ظاهرة (توظيف الخلاف الفقهي) في دعم الانحرافات الفكرية

فهد العجلان

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

تتفجَّر ينابيع الحماسة في أنامل هذا المنحرف لإشهار القـول الفقهـي بأن وجـه المـرأة وكفيهـا ليـس بعـورة، بينمـا لا يفكِّر أن يذكر اتفاق الفقهاء على أن ما عداهما عورة وواجب الستر بالقطع واليقين، ولا يريد أن يُجهِد فكره ليعلم أن وجود خلاف في كشف الوجه والكفــين لا يســوِّغ أن يقـف مبــرِّراً للفساد والانحــراف الـذي تجــاوز هــذا بكثيـر.

 

 

 

 

 

لن يجد القارئ للانحرافات الفكرية المعاصرة عناءً في إدراك طريقة تسويق كثير من الانحرافات المعاصرة من خلال رفعها على مِنَصَّة الخلاف الفقهي، وأصبح الاستناد إلى خلاف الفقهاء غالباً على كثيرٍ من تلك الدراسات والمقالات.

 

ومـع أنَّ الانحـراف الفكــري يستند إلـى الخـلاف الفقهـي؛ إلا أن طبيعة الخلاف الفقهي وسموَّ مرجعيته وشخصية أهله تجعله غير قابل للتقليد؛ فينكشف سريعاً كلُّ من يحاول أن يغطِّي انحرافه بستار الخلاف الفقهي، وتبدو البقع السوداء واضحة عن يمينه وشماله؛ كاشفةً للبصير براءة الخلاف الفقهي من هذا الانحراف.

 

مهما حاول المنحرف أن يبدي الوجه الفقهي المشرق في عرضه لهذه القضية؛ فإن بشرة الانحراف الداكنة لا بدَّ أن تعلوها تلك الندوب السود التي لا تصبر طويلاً أمام أشعة الشمس الطاهرة.

 

ولعلِّي هنا أضرب مثالاً للبقع السوداء التي تلازم الانحراف الفكري حين يتستر بالخلاف الفقهي بمسألة (حدود الحجاب الشرعي) الـذي يرضـاه الله ورسـوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أظنُّ أن ثَمَّة مسألةً فقهيةً يعرف الناس الخلاف فيها كهذه المسألة، وكثيراً ما يتكئ (المنحرف) عن النصِّ على أرائك تبرير التبرج والتعري من خلال إشاعة هذا الخلاف الفقهي وإثارته وترجيح قول على قول؛ وفي حسبانه أن رأيه في اختيار (جواز كشف المرأة المسلمة لوجهها وكفَّيها) سيكون مألوفاً هادئاً؛ لأنه من جنس كلام الفقهاء.

 

غير أنه لم يفطن للبقع السوداء التي تطفو على سطح قلمه؛ تكشف للناس عمق الظلمة والسواد الذي ينضح من هذا الخلاف، وأن العاقل البصير حين يرى هذه البقع سيعرف أنه أمام انحراف فكري يفسد المرأة المسلمة ويتعدى على أحكام الشريعة لا أمام خلاف فقهي فرعي؛ وإن كان (الانحراف الفكري) و (الخلاف الفقهي) كلاهما يتحدثان عن كشف الوجه.

 

إن الانحراف الفكري يتحدث في موضوع حجاب الوجه؛ فيثني على السفور ويبدي محاسنه وفضائله وكيف أنه يحقق للمرأة ثقة وراحة لا يؤدِّيها الغطاء الذي يعرقل مسيرتها ويثير الغرائز نحوها، ويُفِيض الانحراف الفكري على هذا النحو بشيء من السخرية أحياناً، وهم يجهلون أن الحجاب - باتفاق جميع الفقهاء - هو من الأمور المشروعة  المتفق على أنها من شريعة الإسلام؛ فتفضيل السفور على الحجاب والطعن فيه بهذه الطريقة هو في حقيقته إساءة إلى الشرع وطعن السنَّة وتعــدٍّ علــى حكــم شرعــي (على أيِّ قول فقهِيٍّ كان).

 

ولم يكن الخلاف الفقـهي في يوم من الأيام يسير في هذه المسألة على خطٍّ الإشادة بالسفور والطعن في الحجاب؛ لأن هذا من العدوان على السنن، وهم من أنصر الناس لها.

 

أترون أن خلاف الفقهاء في سُنِّية صلاة الجماعة في المساجد - مثلاً - يبيح لأحد أن يطعن في مرتادي المساجد ويتهمهم بالتخلُّف والجمود في مقابل من يصلي في بيته من المتحضِّرين والمعتدلين؟! فهل يخرج مثل هذا من منبع فقهي صافٍ؟.

 

والمنحرف يغطي حقيقة فكره في منبع هذا الخلاف الفقهي؛ فيدعو إلى (منع) حجاب الوجه ومحاصرته، ويسعى لمحاربته وسنِّ القوانين المجرِّمة له، وتضيق نفسه ذرعاً واشمئزازاً من رؤية المنتقبات، ويستغرب – بعد كلِّ هذا - من تشنيع الناس عليه في هذه الممارسة، وهو يظن أنه يسبح في المحيط المائي للخلاف الفقهي، وما شعر ببقعة السواد الضخمة التي تحيط به؛ تكشف عن حجم الجراثيم التي يحملها؛ حين يدعو إلى تجريم الشريعة والتبرُّم منها ومن القائمين بها كراهيةً.

 

ويُخشى على مثل هذا أن يكون ممن قال المولى - جل وعلا - فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9].

 

يرى (المنحرف) بعينَي رأسه التهاون الكبير في أمر الحجاب، وتمرُّ عليه يومياً صور التفسُّخ والتعرِّي في القنوات والصحف والأماكن التي يعمل أو يدرس فيها؛ فلا ينبس فيه بحرف، ولا يتحرَّك فيه شيء؛ بينما يسطِّر المقالات والدراسات التي يرجِّح فيها القول الفقهي بجواز كشف المرأة لوجهها وكفَّيها بناءً على الأدلة الشرعية كما يعتقد؛

 

فهل غدا (الفقيه) متحمِّساً لنشر رأي فقهي أكثر من حماسته لإنكار المنكرات الـمُجْمَع عليها وتصحيح المفاهيم القطعية التي كثر التهاون فيها، أم أنَّها بقعة سوداء؟

 

تتفجَّر ينابيع الحماسة في أنامل هذا المنحرف لإشهار القـول الفقهـي بأن وجـه المـرأة وكفيهـا ليـس بعـورة، بينمـا لا يفكِّر أن يذكر اتفاق الفقهاء على أن ما عداهما عورة وواجب الستر بالقطع واليقين، ولا يريد أن يُجهِد فكره ليعلم أن وجود خلاف في كشف الوجه والكفــين لا يســوِّغ أن يقـف مبــرِّراً للفساد والانحــراف الـذي تجــاوز هــذا بكثيـر.

 

ولا يستوعب العقل الفقهي أن يفهم حالــة مـن يقف في وجه إنكار التكشُّف والتبرج الفاضح بدعوى جواز كشف الوجه!

 

عاش الفقهاء – رحمهم الله - قروناً وهم يتداولون هذه المسألة الخلافية، في جوٍّ معظِّم للحجاب ولمقاصده، داعٍ للحفاظ عليه وسدِّ الذرائع الممزِّقة له، مُشِيعٍ لأحكام الشريعة المتعلِّقة بصيانة المرأة: من تحريم الخلوة والاختلاط ووجوب الحجاب وغضِّ البصر والمحرَم والنهي عن التزيُّن والخضوع في القول والأمر بالقرار في البيت، وعاشت هذه المسألة في قلوب حية تتألم من أي انحراف أو فساد يصيب بعض نساء زمنهم، غير أن هذا كلَّه تبخَّر ولم يبقَ منه على السطح إلا (كشف المرأة لوجهها وكفيها)؛ فجاء بها من أقصى الخلاف الفقهي منحرف يسعى جذلاً بضالته.

 

ومهما حاول المنحرف أن يبدي الوجه الفقهي المشرق في عرضه لهذه القضية؛ فإن بشرة الانحراف الداكنة لا بدَّ أن تعلوها تلك الندوب السود التي لا تصبر طويلاً أمام أشعة الشمس الطاهرة.

 

هذا مجرد مثال، ولست بحاجة في خاتمته أن أشدد التأكيد على أن مقصود الحديث فيه هو تسليط الإضاءة النقدية على ممارسات المنحرفين في التستر خلف بعض الاختيارات الفقهية، وليس غضّاً من قولٍ فقهي، ولا طعناً في فقهاء أجلاَّء أو لمزاً لمن يختار هذا القول الفقهي أو ذاك لاجتهاد معتبر.

 

وهكذا... اختبرْ كلَّ خلاف فقهي يسوقه (منحرف فكري) في أي مسألة كانت، وستجد البقع السوداء طافية على سطحه، ومهما حاول أن يسترها بكلِّ ما أوتي من سلاسة لفظية وبراعة احترازية؛ فإن هذه البقع السوداء تأبى إلا الظهور؛ ليعلم المسلــم أنه أمام خَلَل فكــري لا خلاف فقهي.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات