يبقى خطيبًا من لا يدري شيئًا عن أحكام الدين في الموضوع الذي يخوض فيه فيشوِّه بجهله وعِيِّه جمالَ هذا الدين الخالد العظيم؟ كيف يبقى خطيبًا مَن يُطيل الخطبة، ويحبس الناس ساعة أو أكثر بكلام فارغ وهو يُثرثِر في موضوعات غير واضحة في ذهنه، فيكون كلامه غامضًا، ولا يُعِد خطبتَه ولا يكتبها، بل يُصر على الارتجال وهو ليس من أهله؟

 

 

 

 

كثير من منابر المسلمين مضيَّعٌ وا أسفاه، مضيَّع بين التخلف والجمود من جِهة، وبين الثرثرة والعَبَث من جِهة أخرى.

 

وخطبة الجمعة -نتيجة لذلك- مُعطَّلةٌ لا تؤدي مهمَّتَها في معظم العالم الإسلامي، إنها مشكلة، بل إنها مأساة! وعلى السادة الواعين من العلماء والمفكرين أن يُعالجوا هذه المأساة بالحكمة والدراسة، والرأي السديد، وعلى ذوي السلطان تنفيذ ما ينتهي إليه قادة الفِكْر من هؤلاء العلماء.

 

ومما يفيد في هذا الصددِ أن تُعدَّ دورات تدريبيَّة للخطباء الناشئين، يُبصَّرون فيها بالطريقة المثلى في الخطابة فكرًا وأداءً، وتُيسَّر لهم أدواتها، ويُمرَّنون خلال ذلك على الخطابة، وأن يُعمل على توسيع ثقافة الخطيب علميًّا وواقعيًّا بمعرفة ما يجري في عصره وبلده، وذلك بإقامة حلقات علميَّة، وندوات فكرية موسمية، يَحضُرها من تُسنَد إليه هذه الوظيفة المهمة الحساسة، وأن يُختار لهذا العمل الخطير المؤمنون العالمون المخلصون، وينبغي أن يُستَعان في ذلك كله بالموهوبين من الخطباء الأبيناء، فيذكرون تجرِبتَهم، وتُلقى على الحاضرين بعض الخطب الموثَّقة المسجلة لهم ولغيرهم.

ولكن ذلك كله لا يكفي لعلاج هذه المشكلة القائمة، ما لم يكن هناك مفتِّشون عنهم يقوِّمون أداء الخطباء، ويرفعون في ذلك تقاريرَهم لوزارة الأوقاف، ففي وزارة التربية والتعليم وغيرها من الوزارات جهاز خاصٌّ، هو جهاز التفتيش، وهو من أهم أجهزة الوزارة وأخطرها.

 

ومهمة رجالها السهر على أن يؤدي المعلمون واجبهم تامًّا، وعلى أن يُوجِّهوهم ويأخذوا بأيديهم نحو الكمال؛ ولذلك يَحضُر كل مفتش دروس نفرٍ من المعلمين، ويناقِشونهم فيما ألقوه من معلومات وفي أدائهم، ويتبادلون معهم وِجهات النظر. ويُثنون على المحسن؛ ليزداد تقدُّمًا إلى الأمام وإحسانًا، وينبهون المسيء على أغلاطه باللطف والحكمة والموعظة الحسنة، كيلا يقعَ فيها في مقبل الأيام، وقد يطلبون من المسؤولين معاقبتَه إن بلغتْ إساءته حدَّ الإخلال بمهمة التربية والتعليم، أقول: لئن كان هذا شأن المعلِّم الذي يلقي المعلومات التي ليست صحيحة على الأطفال والفتيان، إن الأمر لأخطر بالنسبة إلى مَن يُقرِّر الغَلطَ في دين الله من على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن ذلك تعطيل لمهمة الخطبة وإساءة للدين وللمخاطَبين.

 

كيف يبقى خطيبًا مَن لا يُقيم لسانَه في آية من كتاب الله أو في حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ كيف يبقى خطيبًا من لا يُفرِّق بين حديث صحيح وحديث موضوع مكذوب؟ كيف يبقى خطيبًا من لا يدري شيئًا عن أحكام الدين في الموضوع الذي يخوض فيه فيشوِّه بجهله وعِيِّه جمالَ هذا الدين الخالد العظيم؟ كيف يبقى خطيبًا مَن يُطيل الخطبة، ويحبس الناس ساعة أو أكثر بكلام فارغ وهو يُثرثِر في موضوعات غير واضحة في ذهنه، فيكون كلامه غامضًا، ولا يُعِد خطبتَه ولا يكتبها، بل يُصر على الارتجال وهو ليس من أهله؟ كيف يبقى خطيبًا مَن يقرأ الخطبةَ في ديوان خُطبٍ قديم كتبه صاحبه قبل قرون، يلزمه ولا يحيد عنه أبدًا، يكلم الناس بموضوعات ليست معروفة عندهم، ويُعالِج مشكلات اندثرت وبادت، ولا يعيش عصره ولا أوضاع بلده؟ والحق أن الخطابة موهبة، فإذا رافَقَها العِلم، وصقلها التمرين، كان الخطيب في أَوج الإفادة ونفع الله به.

 

أما إذا كان المُكلَّف بالخطبة غير موهوب، فلا يجوز له أن يَرتجِل؛ لأنه –عندئذٍ- يظلم نفسه والحقَّ والسامعين، ويُعطِّل الغاية من الخطبة، ويَحول بين الخطيب الناجح وبين جماهير المؤمنين، إن عليه قبل أن يرقى المنبر أن يَستكمِل ما يَنقُصه بالتعلُّم والكتابة والدأب في ذلك، وأن يستعين بأهل العلم والاختصاص وبنصائحهم، وعليه أن يُطيل النظر في الخطب البليغة التي كانت آيات من البيان، ودررًا رائعة في البلاغة، فيها الجميل من القول، والمُحكَم من الرأي، والعذْب الجزيل من رائع الأسلوب، تؤثِّر على النفوس؛ فتُصلِح المُنحرِف، وتُعلِن رأي الإسلام في غير التواء أو مداهنة[1].

 

وقد نمتِ الخطابة في عصرنا، فنبغ خطباء ملَكوا ناصيةَ البيان والتأثير[2] في مجالين، هما: المجال الديني، والمجال السياسي.

 

إن على المسؤولين أن يُتيحوا للكفاءات الناشئة أن تلي هذه المناصبَ المهمة في منابر المسلمين، وأن يقيموا جهازًا للتفتيش فيه رُوح الحيوية، وأحسب أن في هذه الرقابة المتوقَّعة تخفيفًا من سوء هذا الواقع الذي تحدَّثْنا عنه.

 

 والله ولي التوفيق...

 

------

[1] انظر طائفة منها في البيان والتبيين 1/257-362 وعيون الأخبار 2/231-251 والعقد الفريد 4/57-156.

[2] منهم الشيخ حسن البنا، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ مصطفى السباعي، والشيخ عصام العطار، وغيرهم.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات