دور الابتسامة في الدعوة إلى الله – تعالى -

محمد ويلالي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وعلى ذِكْر ابن باز والعمَى، ركِبَ أحدُ طلبة العلم مع الشيخ الألباني - رحمه الله - في سيَّارته، وكان الشيخُ يُسرِع في السير، فقال له الطالبُ: خفِّف يا شيخ، فإنَّ الشيخَ ابن باز يرى أنَّ تجاوُزَ السرعة إلقاءٌ بالنفس إلى التهلُكة، فقال الشيخ الألباني - رحمه الله -: هذه فتوى مَن لم يُجرِّب فنَّ القيادة، فقال الطالب: هل أُخْبر الشيخَ ابن باز؟ قال الألباني: أخْبِرْه، فلمَّا حدَّث الطالب الشيخَ ابن باز - رحمه الله - بما قال الشيخ الألبانيُّ ضحِك، وقال: قل له هذه فتوى مَن لم يُجرِّبْ دفْعَ الديَّات.

 

 

 

 

الابتسامة الدعوية: كلمة معروف بدون حروف.

قال في "لسان العرب": "بَسَمَ يَبْسِم بَسْمًا، وابْتَسَمَ وتَبَسَّم، وهو أَقلُّ الضَّحِك وأَحَسنُه، وفي التنزيل: ( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ) [النمل: 19]، قال الزجاج: التَّبَسُّم أكثرُ ضَحِك الأَنبياءِ - عليهم الصلاة والسلام، وقال الليث: "وامرأَة بَسَّامةٌ ورَجُل بَسَّامٌ".
 
أنواع الابتسامة:
ذكَر الباحثون أنَّ هناك 18 نوعًا مِن الابتسامة، من بينها:

الغامضة، الخجْلَى، المنافِقة، والقلقة، الساخِرة / الفوقية، القاسية، المصطنعة / الزائفة.
 
كما أنَّ الابتسامة تحتوي مجازًا على ألوانٍ، فهناك الابتسامةُ البيضاء (الصادقة)، والصفراء (الزائفة)، والسوداء (اليائِسة)، وغيرها.
 
وهناك نوعٌ واحد فقط حقيقي ودافِئ هو الابتسامة "الصادقة".
 
ويُقرِّر الخبراءُ أنَّ الابتسامة الزائفة هي الأكثرُ شيوعًا بين الناس.
 
والابتسامة الصادِقة منها ابتسامة الحَنان، والتعجُّب، والغضَب.
 
ونُريد نوعًا مِن هذه الابتسامات، وهي الصادِقة، ذات المقصِد الدعوي، وهي التي تَميَّز بها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد بَوَّب البخاريُّ في صحيحه: "باب التبسُّم والضَّحِك"، وذكَر الإمام مسلِمٌ في صحيحه أحاديثَ بوَّب لها الإمامُ النوويُّ، فقال في كتاب الفضائل: "باب تبسُّمه وحُسْن عشرته"، وبوَّب الشيخُ الغماري الأحاديثَ التي فيها ضحِك النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى بدَتْ نواجِذُه، في مؤلَّف سماه: "شوارق الأنوار المنيفة، بظهور النواجِذ الشريفة".
 
للابتسامة تأثيرُها الكبير في الشخص الذي يَبْتسِم، وفي الآخَرين؛ فقد أَثبتتِ البحوثُ العِلمية أنَّ التعبير عن انفعالٍ ما، يمكن أن يُولِّد لدَى الشخص الآخَر الإحساسَ بالانفعال نفسِه، وقد توصَّلتْ دراسة أخرى قام بها عددٌ مِن علماء النفس والاجتماع الأمريكيِّين إلى أنَّ الابتسامة سببٌ مِن أسباب النجاح والسعادة؛ حيث تبيَّن أنَّ الشخص الذي يبتسِم دائمًا هو أكثرُ الأشخاص جاذبيةً وقدرةً على إقناعِ الناس، وهو أكثرُهم ثِقةً بنفسه.
 
وبعضُ الدراسات ذهبتْ إلى أنَّه عندما تبتسِم في وجه شخصٍ ما، فإنَّ موجاتٍ كهرومغناطيسية إيجابية ذات ذبذبات معيَّنة تَنطلِق منك - دون أن تشعُر - في اتِّجاه ذلك الشخص، وتتوقَّف كمية تلك الموجات على طريقةِ تبسُّمك وترحيبك به، وقوَّة مشاعرك الداخلية، ومدَى تركيزِ نظرتك إليه، وتعتمد على العباراتِ والكلمات المصاحِبة لتلك الابتسامة، فإذا كان ذلك الشخصُ يحمل في نفسِه شيئًا ما مِن ناحيتك، كالحِقد أو البغض، فإنَّك بتبسُّمك في وجهِه بالطريقة السليمة؛ تكون قد حقَّقت الآتي:

• قَوَّيْتَ هالتَك وحمَيتَ نفْسك من الموجاتِ السلبية التي يُوجِّهها إليك.
 
• أثَّرت في موجاتِه السلبية؛ لهذا ستقترب موجاتُه مِن موجاتك الإيجابية، فتتحقَّق الأُلفة والمحبَّة.
 
ولعلَّ هذا مِن الأسرارِ التي جعَلتْ أكثرَ ضحِك النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تبسُّمًا؛ تقول عائشةُ - رضي الله عنها -: "ما رأيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضاحِكًا حتى أرَى منه لَهَواتِه، إنما كان يبتسَّم"؛ متفق عليه.
 
وعن عبدالله بن الحارثِ بن جَزْءٍ، قال: "ما كان ضَحِكُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلا تبسُّمًا"؛ صحيح، الترمذي.
 
ولعلَّ هذا - أيضًا - مِنَ الأسرار التي جعَلتِ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كثيرَ التبسُّم؛ فعن عبدِالله بن الحارث بن جَزْءٍ أيضًا - رضي الله عنه -: أنَّه قال: "ما رأيتُ أحدًا أكثرَ تبسُّمًا مِن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ صحيح الترمذي.
 
يقول جريرٌ بن عبدالله البجلي: "ما حَجَبني النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - منذ أسلمت، ولا رَآني إلا تبسَّم في وجْهي"؛ متفق عليه.
 
وكان لا يرَى غضاضةً في أن يبتسِم مع صحابته وهم يتحدَّثون في أمورهم؛ فعن سِمَاك بن حَرْب، قال: قلتُ لجابر بن سَمُرة: أكنتَ تُجالِس رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: "نَعمْ، كثيرًا، كان لا يقوم مِن مصلاَّه الذي يُصلِّي فيه الصبحَ حتى تطلعَ الشمس، فإذا طلعتْ قام، وكانوا يتحدَّثون، فيأخذون في أمرِ الجاهلية، فيَضْحَكون، ويبتسِم"؛ رواه مسلم.
 
ضَحِكَتْ لَكَ الأَيَّامُ يَا عَلَمَ الْهُدَى 
وَاسْتَبْشَرَتْ بِقُدُومِكَ الْأَعْوَامُ 
وَتَوَقَّفَ التَّارِيخُ عِنْدَكَ مُذْعِنًا 
تُمْلِي عَلَيْهِ وَصَحْبُكَ الأَقْلامُ 
اضْحَكْ لِأَنَّكَ جِئْتَ بُشْرَى لِلْوَرَى 
فِي رَاحَتَيْكَ السِّلْمُ وَالإِسْلامُ 
اضْحَكْ فَبعْثَتُكَ الصُّعُودُ وَفَجْرُهَا 
مِيلاَدُ جِيلٍ مَا عَلَيْهِ ظَلامُ 
 
وكان يحثُّ صحابتَه على الابتسامة؛ لما يعرِف لها من سِحر في الأخْذ بألْباب السامع، فعن جابر بن سُلَيْم الْهُجَيْمِىِّ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، إنَّا قومٌ مِن أهل البادية، فعَلِّمْنا شيئًا ينفعنا الله - تبارك وتعالى - به، قال: "لا تَحْقِرنَّ مِن المعروف شيئًا، ولو أن تُفرِغ مِن دلوكَ في إناءِ المستسقي، ولو أن تُكلِّم أخاك ووجهُك إليه منبسِطٌ"؛ رواه أحمد، وهو في صحيح الترغيب.
 
وفي صحيح مسلِمٍ عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال لي النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "لا تحقرنَّ مِن المعروف شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوجهٍ طَلْق".
 
قال الغزاليُّ - رحمه الله -:

"فيه - أي: هذا الحديث - ردٌّ على كلِّ عالِم أو عابدٍ عبس وجهه، وقَطَّب جبينه كأنَّه مستقذِرٌ للناس، أو غضبان عليهم، أو مُنزَّه عنهم، ولا يَعلم المسكينُ أنَّ الورَعَ ليس في الجَبْهة حتى تُقطَّب، ولا في الخَدِّ حتى يُصعَّر، ولا في الظهر حتى يَنْحَني، ولا في الرَّقبة حتى تُطاطَأ، ولا في الذَّيْل حتى يُضم، إنَّما الورع في القَلْب، أمَّا الذي تلْقاه ببِشْرٍ ويلقاك بعبوس، يَمُنُّ عليك بعِلْمه، فلا أكْثرَ اللهُ في المسلمين مِثلَه، ولو كان الله يَرْضَى بذلك، ما قال لنبيِّه: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [الشعراء: 215].
 
وأوصى ابن عمر - رضي الله عنه - ابنَه فقال:

بُنَيَّ إِنَّ البِرَّ شَيْءٌ هَيِّنٌ 
وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلاَمٌ لَيِّنٌ 
 
قال حبيب بن ثابت: "مِن حُسْن خُلُق الرجل، أن يُحدِّث صاحبَه وهو مُقْبِل عليه بوجِهه".

الْقَ بِالبِشْرِ مَنْ لَقِيتَ مِنَ النَّا 
سِ جَمِيعًا وَلاَقِهِمْ بِالطَّلاَقَهْ 
تَجْنِ مِنْهُمْ جَنْيَ ثِمَارٍ فَخُذْهَا 
طَيِّبًا طَعْمُهُ لَذِيذ المَذَاقَهْ 
 
وإنَّ الابتسامةَ لتفعل في المدعوِّ - أحيانًا - ما لا يفعله ألْفُ كِتاب، ولا ألْف خِطاب؛ فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُقبِل بوجهِه وحديثه على أشرِّ القوم يتألَّفهم بذلك، فكان يُقبِل بوجهه وحديثه عليَّ، حتى ظننتُ أني خيرُ القوم، فقلتُ: يا رسولَ الله، أنا خيرٌ أو أبو بكر؟ قال: "أبو بكر"، فقلت: يا رسولَ الله، أنا خيرٌ أو عمر؟ قال: "عمر"، فقلت: يا رسولَ الله، أنا خيرٌ أو عثمان؟ قال: "عثمان"،  فلمَّا سألتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصَدَقني، فلوددتُ أني لم أكُنْ سألتُه"؛ حسَّنه في "مختصر الشمائل".
 
وعن عمرِو بن العاص - أيضًا -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعثَه على جيشِ ذات السلاسل، قال: فأتيتُه فقلتُ: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: مِن الرِّجال؟ قال: "أبوها"، قلت: ثُمَّ مَن؟ قال: "ثُم عُمر"، قلت: ثم مَن؟ قال: "فعدَّ رِجالاً"؛ متفق عليه.
 
وصَدَق ابنُ عيينة - رحمه الله - إذ قال: "البشاشة مصيدةُ القلوب".
 
وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبتسِم حتى في حالةِ الغضَب، فمَع شِدَّة عتابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - للذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، لم تَغِبْ هذه الابتسامة عنه وهو يسمعُ منهم؛ يقول كعبٌ - رضي الله عنه - بعد أنْ ذَكَر اعتذارَ المخلَّفين: "فجئتُه، فلمَّا سلَّمتُ عليه تبسَّم تَبسُّمَ المُغْضَب، ثم قال: "تعال"، فجئتُ أمْشي حتى جلستُ بين يديه"؛ متفق عليه.
 
بل وهو يُودِّع الدنيا - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبتسِم، يقول أنس - رضي الله عنه -: "بَينما المسلِمون في صلاةِ الفَجْر مِن يوم الاثنين، وأبو بكر يُصلِّي بهم، لم يفجأْهم إلا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد كشَف سِترَ حُجرة عائشة، فنظَر إليهم وهُم في صفوفِ الصلاة، ثم تبسَّم يَضْحَك"؛ متفق عليه.
 
ومِن ثَمَّ، وجَب أن تكون الابتسامة سلاحَ الداعية إلى الله - تعالى - الذي لا يُفَلُّ، والصاحِب الذي لا يُمَلُّ.
 
يقول الشيخ ابنُ عُثيمين - رحمه الله -:

"وإلى جانبِ وقارِه - أي: الداعية - فيَنبغي أن يكون واسعَ الصَّدْر، منبسطَ الوجه، ليِّنَ الجانب، يأْلَف الناس ويألفونه؛ حتى لا ينفضوا مِن حوله، فكم مِن سَعةِ صدرٍ وبساطة وجهٍ ولِين أدخلتْ في دينِ الله أفواجًا من الناس".
 
وَرَحَّبَ النَّاسُ بِالْإِسْلاَمِ حَينَ رَأَوْا 
أَنَّ الْإِخَاءَ وَأَنَّ العَدْلَ مَعْزَاهُ 
 
وقال أبو حاتم ابن حبَّان - رحمه الله -:
"الواجب على المسلِم إذا لَقِي أخاه المسلِمَ أن يُسلِّم عليه، متبسمًا إليه، فإنَّ مَن فعَل ذلك تحاتَّ - سقط - عنهما خطاياهما كما تحاتُّ ورَقُ الشجر في الشِّتاء إذا يَبس، وقد استحقَّ المحبَّة مَن أعطاهم بِشْرَ وجهه".
 
وقيل لسعيد بن الخمس: ما أبشَّك؟! قال: "إنَّه يُقوَّم عليَّ برخيص"؛ يعني: أنَّ البشاشةَ رخيصة لا تُكلِّفه مالاً ولا جهدًا، وإنَّها غالية وقيِّمة؛ لأنَّها تجذب القلوبَ، وتقتلع أسبابَ البغضاء.
 
قال الشاعر:
أَخُو البِشْرِ مَحْبُوبٌ عَلَى حُسْنِ بِشْرِهِ 
وَلَنْ يَعْدَمَ البَغْضَاءَ مَنْ كَانَ عَابِسَا 
 
قال ابن حبَّان: "البشاشةُ إدامُ العلماء، وسجيةُ الحُكماء؛ لأنَّ البِشْر يُطفئ نار المعاندة، ويَحرِق هيجانَ المباغضة، وفيه تحصينٌ مِن الباغي، ومنجاةٌ مِن الساعي، ومَن بشَّ للناس وجهًا، لم يكن عندَهم بدون الباذِل لهم ما يملك".
 
إنَّ مَن ملَك الابتسامة، ملَك القلوب، التي تنجذب إلى كلِّ هاشٍّ باشٍّ، وَدود رفيق.
 
عن عُروةَ بن الزُّبَير قال: "أُخْبِرت أنه مكتوب في الحِكمة: يا بُني، ليكن وجهُكَ منبسطًا، ولتكن كلمتُك طيِّبة، تكن أحبَّ إلى الناس مِن أن تُعطيَهم العطاء".
 
عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إنَّكم لن تَسَعوا الناس بأموالِكم، ولكن يَسعُهم منكم بسطُ الوجه، وحُسْن الخُلُق"، قال في صحيح الترغيب: حسنٌ لغيره.
 
تَبَسَّمْ بِوَجْهِ المَرْءِ يُكْسِبْكَ وُدَّهُ 
فَلَيْسَ طَلِيقُ الوَجْهِ يُشْبِهُ عَابِسَهْ 
فَأَحْيِ وُجُوهَ النَّاسِ مُبْتَسِمًا لَهُمْ 
كَمَاءٍ جَرَى سَحًّا بِأَرْضِ يابِسَهْ 
فَتَزْدَانَ هَاتِيكَ الحَدَائِقُ نُضْرَةً 
فَتُضْحِي عَرُوسًا كُلَّ لَوْنٍ لَابِسَهْ 
 
وما أحوجَ العلماءَ وطلاَّبَ العِلم والقُرَّاءَ إلى هذه الابتسامة الحانية، وهذه الأسارير الجاذبة، الدالَّة على التواضُعِ المؤدِّي إلى القَبول والارتياح!
 
عن سعيدٍ الزبيدي قال: "يُعجبني مِن القُرَّاء كلُّ سهْل طلْق مِضحاك، فأمَّا من تلقاه ببِشْر، ويَلقاك بعُبوس، يَمنُّ عليك بعِلْمه، فلا أكْثرَ الله في القُرَّاء ضرب هذا".
 
وقال ابن حبَّان:
"لا يَجِبُ على العاقل إذا رُزِق السلوك في ميدان طاعةٍ من الطاعات، إذا رأى مَن قصَّر في سلوك قصْده، أن يَعْبَس عليه بعَمله وجهَه، بل يُظهِر البِشرَ والبشاشة له؛ فلعلَّه في سابقِ عِلم الله أن يرجِع إلى صحَّة الأَوْبة إلى قصْده، مع ما يجب عليه مِن الحمد لله، والشُّكر له على ما وفَّقه لخِدمته، وحَرَم غيرَه مِثلَه".
 
ولو كان التوقُّرُ والتجهُّم من الدِّين لفعَلَه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
 
تأمَّلْ في هذه القِصَّة الطريفة التي يَحكيها سيدُنا أنس - رضي الله عنه -، أنَّ رجلاً مِن أهل البادية كان اسمُه زاهرًا، كان يُهدي للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الهديةَ من البادية، فيُجهِّزه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا أراد أن يخرُجَ، فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إنَّ زاهرًا باديتنا ونحن حاضروه"، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُحبُّه، وكان رجلاً دميمًا، فأتاه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا وهو يبيع متاعَه، فاحتضَنه مِن خلفه وهو لا يُبصِره، فقال الرجل: "أرْسِلْني، مَن هذا؟"، فالتفت، فعرَف النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجعَل لا يألو ما ألصق ظَهْرَه بصدرِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين عرَفه، وجعَل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: "مَن يَشْتري العبد؟"، فقال: "يا رسولَ الله، إذًا واللهِ تجدني كاسدًا"، فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "لكن عِندَ الله لست بكاسِد"، أو قال: "لكن عِندَ الله أنت غالٍ"؛ أحمد، قال الأرناؤوط: إسنادُه صحيحٌ على شرْط الشيخين.
 
قال الشاعر:

فَتًى مِثْلُ صَفْوِ المَاءِ أَمَّا لِقَاؤُهُ 
فَبِشْرٌ وَأَمَّا وَعْدُهُ فَجَمِيلُ 
يَسَرُّكَ مُفْتَرًّا وَيُشْرِقُ وَجْهُهُ 
إِذَا اعْتَلَّ مَذْمُومُ الفِعَالِ بَخِيلُ 
عَيِيٌّ عَنِ الْفَحْشَاءِ أَمَّا لِسَانُهُ 
فَعَفٌّ وَأَمَّا طَرْفُهُ فَكَلِيلُ 
 
وقال آخر:

لَنْ تَسْتَتِمَّ جَمِيلاً أَنْتَ فَاعِلُهُ 
إِلاَّ وَأَنْتَ طَلِيقُ الْوَجْهِ بُهْلُولُ 
مَا أَوْسَطَ الخَيْرَ فَابْسُطْ رَاحَتَيْكَ بِهِ 
وَكُنْ كَأَنَّكَ دُونَ الشَّرِّ مَغْلُولُ 
 
وكان الشيخُ ابن عثيمين - رحمه الله - خارجًا مِن البيت - وبيده المبْخَرة - متوجِّهًا إلى المسجد، وإذا بأحدِ الشباب الطائشين يقرُب مِن الشيخ ويقول: يا شيخ، مُمكن أولَّع السيجارة؟ فقال له الشيخ مبتسِمًا: "تفضَّل يا ولَدي"، فأصْبح هذا الشابُّ - بعدَ ذلك وبسببِ هذا الموقف - واحدًا مِن طلبة الشيخ الملازمين له!
 
هذا الشيخ الجليل الذي ملأَ الدنيا، كانتِ الابتسامةُ لا تُفارقه، والدعابةُ لا تُخطئه، بل كانتِ النكتة سبيلَه في الدعوة إلى الله:

سأله أحدُهم: ماذا يفعل الشخصُ بعدَ أن يَنتهي من الدُّعاء؟ فردَّ الشيخ: ينزل يديه.
 
وسأله آخَر: إذا كان الشخصُ يستمع إلى شريطٍ مسجَّل، ووردتْ آية فيها سجدةٌ، هل يسجد؟ فقال الشيخ: نعمْ، إذا سجَد المسجِّل.
 
وكان الشيخ يُلْقي درسًا في بابِ النكاح عن عيوبِ النساء، فسأله أحدُهم: لو تزوجت ووجدت أنَّ زوجتي ليس لها أسنان، هل يُبيح لي هذا العيبُ فسْخَ النكاح؟ فقال الشيخ: هذه امرأةٌ جيِّدة؛ لأنَّها لا يمكن أن تَعضَّك!
 
وكان الشيخُ في مكة ذات يوم راكبًا "تاكسي"، والظاهر أنَّ المشوار كان طويلاً،، فأراد سائق التاكسي أن يتعرَّف على الراكب، ولم يكن يعرِف الشيخ، فقال: ما تعرَّفْنا على الاسمِ الكريم يا شيخ؟ فردَّ الشيخ: محمد بن صالح بن عُثيمين، فحسبه السائقُ يمْزَح، فرد قائلاً: تشرفنا، معك عبدالعزيز بن باز، هنا ضحِك الشيخ، وقال له: ابن باز أعْمَى، كيف يسوق تاكسي؟ فردَّ السائق: ابنُ عثيمين في نجْد، ما الذي جاء به إلى هنا، تمْزَح معي أنت؟! هنا ضحِك الشيخ، وأفْهَمه أنَّه بالفِعل ابن عثيمين.
 
وعلى ذِكْر ابن باز والعمَى، ركِبَ أحدُ طلبة العلم مع الشيخ الألباني - رحمه الله - في سيَّارته، وكان الشيخُ يُسرِع في السير، فقال له الطالبُ: خفِّف يا شيخ، فإنَّ الشيخَ ابن باز يرى أنَّ تجاوُزَ السرعة إلقاءٌ بالنفس إلى التهلُكة، فقال الشيخ الألباني - رحمه الله -: هذه فتوى مَن لم يُجرِّب فنَّ القيادة، فقال الطالب: هل أُخْبر الشيخَ ابن باز؟ قال الألباني: أخْبِرْه، فلمَّا حدَّث الطالب الشيخَ ابن باز - رحمه الله - بما قال الشيخ الألبانيُّ ضحِك، وقال: قل له هذه فتوى مَن لم يُجرِّبْ دفْعَ الديَّات.
 
يقول ابن القَيِّم - رحمه الله - في أهمية البشاشة:

"إنَّ الناس يَنفِرون من الكثيفِ، ولو بلَغ في الدِّين ما بَلَغ، وللهِ ما يجلب اللطفُ والظرفُ مِن القلوب، فليس الثقلاءُ بخواصِّ الأولياء، وما ثقُل أحدٌ على قلوب الصادقين المخلِصين إلا مِن آفةٍ هناك، وإلا فهذه الطريقُ تكسو العبدَ حلاوةً ولطافةً وظرفًا، فترى الصادقَ فيها مِن أحب الناسِ وألْطفهم، وقدْ زالتْ عنه ثقالةُ النفس، وكدورةُ الطبع".
 
فإنْ لم يكن في الابتسامة إلا أنَّها تُدخِل السرورَ في نفوس المتلقِّي لكفَى؛ يقول النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "أحَبُّ الأعمالِ إلى الله - تعالى - سرورٌ تُدخِله على مسلِم"؛ الطبراني في الكبير، وهو في صحيح الجامع.
 
يقول الباحثون: إنَّه عندما يبتسِم الإنسانُ يتحرَّك مِن (5 - 13) عضَلة في الوجه، وعندما يكون في حالةِ تجهُّم وعبوس يَعمل (47) عضلة.
 
وحتى مِن الناحية الطِّبية، نجد أنَّ الأطباءَ في دِراساتهم يُؤكِّدون أنَّ المبتسمين أطولُ الناس عمرًا لسرورِهم وبشاشتهم بمعدَّل 13 سَنَة، فلا ضغينةَ يحملونها، ولا أحقادَ يُبيِّتونها، بل ابتسامات ناصِعة تَزيد مِن سعادةِ الحياة ورغَدها المحبوب.
 
ويُؤكِّد الأطبَّاء كونَ الابتسامة فيها مِن الفوائد الطِّبيَّة 23 فائدة، منها: أنَّها تساعد على تخفيفِ ضغْط الدَّم، وتُنشِّط الدَّورةَ الدَّموية، وتَزيد مِن مناعة الجِسم، وتُؤخِّر عوارض الشَّيخوخة:

الْقَ بِالبِشْرِ مَنْ لَقِيتَ مِنَ النَّا 
سِ جَمِيعًا وَلاَقِهِمْ بِالطَّلاَقَهْ 
تَجْنِ مِنْهُمْ جَنْيَ ثِمَارٍ فَخُذْهَا 
طَيِّبًا طَعْمُهُ لَذِيذ الْمَذَاقَهْ 
وَدَعِ التِّيهَ وَالْعُبُوسَ عَنِ النَّا 
سِ فَإِنَّ الْعُبُوسَ رَأْسُ الْحَمَاقَهْ 
 
يقول المَثَلُ الصِّيني: "إنَّ الذي لا يُحسِن الابتسامة، لا يَنبغي له أن يَفْتح متجرًا"، ونحن نقول: "إنَّ الداعية الذي لا يَعرِف كيف يبتسِم، لا يَنبغي له أن يُمارِسَ الدعوة".
 
طلَب عُمَّالُ أحد المحلاَّت التجارية الكبيرة في باريس رفْع أجورهم، فرفَض صاحبُ المحل، فما كان مِن عمَّاله إلاَّ أن اتَّفقوا على ألاَّ يبتسموا للزبائن؛ رد فِعْل على صاحب المحل، فأدَّى ذلك إلى انخفاضِ دخْل المحل في الأسبوع الأوَّل حوالي (60%) عن متوسِّط دخْله في الأسابيع السابقة.
 
أعدَّتْ وزارة التنمية الإداريَّة المصريَّة بالاشتراك مع الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، مبادرةً جديدة، أطلقوا عليها "مبادرة الابتسامة"، وحسبَ تصريحات الدكتور صفوت النحاس رئيس الجهاز، فإنَّها تُعَدُّ الأولى من نوعها، وتهدف إلى الارتقاءِ بمستوى أداء الخِدْمات الحكومية مِن خلال تدريب (24) ألْف موظَّف على الابتسامِ في وجه الجمهور، وقد يُكلِّف الدورة الأولى، وهي لحوالي (750) موظَّفًا حوالي (480) ألف جنيه مصري.
 
يقول ديل كارنيجي في كتابه المشهور: "كيف تكسب الأصدقاءَ وتؤثِّر في الناس": "إنَّ قَسماتِ الوجه خيرُ معبِّر عن مشاعِر صاحبه، فالوجهُ الصَّبوح، ذو الابتسامة الطبيعية الصادقة خيرُ وسيلةٍ لكسْبِ الصداقة والتعاون مع الآخَرين".
 
ويقول:
"لقدْ طلبتُ مِن تلاميذي أن يبتسمَ كلٌّ منهم لشخص معيَّن كلَّ يوم في أسبوع واحد، فجاءه أحدُ التلاميذ من التجَّار، وقال له: اخترتُ زوجتي للابتسامة، ولم تكن تعرِفُها مني قط، فكانتِ النتيجة أنَّني اكتشفت سعادةً جديدةً لم أذُقْ مثلها طوالَ الأعوام الأخيرة، فحفَّزني ذلك على الابتسام لكلِّ مَن يتصل بي، فصار الناسُ يُبادلونني التحيةَ، ويسارعون إلى خِدمتي، وشعرتُ بأنَّ الحياةَ صارتْ أكثرَ إشراقًا، وأيسرَ منالاً، وقد زادتْ أرباحي الحقيقية بفضْل تلك الابتسامة".
 
بين الابتسامة والضَّحِك:

1- الابتسامة حالةٌ دائمة (وهي نوعٌ مِن الضحك اللطيف)، بينما الضَّحِك حالة مؤقَّتة.

2- الابتسامة ردُّ فِعْل للسرور، بينما الضحِك قد يكون ردَّ فعل للألَم أيضًا.

3- الابتسامة تأتي عن قناعةٍ ورِضًا داخلي، بينما الضحِك قد يأتي نتيجةً لحالة مفاجئة طارئة.

4- يَبقى مفعولُ الابتسامة طويلاً، بينما الضحِك لا يَلْبَث أن يتلاشى.

5- الابتسامة دليلُ التواضع، بينما الضحِك إنْ صاحبه القهقهةُ دليلُ الكِبر.

6- الابتسامة أصعبُ مِن الضحك؛ لأنَّها تشمل التعامُل مع فئات متنوِّعة من البَشَر على اختلافِ طبائعهم ومشاربهم، بينما الضحِك يشمل فئاتٍ منسجمةً مع بعضها ومتقارِبة.
 
فوائد من ابتسامة سيدنا سليمان:

• على الحاكِمِ أن يبتسمَ في وجه الرعية؛ كبيرِها وصغيرِها، قويِّها وضعيفِها، فقيرِها وغنيِّها، حاضرِها وغائِبها، لا أن يبتسمَ للحاشية، ويُكشِّر ويتهجَّم أمامَ الرعية.

• الابتسامة دَلالةُ على أنَّ الرعية في مأمَن (الإنسان والحيوان) كلٌّ مصانٌ حقُّه.

• دَلالة على توفُّر العدالة الاجتماعية للجميعِ، حتى الحيوان الصغير الذي له الحقُّ في عَيْشٍ رغيدٍ في ظلِّ حُكم عادِل.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات