تهافت دعوى حرية الاعتقاد

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وهذا القيد فضفاض كما هو شأن القيود الغربية، فيمكن أن يُجعل ما ورد من أحكام الإسلام داخلاً ضمن النظام العام الذي تقيد به حرية الاعتقاد، وحينئذ تفقد حرية الاعتقاد حقيقتها الغربية، ويصبح تقريرها من لغو الكلام. ويمكن أن تكون الدولة علمانية لا تأبه بأحكام الشريعة، وتكون القيود لمصلحة النظام السياسي. بل قد يُمنع من الشعائر الإسلامية الظاهرة بحجة هذا القيد كما منع الحجاب في تركيا إبان سيطرة الأتاتوركية الاستئصالية على القرار فيها، وهكذا مُنع النقاب في تونس وسوريا قبل الربيع العربي، وتمت مضايقة المنتقبات في مصر. وهناك توجه دولي عربي -بعد تأزمهم من انتشار الإسلام- للسطو على الشعائر الظاهرة للإسلام بدء بالنقاب.

 

 

 

 

 مصطلح حرية الاعتقاد لقيط غربي أراد بعض المفكرين من المسلمين أن تتبناه الشريعة الإسلامية فأدخلوه فيها قسرا، وسأتناول في هذه المقالة استدلالات المفكرين المسلمين على حرية الاعتقاد في الإسلام إجمالا؛ لأن مساحة المقالة لا تسمح بالتفصيل، وأبدأ قبل ذلك -لبيان تهافت فكرة حرية الاعتقاد- بعرض القيود عليها عند القائلين بها؛ لإثبات الاضطراب الكبير بين من يقولون بها، ومن أقحموها في الإسلام، ومعلوم أن كثرة الاختلاف والاضطراب في ضبط أي فكرة يدل على تهافتها وضعف إثباتها.  

 

التقييد الدولي لحرية الاعتقاد:

 

في المادة (18) فقرة (3) من الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمد عام 1966م ما نصه: لا يمكن لحرية إظهار الدين أو القناعات أن تكون مقيدة إلا بالقيود التي يضعها القانون، والتي هي ضرورية لحماية الأمن والنظام والصحة العامة أو لحماية الأخلاق والحريات والحقوق الأساسية للآخرين.([1]) وجاء نحو ذلك في الفقرة (2) من المادة (9) من المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان.([2])  أما في الميثاق الأفريقي فهي مقيدة بالمحافظة على النظام العام.([3]) 

 

فالفكر الغربي في حرية الاعتقاد يرفض أي وصاية دينية على تلك الحرية، ولو اجتمعت عليها الشرائع الصحيحة مع المحرفة، ويجعل الوصاية عليها للأهواء البشرية في قيود فضفاضة تجعل السياسي الغربي يتمتع باستخدامها ضد من يشاء، ويُخرج منها من يشاء، فهي قيود تتمثل في (حماية الأمن والنظام والصحة العامة أو حماية الأخلاق والحريات والحقوق الأساسية للآخرين).

 

فمن يضبط هذه القيود الفضفاضة؟ ومن يضع حدودها؟

 

إذن فالفكرة الغربية في حرية الاعتقاد تتلخص في رفض تدخل الشرائع الربانية في تقييدها، وإحالة التقييد على الأهواء البشرية، وليس كل البشر يشاركون بأهوائهم في هذا التقييد، بل هو حكر على المُشَرِّع الغربي العنصري الذي يملك الحقيقة المطلقة دون سائر البشر.

 

وتنص أغلب الدساتير العربية على حرية الاعتقاد الديني وحرية ممارسة شعائر الأديان شريطة ألا تتعارض مع النظام العام والآداب في الدولة. ([4])

 

وهذا القيد فضفاض كما هو شأن القيود الغربية، فيمكن أن يُجعل ما ورد من أحكام الإسلام داخلاً ضمن النظام العام الذي تقيد به حرية الاعتقاد، وحينئذ تفقد حرية الاعتقاد حقيقتها الغربية، ويصبح تقريرها من لغو الكلام. ويمكن أن تكون الدولة علمانية لا تأبه بأحكام الشريعة، وتكون القيود لمصلحة النظام السياسي. بل قد يُمنع من الشعائر الإسلامية الظاهرة بحجة هذا القيد كما منع الحجاب في تركيا إبان سيطرة الأتاتوركية الاستئصالية على القرار فيها، وهكذا مُنع النقاب في تونس وسوريا قبل الربيع العربي، وتمت مضايقة المنتقبات في مصر. وهناك توجه دولي عربي -بعد تأزمهم من انتشار الإسلام- للسطو على الشعائر الظاهرة للإسلام بدء بالنقاب. 

 

أما المفكرون المسلمون الذين تلقفوا اللقيط الغربي ليدخلوه في التشريع الإسلامي بالقوة، فقد اضطربوا اضطرابا كبيرا في القيود على حرية الاعتقاد، وهذا الاضطراب يدل على عسف في إدخال هذا اللقيط الغربي في التشريع الإسلامي؛ إذ لو كان من الإسلام لكان منضبطا لا مضطربا، ويمكن تقسيم الاتجاهات الفكرية الإسلامية في تقييد حرية الاعتقاد إلى اتجاهين:

 

الاتجاه الأول: نص أصحابه على إطلاق حرية الاعتقاد، وزعموا عدم وجود قيود عليها، ومن الأمثلة على هذا الاتجاه:

1- قول نخبة من أساتذة القانون في مصر: حرية الدين مطلقة لا يرد عليها أي قيد... فللإنسان أن يؤمن بأي دين سماوي أو غير سماوي، وله أن يكون ملحداً أو كافراً، يقول سبحانه (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة:256]  ويقول جل شأنه (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29].([5])

 

2- ويقول أحمد الحاضري: إن حرية الإنسان تقتضي عدم وضع قيد على هذه الحرية، وعدم إكراه الإنسان بأي نوع من أنواع الإكراه. ([6])

 

3- ويقول كريم كشاكش: يقصد بحرية العقيدة الدينية أن الشريعة الإسلامية تكفل لكل فرد في الدولة أن يعتنق أي دين يشاء، وأن يقيم شعائر دينه بحرية تامة. ([7])

 

وبطلان هذه التقريرات شرعا أظهر من أن يناقش، ومخترعو حرية الاعتقاد من ملاحدة الغرب لم يجعلوها بلا قيود.

 

الاتجاه الثاني: المتفقون على تقييدها، المضطربون في تحديد هذه القيود:

 

1- فمنهم من قيدها بعموم الشريعة الإسلامية:

 

أ- كل حر في عقيدته لكن في إطار الشريعة الإسلامية.([8])

 

ب- فكل عقيدة لا تصطدم بالحق والخير من حيث كونها تنبثق في أصلها وأساسها من الإيمان بوجود الله الخالق بقطع النظر عن ملابسات التفكير الجانبية الخاطئة التي طرأت عليها هي في نظر الإسلام هي عقيدة يصان أهلها عن كل إكراه. ([9])

 

2- ومنهم من قيدها بالنظام العام أو بما لا يدعو إلى فتنة أو يثير الانتقام والشقاق في البلاد.([10])

3- ومنهم من قيدها بعدم الردة، واحترام الديانات السماوية الأخرى، وقبول مبدأ التعايش معها، وعدم اعتماد العنف والإكراه.([11])

 

4- ومنهم من قيدها بأن لا يعتدوا على المسلمين، ولا على الدين الإسلامي.([12])

 

5- ومنهم من فرق في القيود بين المسلم وغيره، فجعل قيد المسلم أن لا يخرج عن أصل الدين، وغير المسلم باحترام سلامة النظام العام وأمن الدولة.([13])

 

6- ومنهم من ذكر أن ضابطها وضابط ممارسة الشعائر والدعوة إلى الدين: أن تكون في ظل الحفاظ على أمن المجتمع، والحرص على سلامة النسيج الوطني.([14])

 

7- ومنهم من قرر أن حرية العقيدة لا تعني التلاعب في المعتقدات الدينية، أو اتخاذها هزواً أو لعباً، أو استحداث عقائد جديدة تتناقض مع الأديان السماوية وعلى الأخص دين الإسلام.([15])

 

8- ومنهم من زعم أن من بنود الحرية الدينية في الإسلام: أن يترك لغير المسلمين حرية تأدية شعائرهم، وأن يترك لهم حرية الدعوة إلى دينهم ما لم يؤد ذلك إلى إثارة الفتن والفوضى في المجتمع، كما أن المسلم يدعو لدينه وبالضابط نفسه. ([16]) 

 

9- ومنهم من ادعى أنه في إمكان غير المسلمين أن يعلنوا عن دينهم ومذهبهم وعقيدتهم، وأن يباشروا طقوسهم الدينية، وأن ينشئوا المدارس والمعابد لإقامة دينهم ودراسته دون حرج عليهم سواء كانوا يهوداً أو نصارى، بل ولهم أن يكتبوا ما يشاءون عن عقيدتهم، وأن يقارنوا بينها وبين غيرها من العقائد الأخرى في حدود النظام العام والآداب والأخلاق الفاضلة. ([17])

 

10- ومنهم من ادعى أن الشريعة سمحت لغير المسلم في أي بلد إسلامي أن يعلن عن دينه ومذهبه وعقيدته، وأن يباشر طقوسه الدينية، وأن يقيم المعابد والمدارس لإقامة دينه ودراسته دون حرج... وأن من حقهم أن يباشروا عباداتهم علناً. ([18])

 

11- ومنهم من قرر أن الأمر لا يقف عند اعتراف الإسلام بحرية العقيدة، بل يمتد ليشمل حق الإنسان في التعبير عن عقيدته وممارسته إياها في علنية وحرية، وفي حقه في الدفاع عنها وفي الدعوة إليها، وفي نقد غيرها من المعتقدات. ([19])

 

12- ومنهم من قرر أن حرية العقيدة تستلزم احترام أماكن العبادة جميعاً من دون تمييز بين الأديان وفقاً للآية الكريمة (وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40]([20]) 

 

ومؤدى هذا الكلام: أن تحترم أماكن الوثنية وبيوت الأصنام كما تحترم المساجد، فيحترم محل الشرك كما يحترم محل التوحيد.

وهذا التخبط في القيود على حرية الاعتقاد نتج عن محاولة أصحابه الجمع بين ما جاء في الإعلانات العلمانية لحقوق الإنسان وما فرضته الشريعة الإسلامية مع ما بينهما من تناقض.

 

وتقييدها بالشريعة الإسلامية هو إلغاء لحرية الاعتقاد بالمفهوم الغربي، وتقرير للعبودية لله تعالى، فصار تقريرها من لغو الكلام؛ لثبوت التضاد بين الحرية الغربية وبين مقام العبودية لله رب العالمين.

 

أدلتهم على حرية الاعتقاد:

 

يستدل دعاة حرية الاعتقاد بأدلة كثيرة جداً من القرآن الكريم والسنة النبوية، حتى قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى: "أحصيت أكثر من مئة آية تتضمن حرية التدين".([21]) وأوصلها غيره إلى مئتي آية.([22])

 

ويمكن نظم النصوص المستدل بها على حرية الاعتقاد في الموضوعات التالية:

 

أولاً: النصوص التي تنهى عن الإكراه في الدين أو تنفيه.

 

وغاية ما تدل عليه هذه النصوص أن أفراد الكفار لا يكرهون على الدخول في الإسلام، لكن يكرهون على الانضواء تحت سلطانه ويضرب عليهم الذل والصغار بالجزية، ولا يظهرون شعائرهم، ولا يدعون لدينهم. وهذا يتعارض تعارضا كليا مع المفهوم الغربي لحرية الاعتقاد؛ لأن فيه منعا من إظهارهم شعائرهم ودعوتهم إلى دينهم، كما أن فيه تمييزا على أساس ديني. 

 

ثانياً: النصوص التي ظاهرها التخيير بين الإيمان والكفر.

 

وهذه النصوص جاءت في سياق التهديد والوعيد، فكيف يستدل بها على حرية الاعتقاد، وفي النصوص نفسها ما يدل على أن من اختار غير دين الحق وهو الإسلام فإنه يعذب في النار، فهل من تُوعد بالنار مخير في اعتقاده؟!

 

وقد يقول من يحتج بها: نقصد التخيير في الدنيا، كما احتج بذلك عبد المتعال الصعيدي.

 

فالجواب: لم إذن تقولون: حرية الاعتقاد في الإسلام؟ فالإسلام يجمع بين الدنيا والآخرة في أحكامه وتشريعاته.

 

وهذا يدل على مدى سيطرة الفكرة العلمانية على كثير من المفكرين الإسلاميين في إقصاء الآخرة أثناء معالجة الحرية وقضاياها، والاقتصار على النظرة الدنيوية كما يفعل الغربيون.

 

ثالثاً: النصوص التي فيها أن الهداية الكونية لله تعالى وحده.

 

 ولا حجة فيها؛ لأن الإنسان يعاقب على اختياره. وأيضا: يلزم من احتج بهذه النصوص على حرية الاعتقاد أن يحتج بها على حرية عدم الالتزام بالأنظمة والقوانين الوضعية، وهم لا يقولون بذلك.

 

 فإن قيل: إن الناس ملزمون بها ويعاقبون على الإخلال بها.

 

 قيل: فكذلك الناس ملزمون بالإيمان والعمل الصالح ويعاقبون على الإخلال به.

 

ويظهر تأثير المنهج المادي الدنيوي في كتابات كثير من المسلمين المتناولين لقضايا الحرية في أنهم إن جاء الحديث عن حقوق الله تعالى الدينية عظموا شأن حرية الاعتقاد، وحرية ممارسة الشعائر، وحشدوا لها من النصوص ما يرونه يؤيد أقوالهم. وأما إن كان الحديث عن الالتزام بالأنظمة والقوانين حكوا أن الإسلام يربي أفراده على النظام، والالتزام به، ومراعاة حقوق الآخرين، مع أن الصورتين متطابقتان، لكن كان موضوع الأولى حقوق الله تعالى فاستهانوا بها، وكان موضوع الثانية حقوق البشر فعظموها على طريقة الماديين الغربيين في تعظيم الدنيا وما يلزم لها، وإقصاء الآخرة وما يجب للنجاة فيها.

 

رابعاً: النصوص التي فيها أن مهمة الرسول هي البلاغ فقط.

 

وأكثر المفسرين والفقهاء على القول بنسخها بآيات السيف والجهاد.  

 

وأيضا: الرسول وأتباعه ملزمون بإقامة الشرائع في الناس، ومنها الشرائع المتعلقة بالكفار حربا وسلما، كدعوتهم للإسلام، ومحاربتهم على الخضوع لحكمه بالرق أو بالجزية أو بالخراج. وكل ذلك مما يناقض حرية الاعتقاد بمفهومها الغربي.

 

ومن العجيب أن كثيراً ممن يحتج بنصوص البلاغ في هذا الموطن من العلمانيين والتنويريين العرب هم من أشرس الناس في محاربة هذا البلاغ ومحاصرته والمنع منه، وتجفيف منابعه، وإيذاء القائمين به بكل الوسائل الممكنة.

 

خامسا: النصوص التي فيها مقولات المنافقين الكفرية، ولم يؤاخذهم بها النبي -عليه الصلاة والسلام- . وهذا الاستدلال غلط؛ لأن المنافقين كانوا يسترون نفاقهم ولا يظهرونه حتى فضحهم الله عز وجل، ومع ذلك أنكروا أنهم قالوا ما قالوا، وحلفوا على هذا الإنكار كما في سورة التوبة. والدليل على أن المنافقين كانوا يسترون نفاقهم قول حذيفة -رضي الله عنه-: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ منهم على عَهْدِ النبي -صلى الله عليه وسلم- ، كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ.([23])

 

 وهذا نص صريح من أعلم الصحابة -رضي الله عنهم- بالمنافقين، وأمين سر النبي -صلى الله عليه وسلم-  فيهم بأنهم كانوا مستخفين، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم-  يعاملهم بظاهر حالهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، ولا يعاملهم بعلمه في بعضهم.

 

ومن أظهر منهم نفاقه فقال كفرا ولم يؤاخذه النبي -صلى الله عليه وسلم-  به كانت علة ذلك: حتى لا يقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه. ولم يعلله بحرية الاعتقاد أو حرية التعبير.

 

سادسا: النصوص التي تنكر على المشركين اتباع آبائهم وتقليدهم في شركهم.

 

وهذا الاستدلال حق في بابه لولا أن المستدلين بهذه الآيات من المفكرين المسلمين نقدوا عموم التقليد وخاصة في العقائد، وهي لوثة كلامية تسربت إليهم من أهل البدع في ادعاء أن أول الواجبات هو النظر أو القصد إليه أو الشك. وموضوع النصوص التي استدلوا بها إنما هو التقليد في الباطل الذي ليس عليه دليل، وأما التقليد في الحق الذي ثبت بالدليل، وهو المسمى (الاتباع) فهو مطلوب شرعاً، ومأمور به في الكتاب والسنة كما قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف:38]  وقال تعالى (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) [آل عمران:95].

 

بل زعم بعضهم أن النصوص المنتقدة تقليد المشركين لآبائهم تنص صراحة على أن الأنبياء -وأتباعهم بطريق الأولى- لم يرسلوا لكي يلزموا الناس بتعاليم دينهم، أو يكرهوهم على شيء لا يعتقدون صحته.([24])

 

وتجاوز بعضهم إلى ادعاء أن القتال هو لمن أحدث الفتنة، وفرض القهر والتسلط الديني مستدلين بقول الله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله) [البقرة:193].([25])

 

 بمعنى أن هذه الآية ومثيلاتها إنما هي في قتال من فرض التسلط الديني أيَّاً كان دينه، ومن لوازم تقرير ذلك: أن الاحتساب على الناس المأمور به في القرآن والسنة وكذلك الجهاد هو من التسلط الديني الذي يجب قتال أصحابه استدلالاً بهذه الآية. ويساوون بين الإسلام وغيره كما هو مقتضى القوانين الوضعية، والمواثيق الدولية، وإعلانات حقوق الإنسان، بل منهم من يجعل أديان اليهود والنصارى كالإسلام فيسمونها أدياناً توحيدية تمييزاً لها عن الوثنية.

 

وفي أثناء حشدهم للنصوص التي يستدلون بها على حرية الاعتقاد -في عملية انتقائية من القرآن والسنة- أهملوا ذكر حقائق مهمة في هذا الجانب، ومنها:

 

أولاً: النصوص التي فيها نقد الكفار، واتهامهم في عقولهم، وتسفيه آلهتهم، والإخبار عنهم بأنهم أضل من الأنعام، وأنهم شر البرية، وأنهم لا يعقلون.

 

ثانياً: تغافلوا عما جرى من إنكار الأنبياء -عليهم السلام- لممارسات أقوامهم، وأبلغ ذلك وأوضحه تكسير الخليل عليه السلام أصنام قومه مما يعد اعتداء صارخاً على حرية الاعتقاد بمفهومها الغربي، ومثله إحراق موسى عليه السلام العجل الذي عبدوه. وظهر أثر هذا الانحراف في تقرير حرية الاعتقاد حين هدمت طالبان أوثان البوذيين؛ إذ أنكره عدد من المفكرين الإسلاميين.

 

ثالثاً: أهملوا ذكر هلاك المكذبين السابقين بسبب بقائهم على الكفر، وتهديد المكذبين من أمة  محمد عليه الصلاة والسلام بالعذاب.

 

رابعا: أنهم في إثباتهم لحرية الاعتقاد في الإسلام ألغوا أحكاماً شرعية ثابتة؛ وذلك لتوسيع هذه الحرية التي أدخلوها في الإسلام قسرا، والاقتراب بها من مثيلتها في الفكر الغربي، وإذا ما وقع شيء من التعارض بينهما سلكوا سبل الاعتذار والتحريف، والانتقاء من المذاهب والأقوال ما يكون أقرب إلى الفكرة الغربية ولو كان رأياً شاذاً أو محدثا مخالفاً للإجماع، كما فعلوا في نفي حد الردة الثابت بالنص والإجماع، وكما فعلوا في حصر الجهاد في الدفع دون الطلب مع ثبوته بالنص والإجماع أيضاً.

 

خامسا: أنهم تحرجوا من أحكام شرعية ثابتة، فأوجدوا لها أعذاراً باهتة، ومخارج ضيقة، مثل: الجزية، وكذلك مشروعية الرق في الإسلام، وكونه ذلاً سببه الكفر، فاعتذروا عنه بأنه كان موجوداً عند الأمم كلها وليس عند المسلمين فقط؛ ولذلك أقره الإسلام، وكأن الإسلام يقر الباطل إذا كان سائداً! وهو ما أنزل إلا ليهدم الباطل، وإلَّا فإن الشرك كان سائداً فلماذا أبطله الإسلام، وأبطل كثيراً من اعتقادات المشركين وشعائرهم وعاداتهم؟!

 

وأخيرا: فإن مبنى الحرية بكاملها -ومنها حرية الاعتقاد- على أصل فاسد وهو أن الأصل في البشر السلم، وأن الأصل في الإنسان أنه مسالم لا يحب العدوان، وهي فرضية غير صحيحة. بل الأصل في البشر الحرب وليس السلم، والأصل في الإنسان العدوان وليس العدل؛ كما قال الله تعالى (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72] "فقد أخبرنا الله عن جنس الإنسان أنه ظلوم جهول"([26])والظلم والجهل يحملان الإنسان على الاعتداء وسفك الدماء. والملائكة كانوا يعرفون حقيقة البشر قبل أن يخلقوا بما علمهم الله تعالى، أو بتجربة خلق لله تعالى سابقين على البشر سكنوا الأرض فأفسدوا فيها، أو بالنظر إلى طبيعة خلق آدم -عليه السلام-، وأنه خلق أجوف فهو يشتهي، والشهوة ستكون سببا للأثرة والصراع؛ ولذا قال الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [البقرة:30].

 

 وإذا كان الأصل في الإنسان الجهل والظلم، كان لا بد من ضبطه بالشرائع أو بالقوانين لكي لا يعبث في الأرض بجهله وظلمه؛ فأهل الإيمان ارتضوا أن يُضبط الإنسان بشريعة الله تعالى، والعلمانيون ومن وافقهم ارتضوا أن يُضبط بما تنتجه الأهواء البشرية من قوانين.

 

وإذا كان السلم ليس أصلا في البشر، وهو خرافة ابتدعها الغرب ليستسلم لهم المسلمون كان لا بد من توجيه الصراع -الذي هو سمة البشر- بحيث تكون وجهته إعلاء كلمة الله تعالى، ليكون الدين كله له سبحانه وتعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ) [البقرة:251] وهذا الدفع سيبقى إلى آخر الزمان فلم يكن ثمة حرية اعتقاد البتة.

 

 

 منشور في مجلة البيان جمادى الأول 1436

 

([1]) مدخل تاريخي لدراسة حقوق الإنسان: 258-259.

([2]) المصدر السابق: 118.

([3]) الحماية الدولية لحقوق الإنسان، نصوص ووثائق: 170.

([4]) الحقوق والحريات والواجبات العامة في دساتير دول مجلس التعاون الخليجي مع المقارنة بالدستور المصري، ص:75.

([5]) حقوق الإنسان وطرق حمايتها في القوانين المحلية والدولية، ص:180.

([6])الحرية منهج الإسلام وتشريعه، ص:91.

([7]) الحريات العامة في الأنظمة السياسية، ص: 262

([8]) الحقوق والحريات العامة في عالم متغير، ص: 39.

([9])حقوق الإنسان في ظل العولمة، د.علي يوسف الشكري، ص: 209.

([10]) الحقوق والحريات العامة في عالم متغير:40.

([11]) حقوق الإنسان وحريته الأساسية، هاني سليمان طعيمات، ص: 163.

([12]) حقوق الإنسان في القانون والشريعة الإسلامية، ص: 80

([13]) حقوق الإنسان في الأديان، سعدون الساموك وعبد الرزاق الموحي، ص:180.

([14]) الحرية الدينية ومقاصدها في الإسلام، وصفي عاشور أبو زيد، ص: 39.

([15]) حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية، ص:60.

([16]) الحرية الدينية ومقاصدها في الإسلام: 38.

([17])حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية: 3/60.

([18]) التشريع الجنائي في الإسلام مقارناً بالقانون الوضعي: 1/32-33.

([19]) حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية: 71.

([20]) أركان حقوق الإنسان، صبحي المحمصاني: 123، وزعم الشيخ محمد رشيد رضا أن الغرض من الحرب أن تكون الغاية الإيجابية من القتال حماية الأديان كلها مستدلاً بهذه الآية، ينظر: الوحي المحمدي، ص:323.

([21]) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث: 128. 

([22]) إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم، طه العلواني: 99.

([23]) رواه البخاري (6696).

([24]) الحرية الدينية ومقاصدها في الإسلام: 36.

([25]) حقوق الإنسان في القرآن الكريم، فاروق السامرائي: 89. والإسلام وحقوق الإنسان محمد حمد خضر: 27-28، وحقوق الإنسان في الإسلام علي عبد الواحد وافي: 220. 

([26]) منهاج السنة لابن تيمية (8/287).

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات