رفع الشكوك عن تحريم الاكتتاب في البنوك

محمد بن أحمد الفراج

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

6/ أن المناهي المغلظة أولى بتطبيق قاعدة الاشتباه عليها من قاعدة الاغتفار إلا ما دل عليه الدليل كقليل الحرير للرجال ونحوه، ولهذا قرر الفقهاء ترك الكثير الحلال إذا اشتبه بحرام على وجه لا يتميز ولو قلّ فمن ذلك: إذا اشتبه ماء أو ثياب نجسة أو محرمة بطاهرة وجب ترك الجميع، وكذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة أو ذات محرمه بأجنبيات لم يحل له التزوج بواحدة ممن اشتبهت بهن وأشباه ذلك، والعوائد الحاصلة من البنوك مختلطة من عوائد أصول ومعاملات حلال وأخرى حرام.

 

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على عبده ورسوله محمد نبي الأميين وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. ..

 

رب يسر وأعن قبل أيام أعلن البنك الأهلي عن نيته طرح أسهمه للاكتتاب العام ومعنى الاكتتاب العام: تمكين المواطنين من شراء بعض أسهم البنك ليكونوا مساهمين مالكين لبعض أسهمه وحصصه.

 

الأمر الذي أثار موجة إنكار واستنكار من عامة أهل الفطرة والإيمان وخاصة أهل العلم والدعوة والاحتساب، فذكّروا الناس بشناعة الربا وغلظ تحريمه، واعتبار الشارع إياه إحدى الكبائر الموبقات، وما توافر من الآيات وتواتر من الأحاديث في هذا الأمر، وما مضت عليه الفتوى من الجهات الشرعية الإفتائية المعتبرة في هذه البلاد، والتي بقيت حية في بطون الكتب والرسائل وعلى ألسنة المفتين وإن مات كثير من مصدريها والقائلين بها عليهم من الله سحائب الرحمة والغفران، هذه الفتاوى يمكن أن يقطع السابر لها بالإجماع على تحريم العمل والتعامل في بنوك الربا إقراضا واستقراضا، حتى ولو ترك الحصة الربوبية المسماة بالفائدة وتنازل عنها لصالح هذه البنوك؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، كما نطقت هذه الفتاوى بتحريم العمل في البنوك المذكورة أيِّ عمل من الكتّاب إلى البوّاب، ومن السائس إلى الحارس، وإذا كانت الفتوى بتحريم ما سلف ذكره من إقراض البنك ولو بلا فائدة فما ظنكم بمشاركته وأهله يأكل المكتتب مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون !

 

كان الناس أمة واحدة على الأخذ بهذه الفتاوى والعمل بها، ومن خالف فارتكب الربا علم أنه عمل محرما وعلم الناس وتحاشى كثير منهم التعامل معه، وربما شهود موائده، وقبول هديته، حتى بلينا في هذا الزمان بما بلينا به من الجراءة على النصوص والشغب على محكمات الشريعة، وهدم فتاوى السلف البعيد والقريب، فأصبح كل شيء قابلا للنقاش، وداخلا تحت الحوار، ثم بدأ الأمر يتجه للمطالبة بقصر الخلق وقسرهم على فتاوى جديدة، ومصادرة القديم والتمرد عليه واعتبار الداعي إلى التمسك به خارجا مغردا خارج السرب.

 

وصدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية برئاسة سماحة مفتي البلاد ومشاركة أعضائها مؤكدة ما مضت عليه الفتوى من تحريم الاكتتاب في بنوك الربا، ونشرت فتاوى كبار العلماء وطلبة العلم، والمتخصصين في الاقتصاد الإسلامي، وعلى رأسهم سماحة شيخنا العلامة الورع عبد الرحمن البراك، زاده الله وزادنا به بركة؛ مما جعل البنك يعيد حساباته؛ ليخرج لنا بالبيان الطامة الصادر من هيئته الشرعية.

 

وقبل تتبع حيثيات فتوى هيئة البنك والكرّ عليها بالتفنيد والنقض بحول الله وتوفيقه لابد من الإشارة إلى هذه الأمور:

 

الأول: التذكير بشناعة الربا وغلظ حرمته حتى لا يذهلنا عن ذلك ضجيج المهاترات وجدل المناقشات لاسيما والنصوص الواردة في ذلك مشحونة بالوعظ بأعنف لفظ والتذكير بأصدق تقرير والوعيد بأخطر تهديد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) فأنت ترى هنا أن الله نادى بالإيمان وذكر بالتقوى، وحذر من النار، وأوجب تركه طاعة لله ورسوله وبشر بالرحمة من ترك وامتثل.

 

ومن أواخر ما نزل من القرآن تحريم الربا في سورة البقرة ليقطع دابر الشغب وادعاء النسخ من قوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.. الآية) إلى قوله سبحانه: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) وبينهما من التنفير والتحذير والوعيد والتهديد.

 

وفي الآيات المحكمات الكريمات: تقبيح صورة المرابي وتشبيهه بمن يتخبطه الشيطان من المس، وهوس التمحل وجنون التبرير للربا والمرابين بالقياسات فاسدة الاعتبار لمصادمتها النصوص الجلية كقياس البيع على الربا مبالغة في استحلال الربا بجعله في موضع الأصل المقيس عليه، ووعظ البارئ للمرابين بالانتهاء، وتهديد المصرّ بالنار والخلود فيها، ومحق الربا وإذهاب بركته، ووصف المستحل له بالكفر ومتعاطيه بالإثم وإعلان الله وإعلامه بكره أهله وعدم محبتهم وحربهم (والله لا يحب كل كفار أثيم) وأي خير وبركة يرجو لنفسه من آذنه الله بحرمان الحب ونيران الحرب، وذكّر الله مرة بعد مرة ووعظ كرة إثر كرة، وأبدى وأعاد، وحذر العباد، ونادى بالإيمان أولاً وشَرَطَ به آخراً (يا أيها الذين آمن ا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. .. واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) ففي هذه الآيات الخاتمة للقرآن الكريم كفاية لمن نصح لنفسه وابتغى خلاصها، ومن لم تحرك قلبه فليكبر عليه أربعا لهلاكه.

 

وفي السنة من التذكير والوعيد ما يجل عن الحصر فمن ذلك ما جاء في الصحيح مِن لعْنِ مَن ليس باللعان -إلا لأمر ذي خطر وشأن - لأهل الربا المعين والمعان، قال ابن مسعود:" لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وآكله وشاهديه وكاتبه وقال هم سواء" وجاء في الصحيح عدّ أكل الربا من السبع الموبقات، وفي الصحاح والسنن وغيرها براءة النبي -صلى الله عليه وسلم- منه وأهله وإسقاطه ووضعه تحت قدميه وذلك في أعظم موقف وأشهر مقام في يوم عرفة يوم الجمعة والحج الأكبر وإكمال الدين وأشهد الله على البلاغ فقال صلى الله عليه وسلم: " ألا إن ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون اللهم هل بلغت اللهم اشهد " اللفظ لأبي داود.

 

وسبحان ذي الجبروت والملكوت فمنذ أن وضع الجبل الأشم الربا تحت قدميه: لا يزال أهله ودعاته والمتهوكون فيه والمتمحلون لإحلاله موضوعين تحت الأقدام محقورين لدى الأنام، محرومين من الإجلال والإكرام.

 

الثاني: أن الفتوى لا تطلب من جهة تنتفع بهذه الفتوى؛ كموظفين في البنك، من غير اتهام لهم بالغش والخيانة، لكنها قاعدة شرعية مؤصلة سدا للذريعة؛ فمن المتقرر شرعا أن القاضيَ لا يقضي لنفسه ولا لقرابته ممن لاتقبل شهادته له ولا يقضي على عدوه، والفتيا كالقضاء.

 

وكذلك الشهادة لا تقبل شهادة المرء لفرعه ولا لأصله ولا لمن يجر بها نفعا لنفسه، من غير اتهام لهذا القاضي والشاهد بالغش والخيانة والمحاباة، ولكن لسد الذرائع وإحكام الشرائع؛ وعليه فإن الفتوى في الأمور الكبيرة والنوازل الخطيرة لا تطلب ممن يعملون في المؤسسة ذات العلاقة، في قضية بكرٍ لم يسبق فيها قول، فكيف بمسألة عوانٍ سبق القول فيها ومضت الفتوى عليها.

 

الثالث: أن الفتوى لها أهلها المحايدون وإلا لاتخذت كل جهة لنفسها جهة إفتاء وضاعت الفتيا واضطربت، وعلى هذا نص القرار الأخير المنظم لها الصادر من ولي الأمر، نعم لكل جهة أن تعين هيئة شرعية من ثقات العلماء لتبصير منسوبيها والاحتساب علي محسوبيها، لا أن تعلن فتواها للكافة وتنشر للعامة في إعلام خاص أو عام.

 

الرابع: أن الاجتهاد في الأمور العامة لا ينقض بالاجتهاد، وإلا لاضطربت حدود الشريعة وحقوق الخلق، وعم الخوف وحَذَرُ التخطف، ونزعت الثقة في الأحكام، وما يقال فيها يقال في الفتاوي، وأما أثر " ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي" وتغير الفتيا بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص وجديد القول وقديمه، فهذا للمجتهد الواحد، أو لغيره بتغير الحال الموجبة تجدد النظر، إذا سلم أن الثاني من أهل الاجتهاد، ولا كذلك قضيتنا؛ وإن كان من تغير في أمر البنوك فهو إلى الأسوأ إلا مارحم ربك.

 

إذا تقرر ما سلف آن الشروع في الموضوع:

 

فأولا: يلفت نظرك أن بنكا بوزن ذلك البنك وأهميته وقوائمه المالية وحساباته واستحقاقاته وأصوله ومقابلات رجالاته والاطلاع على معلوماته الدقيقة والمحدَّثة، كل هذا تم الاطلاع عليه ودراسته في سويعات ففي صدْرِ بيان هيئة البنك أن الاجتماع كان يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة الذي في عشيته أعلنت نتيجة النظر وصدر بيان الهيئة، وهذا لا يتهيأ للجان وفئام من حذاق المتشرعة والمتخصصة ممن قيل فيهم:

 

والناس ألف منهمو كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنى

 

فكيف تهيأ التدقيق والتحقيق لثلاثة بارك الله فيهم ووفقهم وأصلحنا الله وإياهم.

 

ثانيا: في الفقرة (1): جاء في البيان " تمام التأكد أن جميع فروع البنك يقتصر عملها على التمويل والخدمات الإسلامية فقط " هذه عبارة فضفاضة، فما شأن غير عمليات التمويل من الودائع والخزائن، وهل ألغت فروع البنك النسبة الربوية المسماة بالفائدة للمقرضين المتعارف عليهم بالمودعين ؟!

 

ثالثا: في الفقرة ( 2 ) من البيان " لاحظت الهيئة.. إلخ "

 

ولاحظنا على الهيئة الحرص الشديد على ضبط النسبة الاسلامية المزعومة بالثلثين (67 بالمائة) والأصول الربوية بالثلث حتى يتأتى إخضاعها لقاعدة (الثلث كثير) وسبحان ربك الذي مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكنا، كيف انضبطت النسبة على وجه الدقة بالأرقام العشرية والكسرية، ولاتنس أن هذا كله تم خلال ساعات !

 

ولاحظنا أيضا: الهروب المقيت من تسمية الحقائق الشرعية بأسمائها:

 

سمّوا بالحقائق باسمها *** فالقوم أمرهمو صراح

 

لماذا (تقليدية) يا أصحاب الفضيلة اعترفوا بالحقيقة المرة وقولوا ( ربوية) لو قالها غيركم من القانونيين يا أصحاب الفضيلة لهضمناها على مضض، ومن تحرّج في تسمية الربا باسمه فكيف سيقدم على تحريمه ؟!

 

وفي الفقرة (أ) من الفقرة (1) " لاحظت الهيئة بعد مراجعتها للقوائم المالية أن ماورد تحت بند السندات.. إلخ"

 

ومن هذا يقضي المرء عجبا لهذا المِحال والاندفاع للتبرير، ولتوضيح الأمر للقارئ الكريم: اعتبرت الهيئة أن هذه السندات البنكية الصادرة من البنك لجهات حكومية أو مدخرات في مؤسسة النقد إنما هي تعامل بين الحكومة ونفسها باعتبار أن (80 بالمائة) من البنك مملوك للحكومة فعلى هذا لا تعتبر فائدة الإقراض ربا لأن الحكومة تعاملت مع نفسها بيعا وإقراضا.

 

وكشف هذه الشبهة من وجوه:

 

1/ أن هذا أخذ بقول ضعيف مرجوح ذكره بعض متقدمي الفقهاء من أهل الرأي لا أهل الحديث: أن الربا لا يجري بين السيد وعبده فللسيد أن يربح على عبده قرضا أو بيعا في الربويات، باعتبار أن العبد وما ملك لسيده فكأن السيد اشترى واقترض من نفسه، وهذا قول ضعيف لادليل عليه ومن جهة النظر فالتعليل المذكور عليل؛ ذلك أن العبد يملك لقوله في الحديث " من باع عبدا وله مال " فأثبت له مالا ولام ملك، إلا ما انتزعه سيده كالوالد مع ولده.

 

ولأن المسلم إذا أجرى عقدا شرعيا مع عبد أو ولد أو زوج خضع للشروط الشرعية كالأجنبي ولا فرق، ومن فرق فعليه الدليل ولأن الفقهاء نصوا على بطلان بيع المرء من نفسه فمن أركان عقد البيع: العاقدان، وإذا بطل العقد بطل ما ترتب عليه، فكيف يقاس عليه والحالة هكذا ؟ولو سلمنا جدلا بصحة الدليل والاستدلال والمدلول فالقياس باطل للفارق المذكور فيما يأتي.

 

2/ أن كلا من مؤسسة النقد والبنك شخصية اعتبارية والشخصيات الاعتبارية في التعامل كالحقيقية الطبيعية، وكل شخصية اعتبارية ينظر إليها استقلالا عن الشخصية الأخرى ولها ذمتها المالية المستقلة هكذا قرر أهل العلم، وقد نص القانونيون والفقهاء على أنه يمنع التقاصّ والتحاصّ - دون حوالة برضا- بين دين المساهم في مساهمته ودين في ذمته لاستقلال هذا عن ذاك؛ فهذا متعلق بذمته وذلك متعلق بذمة الشركة، وغير تلك من المسائل المترتبة على انفصال ذمة الاعتبارية عن الطبيعية ولوكانت أحد الشركاء والمساهمين، فإذا كان كذلك فانفصال اعتبارية عن اعتبارية أولى وأحرى.

 

3/ أن الحكومة ممثلة في جهاتها المستفيدة ومؤسسة النقد من جهة والبنك من جهة كلا منهما وكيل عن رعيته، وتصرف ولي الأمر في رعيته منوط بمصلحة الرعية الدينية والدنيوية فلا يتعامل لهم بحرام ولا بضرر، ورعية الحكومة ليست رعية البنك إياها حصرا وعينا، ففي هذه الرعية ماليس في الأخرى والعكس، وهذا كاف في إبطال ما ذكروه.

 

4/ ولو سلمنا جدلا بناء على أن نسبة (80 بالمائة) مملوكة للدولة وأنها كالذي يشتري ويقترض من نفسه فإن كثيرا من أسهم الدولة ستنتقل إلى المواطنين بالاكتتاب، وتتغير النسب؛ فبهذا ينتقض عليهم ما أصلوه.

 

ه/ ولو سلمنا أيضاأن ثلثي أصول البنك من ممتلكات واستثمارات لا غبار عليها، فمن أين أنشئت وكيف حُصّلت رؤوس أموالها، المتبادر أنها من عوائد بنكية ربوية أو مختلطة.

 

رابعا: في الفقرة (أ) من (4) جاء في البيان " ثقة الهيئة الشرعية واطمئنانها" فقد جعلت الهيئة من حيثيات بناء حكمها وإصدار فتواها ثقتها بتحول البنك إلى المصرفية الإسلامية الكاملة والتخلص من السندات خلال مدة معقولة.

 

وهذا مع كونه اعترافا من أهل البيان بتلوث البنك في الحالة الراهنة فهو والله من أعجب ما رأيت وقرأت من تسبيبات حكم وحيثيات فتوى، وكيف يجازف عالم بتوريط أجيال بمشاركة منشأة ربوية بناء على آمال وتطلعات مبنية على الثقة لا على ضمانات، إن هذا لهو البلاء المبين.  وهذا البنك الذي التزم للهيئة ألا يعلن التزامه بمدة محددة للجمهور ؟!

 

وحتى لو كان هناك ضمانات فبأي كتاب وسنة تغتفر حالة واقعة لحالة متوقعة، وبأية حجة تستباح مشاركة مال حرام ومختلط ولو لحظة واحدة، وما مقدار مدة التحول المعقولة على حد وصف الهيئة، وهل تصح الإحالة في تحديده على أجل مجهول وهو (حدود ما تسمح به الأنظمة والقوانين وضوابط العمل المصرفي )، وما حال من اكتتب ولقي الله قبل تمام التحول إن حصل، وعلى حسب تحديد الهيئة في موضع آخر بخمس سنوات كم سيموت خلالها وكم سينمو من مال حرام مختلط بحلال والنماء له حكم الأصل والله المستعان.

 

وبناء على هذا التسبيب وهذه الحيثية لقائل أن يقول بجواز مشاركة كَرْمِيٍّ يصنع العصير والخمر إعانة له على التخلص من خمره وثقة بوعده خلال مدة زمنية وأشباه ذلك.

 

وأخيرا فهذه الخبرة التي خبرتها الهيئة عن بنكها وزكته بها (وهو ما خبرته من التزام مؤسسي لسنين طويلة من إدارة البنك )، فإذا كان هذا البنك لم يفلح خلال هذه السنين الطويلة في التحول الملموس إلى الصيرفة الإسلامية فمتى سيتم كامل النقاء ؟!

 

ومتى العَود صاحبي بالسلامة *** أإلى الحشر أم ليوم القيامة ؟!

 

وكم يذكرني هذا بتدرج دول في تطبيق الشريعة الإسلامية فنيت أجيال ونشأت أجيال ولمّا بعدُ تصل !

 

وفي الفقرة (ب) "أن البنك سيستمر في الاقتصار في عمليات التمويل للأفراد على الصيغ الإسلامية، وسيستمر من الآن فصاعدا في العمليات المستجدة في قطاع الشركات على الصيغ الإسلامية "

 

حسنا وماذا عن غير ذلك من عمليات الإيداع والحسابات الجارية ؟

 

وفي الفقرة (ج) " أن الأصول محل الاعتراض لاتمثل إلا نسبة تقل عن الثلث من جملة الأصول.. إلخ " والاستدلال بحديث " الثلث كثير " وذكر قاعدة للقليل حكم الكثير.

 

وهذا استثناء من الربا لا دليل عليه، وأول من نادى باغتفار الربا الصريح في حد علمي الشيخ يوسف القرضاوي غفر الله له إلا أنه حدد القليل بعشرة أو عشرين في المائة ولم يرقَ إلى الثلث كما فعل أعضاء الهيئة غفر الله لنا ولهم.

 

والجواب هنا في نقاط:

 

1/ أن الحديث وارد في الوصية في قصة مرض سعد رضي الله عنه، ولا دليل على عمومه.

 

2/ أن الوصية مندوب إليها ومأمور بها والربا منهي عنه ولا يقاس النهي على الأمر فإن النهي يجتنب كله قال صلى الله عليه وسلم " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".

 

3/ أن معيار الشارع في الربا دقيق جدا فنهى عن مجهول التماثل المسمى بالجزاف نهيَه عن معلوم التفاضل، وقرر الفقهاء تحريا للدقة في المعيار تحريم بيع المكيل الربوي بمثله إلا كيلا والموزون بالموزون إلا وزنا، لا كيلا ولا جزافا تحريا للدقة.

 

4/ من المسائل المشهورة في باب الربا ما يسمى بمسألة " مد العجوة " ودليها حديث فضالة بن عبيد في الصحيح " القلادة والخرز " وصورتها أن يبيع مدَّي ربوي بمد من جنسه ودرهم أو أن يبيع ربويا بجنسه ومعه أو معهما من غير الجنس وهي ممنوعة في قول الجماهير ولو قلّ الربوي توخيا للتماثل ومنعا لأدنى تفاضل، ومنعوا أيضا بيع الحفنة بالحفنتين والحبة بالحبتبن والتمرة بالتمرتين، قال الموفق ابن قدامة في مغنيه: "فصل: ما جرى الربا في كثيره جرى في قليله".

 

قلت: هو الأصل ومقتضى عمومات النصوص وإطلاقاتها.

 

5/ أن الأصل في المناهي العموم وعدم التفريق بين القليل والكثير فورد النص على تحريم قليل الخمر ككثيره وفي الحديث " ما أسكر كثيره فقليله حرام " رواه أحمد وأصحاب السنن ولهم " ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ".

 

والربا أغلظ حرمة من الخمر وفي كلٍ شر عافانا الله منهما، ذكر القرطبي -رحمه الله- " أن رجلا رأى سكران ينادي القمر ليسقط في حجره فحلف بطلاق امرأته أنه مادخل جوف امرئ شر وأخبث من خمر، ثم سأل الإمام مالكا -رحمه الله- فقال مالك: ارجع إلي بعد ثلاث، فراجعه فقال: راجع امرأتك فقد طلقت؛ فإني استعرضت القرآن والحديث فما وجدت شيئا دخل الجوف شرا ولا أخبث من ربا ".

 

وكذلك يجتنب الماء الطهور لنجاسة قليلة كقطرات بول ودم.

 

6/ أن المناهي المغلظة أولى بتطبيق قاعدة الاشتباه عليها من قاعدة الاغتفار إلا ما دل عليه الدليل كقليل الحرير للرجال ونحوه، ولهذا قرر الفقهاء ترك الكثير الحلال إذا اشتبه بحرام على وجه لا يتميز ولو قلّ فمن ذلك: إذا اشتبه ماء أو ثياب نجسة أو محرمة بطاهرة وجب ترك الجميع، وكذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة أو ذات محرمه بأجنبيات لم يحل له التزوج بواحدة ممن اشتبهت بهن وأشباه ذلك، والعوائد الحاصلة من البنوك مختلطة من عوائد أصول ومعاملات حلال وأخرى حرام.

 

وهل ترى أن مشركي مكة أفقه أو أورع حينما حطموا البيت وقصروه عن قواعد إبراهيم وأخرجوا منه الحطيم لقصور النفقة الحلال وتطهيرهم بيت الله عن مهر بغي وحلوان كاهن ولو قلا.

 

خامساً: قاست الهيئة شراء أسهم البنك على ما انتهت إليه بعض الهيئات من جواز شراء أسهم البنوك ( التقليدية ) لتحويلها إسلامية، ومع إصرار الهيئة الموقرة على هذه التسمية الهروبية من التسمية الشرعية فالجواب من وجوه:

 

1/ أن يقال بعدم التسليم بصحة القياس؛ للنزاع في ثبوت الحكم في الأصل المقيس عليه؛ وما يدفع لأجل التحويل فهو مفاداة أو سموها ما شئتم، أما الثمن فهو للبيع الشرعي متحقق الشروط وهو إباحة العين.

 

2/ وإذا تقرر هذا فهناك فارق كبير بين الصورتين يمنع قياس واحدة على الأخرى ففي صورة ما سمي شراء بنك ربوي لتحويله يصبح القرار نافذا بيد من سمي بالمشتري الجديد، ولا كذلك في صورتنا فإنما يطرح البنك (15بالمائة ) من رأس ماله وليس لملاكه الجدد أي تأثير على قرار البنك ولو اجتمعوا، فهم مجرد ترس في آلة.

 

سادساً وأخيرا: فقد استمعت إلى لقاء مع أحد أعضاء هيئة البنك ظهر أمس الجمعة ورأيته أبدى وأعاد فيما يسمى بالتطهير كحل للمكتتب إلى أن يحصل النقاء الكامل للبنك الذي ربك أعلم كم ستمكث عدة طمثه ولوثه ومعنى التطهير أن يخرج المكتتب جزءا من أرباحه لقاء نسبة التلوث والمعول في تحديد نسبتها على البنك.

 

وهذا التطهير لا أعلم لمن قال به من المتأخرين سلفا ولا أعلمه للمتقدمين اصطلاحا إلا لتطهير النجاسات الحكمية كالمياه والثياب والبقع.

 

وقد قال به بعض علمائنا لكن لمن تاب من الربا توبة صادقة مع الإقلاع والندم والعزم على عدم العود فله مخرج بالتطهير بترك ما زاد عن رأس ماله الوارد في قوله تعالى(وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) فأما أن يخرج المكتتب والمساهم في مساهمات ملوثة قليلا من المال وفي نيته العود مرة أخرى فهذا أصدق ما يخشى أن يصدق عليه قوله تعالى في آيات الربا (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

 

وبعد: فقد كتبت ما كتبت براءة لذمتي ونصحا لأمتي وعسى أن ينتفع بها ولو مسلما أو مسلمة فأفوز بغنيمة إنقاذه من النار.

 

ولقد كانت ليلة صدور بيان هيئة البنك غفر الله لنا ولها وهدانا وإياها سواء السبيل من أنكد ما مرّ علي من الليالي، وبتّ ليلتي أتقلب على المواجع، وأتجافى عن المضاجع، وأتعجب كيف سينقلب عضو اللجنة من بنكه إلى أهله مسرورا وكيف سيغمض جفنه لذة وحبورا، وأتعجب أيضا من اندفاعهم في تسويغ هذا الأمر الجلل وقولهم " سائغ شرعا ولا حرج فيه " أفلا جعلوا فيه شيئا من الحرج الذي جعله فيه أحدهم في لقائه المتلفز لما أحرجه المقدم، وكنت أظن أنهم باتوا ليلتهم في هم وغم حذر المجازفة، وما راعني إلا أحدهم في لقاء متلفز بعد فريضة الجمعة يبرر بيانهم، وحاولت أن أكتب شيئا إلا أنه يضيق صدري ولا ينطلق لساني ولا ينبسط بناني، حتى شرح الله صدري ويسر أمري قبيل ساعات فكتبت هذه الكتابة من عصف الفكر إلى رصف السطر ومن بناته إلى بنانه على عجالة، وهو ما أعتذر به للقارئ الكريم عن نقص أو خلل، فالأمر والله جلل، يحتاج راحة بال، وإسهاب مقال، وفراغا من أشغال، ولكن مالا يدرك لا يترك.

 

فأدعو أعضاء الهيئة إلى تقوى الله ومراجعة جمهور أهل العلم وترك التصدي والتصدر لهذه الورطات فإنهم مسؤولون(ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين)وأعيذهم بالله من طائلة قوله تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون )

 

وأذكر عموم المسلمين بماذكرنا الله به في ختام آيات الربا (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) وقوله تعالى: ( واتقوا النار التي أعدت للكافرين) اتقوها يا أهل الإسلام ليست لكم وقوله سبحانه: (وما يغني عنه ماله إذا تردى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى) ولن ينفعه الندم إذا فات الأوان فصاح وولول (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية).

 

وليتق الله عبدٌ فيمن تحت يده من نسوة وأشياخ وزغب أفراخ أن يبني أجسادهم من سحت " فكل لحم نبت من الحرام فالنار أولى به " رواه الترمذي ،وفي الصحيح من حديث معقل مرفوعا " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" وعند الإمام أحمد "إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله -عز وجل- خيراً منه " و" الله طيب لا يقبل إلا طيبا " ما يفعل الله بحج وعمرة وصدقة من مال سحت نعوذ بالله من الخذلان ونسأله الغفران والله المستعان وعليه التكلان.  أقول قولي هذا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

 

والله أعلى وأعلم وأجل وأحكم

 

وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات