خطبة الجمعة وأثرها في إصلاح المجتمع

صالح بن عبد الله بن حميد

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

خطيبُ الجمعة هو الواعظُ، له دورٌ كبير وأثرٌ بالغ في بيئته ومجتمعِه وسامعيه وقومه؛ فهو قرينُ المربِّي والمعلِّم، ورجلِ الحسبة والموجِّه، وبقدرِ إحسانِه وإخلاصِه يتبوَّأ في قلوب الناس مكاناً، ويضع الله له قبولاً قلَّ أن يزاحمَه فيه أصحابُ وجاهاتٍ، ولا يدانيه فيه ذوو مقامات، ومردُّ ذلك إلى الإخلاص أولاً، وتوفيق الله سبحانه وتعالى أيضاً، ثم إلى حسن الإجادة وجَودة الإفادة، والقُدرة على التأثير المكسوّ بلباس التقوى، والمدثَّر بدثار الإخلاص والورع

 

 

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأشكر الله عز وجل على ما مَنّ به من هذا اللقاء الطيب المبارك بهذا الجمع الكريم، في هذا الصرح الإسلامي العزيز إلى النفوس والكريم العريق.

والموضوع الذي رأى منظِّمو هذا الموسم أن يكون الحديث فيه: خطبة الجمعة وأثرها في إصلاح المجتمع.

ولا شك أن مثل هذا موضوعٌ قديم جديد، وقد يحتاج الأمرُ فيه إلى تنبيهٍ وإلى تذكيرٍ وإلى نوعٍ من المعالجة، وإن كانت المعالجات فيه كثيرة، وهي تقبل التعدّدَ وتقبل النظر، وهي كذلك مهمة، ولا سيما في الوقت الحاضر، لا من حيث تواصلُ المسلمين فيما بينهم، ولا من حيثُ اتصالُ المسلمين بغيرهم على نطاقٍ واسعٍ وكبير، ولا سيما من خلال وسائل الاتصال ووسائل الإعلام، مما جعلَ المسؤوليةَ في ذلك كبيرة، وجعل إعادة النظر في كيفية الإفادة والاستفادة من هذا المنبرِ ومن وسائل الاتصالِ لتوظيفها من أجل أيضاً هذه الرسالة العظيمة، لا شكَّ أنه يستدعي وقفاتٍ، إن لم أقل: إنه يستدعي لقاءات ومؤتمراتٍ على مستوى علماء المسلمين ومفكِّريهم.

ومن هنا، حينما همَمْتُ أن أنظر في هذا الموضوع وأقرأ فيه؛ وجدتُ أنه متشعّب، أو أنه يحتاج إلى مزيد عمق ومزيد نظر، بل لا أكون مبالغاً إذا قلت: إنه قد لا يُغني فيه الغناءَ المطلوب مجهودُ فرد، وإنما يحتاج إلى عمل جماعي؛ لأهمية الموضوع وللمستجدات.

خطبة الجمعة وصلاتُها:

شعيرةٌ من شعائر الإسلام الظاهرة، أوجب الله على المسلم المكلَّف شهودَها بشروطِها التي بيَّنها أهل العلم رحمهم الله، وهي شعيرةٌ عظيمة الشأن، جليلة المقاصد، عميقة التأثير، في كل أسبوع مرة، وفي العام ثمانية وأربعين مرة؛ ولهذا التكرار غرضه في مواصلة حوار النفس، ومواجهتها ومحاسبتها، ... في أوامر الدين وأحكامها ومقاصدها.

من مظاهر أحكام هذه الشعيرة: لزوم حضورها جماعةً، والنهي عن البيع عند النداء لها، يتأهّبُ لها المسلم بالتطهر والتبكير، مع أخذ الزينة والطيب وحسن السمت، ووجوب الإنصات ونبذ اللغو، مما يهيِّئ للاستفادة والرغبة في الاستماع، والالتزام بما يسمع من الحقّ، على حد قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة:9] .

خطبةُ الجمعة من وسائل الإصلاح الفرديّة والجماعية؛ فهي تحتلّ موقعاً مهمًّا متميِّزاً في تبليغ الدين ونشر الدعوة وبثِّ الإصلاح.

كان ذلك منذُ بدء الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ولا تزال هي أكثر الوسائل فعاليةً في نشر الحق، وبثّ الفكر الصحيح، ومخاطبة مختلف الفئات والطبقات والمستويات؛ نظراً لأنَّ الخطيب المؤهَّل الموفَّق هو الأسرع إلى فهم العامة، والأبلغ في التأثير على المجموعة، فللخطبة فعلُها المباشر وسرعتُها في توجيه الرأي العام.

خطيبُ الجمعة هو الواعظُ، له دورٌ كبير وأثرٌ بالغ في بيئته ومجتمعِه وسامعيه وقومه؛ فهو قرينُ المربِّي والمعلِّم، ورجلِ الحسبة والموجِّه، وبقدرِ إحسانِه وإخلاصِه يتبوَّأ في قلوب الناس مكاناً، ويضع الله له قبولاً قلَّ أن يزاحمَه فيه أصحابُ وجاهاتٍ، ولا يدانيه فيه ذوو مقامات، ومردُّ ذلك إلى الإخلاص أولاً، وتوفيق الله سبحانه وتعالى أيضاً، ثم إلى حسن الإجادة وجَودة الإفادة، والقُدرة على التأثير المكسوّ بلباس التقوى والمدثَّر بدثار الإخلاص والورع.

ولا شكَّ أن مهمَّة الخطيب في هذا مهمةٌ شاقَّة، مشقةً تحتِّم عليه أن يستعدَّ الاستعدادَ الكافي في صوابِ الفكر وحسن التعبير وطلاقة اللسان وجودَة الإلقاء.

مطلوبٌ منه أن يحدّث الناسَ بما يمسّ حياتهم، ولا ينقطع عن ماضيهم، ويردّهم إلى قواعدِ الدين ومبادئه، ويبصّرهم بحكمه وأحكامه برفق، ويعرّفهم آثارَ التقوى والصلاحِ في الآخرة والأولى.

مهمتهُ البعدُ عن المعاني المكرورة وجالبَاتِ الملل، فالدعوةُ إلى التجديد والتحديث والبعدِ عن المكرور لا يغيِّر من الحقيقة الثابتة شيئاً -وهذا مهمّ جداً، ولا سيما أننا نتكلم عن الإصلاح، وسوف يأتي تجسيد لهذا كثير إن شاء الله- ولكن أقول: إن التجديد والتحديث والبعد عن المكرور لا يغيِّر من الحقيقة الثابتةِ شيئاً، وهي أنَّ حياةَ الناس وأحوالهم في كلّ زمان ومكان صورةٌ واحدة من تصارعِ الغرائز واضطرابِ النفوس وغليان الأحقاد، وفي مقابلِ ذلك تلقى أحوالاً من البرودِ والانصرافِ والغفلةِ وعدم المبالاة.

والخطيب عليه أن يهدِّئ الثائر، ويبعث الفاتر، ويطفئ ثورة الغريزة، ويخفضَ حدّةَ الأحقاد، ويشيعَ روحَ المودة، ويبثّ الإخلاصَ والتعاون.

نعم! إنَّ حياة الناس صورة معادة، وتغيّراتٌ متناوبة، فأحداثُ اليوم هي أحداث الأمس، والبواعثُ والمثيرات في الماضي هي ذاتها في الحاضر، فإنسانُ الغابة وإنسانُ المدينة سواء، غيرَ أنَّ الأولَ يحاربُ بحجر، والثاني يرمي بقنبلة، الأول قد يقتل واحداً أو اثنين، والثاني يقتل عشرات أو مئات، القويّ في الغابة يستولي على مرعى أو بئر، أما قويّ المدينة فيستولي على قُطْرٍ بأكمله ويقتل قوتَ شعب بجملته، بل شعوبٍ برمتها، ويستبدُّ بمصادر الطاقة وموارد الحياة المصيرية.

إذا كان ذلك كذلك، فكيف يكون الحال لو نجح الدعاة المصلحون في تهذيب الغرائز والتسامي بها؟!

إنَّ خطيبَ المسجد وواعظَ الجماعة أشدُّ فاعلية في نفوس الجماهير من أيّ جهاز من أجهزة التوجيه والحكم في المجتمع، إن الجمهورَ قد يهابون بعضَ ذوي المسؤوليات، لكنهم قد لا يحبونهم، أما الخطيبُ بلسانه، وَرِقَّة جنانه، وتجرّدِه؛ فيقتلعُ جذورَ الشرّ في نفس المجرم، ويبعث في نفسه خشيةَ الله وحبَّ الحق وقبولَ العدل ومعاونةَ الناس.

إنَّ عملَه إصلاحُ الضمائر، وإيقاظُ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وبناءُ الضمائر الحيّة، وتربية النفوس العالية في عملٍ خالص، وجهد متجرِّد، يرجو ثوابَ الله، ويروم نفعَ الناس.

ومن هنا فإنكم ترونَ أنَّ أداءَ الخطيب عملَه على وجهه يكسوه بهاءً وشرفاً، ويرفعه إلى مكان عليٍّ عند الناس، وليس هذا إطراءً ولا مديحاً للخطيب، ولكنه تنبيه إلى شرف العمل ومشقَّته، وعظم مسؤوليته وثقل رسالته، وما تتطلَّبه من حسن استعداد وشعورٍ صادق للمسؤولية، وكيف لا يكون ذلك؟! وهذه رسالة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ولا غرابةَ أن يواجهَ أذىً وعداءً ولوماً ونقداً، وحسبُه أن يكون مقبولاً عند الله والصفوةِ من عباد الله.

إذاً خطيبُ الجمعة يولي همومَ مجتمعه وقضايا أمتِه اهتماماً كبيراً، وتحتلّ هذه الهموم والقضايا موقعاً في نفسه، فيشعر بأهميَّة الإسهامِ في حركةِ المجتمعِ، والتجاوبِ معه بالدعوةِ إلى الحقِّ وتدعيم كلِّ خير، والتحذيرِ من كلِّ شر والتنفير منه.

وكثير من الخطباء يوفَّقون في كسب قلوب السامعين والتأثير في مشاعرهم؛ فيكون ذلك سببَ صلاحهم وتوبتهم ورجوعهم إلى ربهم.

ولعلِّي بعدَ هذا التقديم المجمَل أُذَكِّر ببعض عناصر هذا الموضوع في هذا اللقاء، فسوف يأتي كلامٌ عن مفهوم الإصلاح، وعن المنهج الإصلاحي في خطبة الجمعة، وجوانبِ الإصلاح الاجتماعي في خطبة الجمعة مما ينتظم أمرين:

أحدهما: الوقوف أمام المؤثرات الخارجية على المجتمع.

والثاني: الإصلاح الداخلي للمجتمع.

مفهوم الإصلاح:

الإصلاح من الصلاح، والصلاح ضدُّ الفساد، والإصلاح ضدّ الإفساد، وفي القرآن الكريم: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) [الأعراف:56] ، ويقول عز وجل: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف:142] .

ويردُ اصطلاح في القرآن الكريم مقابل السيئ، كما في قوله سبحانه: (خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة:102] .

وقد ذُكرت كلمة الصلاح والإصلاح في كتاب الله أكثرَ من مائة وثمانين مرة، ومن أظهرِ مواردِها في كتاب الله عز وجل ارتباطُها بالإيمان، إذِ الإيمان هو أساس محاربةِ الفساد ومقاومته واجتثاث أصوله، يقول عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) [يونس:9] ، ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف:107] ، ويقول سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْض) .. إلى آخر الآية [النور:55].

والعملُ الصالح فعلٌ قائم على إصلاح العقيدةِ بتوحيدِ الله عز وجلَّ والخلوصِ من الشرك، وإصلاحِ الخلق بسلوك مسالكِ الأخلاق الكريمة، من التواضع والحلم والرحمة والصبر والصدق والتودد وغيرها من طيب الصفات وكريم السجايا، وإصلاح العمل بمراقبة الله في الحلال والحرام، وسلوك مسالك التقوى والزهد والورع.

وأصلحُ الصلحاء هم أنبياءُ الله عليهم السلام، فإبراهيم عليه السلام يقول الله عز وجل فيه: (وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ) [البقرة:130] ، وفي جملةٍ من الأنبياء يقول الله عز وجل: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ) [الأنعام:85] ، وفي آية أخرى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ) [الأنبياء:85] .. (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ)[الأنبياء:86] .

والإصلاح والفساد يعرف من نظام الشريعة بناءً على ما في الشرع من أوامر ونواهي، أيضاً وما فيها من مباحات، فالنهي في الشريعة راجع إلى ما في الأعمال أو المعتقدات أو الأخلاق من الفساد، وكلُّ ما عبر عنه الشرع بلفظ الحرمة أو الكراهية، وكل ما ورد بتهديد الفاعل وزجرِه والإنكار عليه والوعيد فيه فهو من الفساد المذموم وما يؤدِّي إلى الفساد، وما ذكر الشرعُ بلفظ مفيدٍ للإباحة أو التحريم، أو كان فيه أمرٌ بالفعل أو حظّ عليه، أو وعد من الله عز وجل بثواب منه ورحمة للفاعل؛ فهو من الصلاح الذي في الفعل، والإصلاح الذي ترغب الشريعة فيه وتأذن فيه.

وموارد الإصلاح في الدين كثيرةٌ، من أبرزها: إصلاح البيوت والأسر، والإصلاح بين الناس، وإصلاح الحكام لشؤون رعاياهم، فالله عز وجل يقول: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال:1] ، ويقول: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [الحجرات:9] ، وفي الولاية على العامة يقول في الآية السابقة في حق موسى: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف:142] ، وفي شأن الأسرة يقول الله عز وجل: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [النساء:35] ، وفي شأن اليتامى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ) [البقرة:220] .

ومما يجمعُ ذلك كلَّه: أن الإسلامَ قد جعَل الإصلاحَ من آكَد شروط التّوبة، إذاً التوبةُ ليست بالندم على ما فات والإقلاع عن الذنب والعزم على أن لا يعود، ولا شك أن هذه شروط متأكدة، بل لا بد مع ذلك من الإصلاح الذي يعني: أداءَ الحقوق إلى أصحابها، والإكثارَ من عمل الخير والبر، وأن يجعلَ في مقابل كلّ ذنب عملاً من أعمال الطاعات التي يكون بها تزكية النفس وطهارة القلب ونظافة الضمير وصلاح المجتمع، قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأنعام:48] ، وفي نفس السورة سورة الأنعام: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنعام:54] .

وهكذا أرَى أن مفهومَ الإصلاح في القرآن يرتبِط بالدين وتعاليمه، ويقوم على أساس الإيمان بالله ورسله واليومِ الآخر، وعلى العمل الصالح الذي تتحقق به في الخارج أحكامُ الشريعة التي يجب أن تسودَ بين الناس، فلا يكون الإنسانُ صالحاً إلا إذا أصلحَ نفسَه وزكاها، وأخرجها من ظلمات الشرك والشرّ إلى نور الإيمان وما يقتضيه من أخلاقٍ وفضائلَ، كما يتبيَّن أن ذلك المفهومَ لا يقف عند لفظِ الصلاح أو الإصلاح، وإنما يتناول الأوامرَ الشرعية كلَّها، وكلَّ ما دعا إليه الشرع ورغَّب فيه ووعد فاعلَه ثواباً جزيلاً، كما يتبيَّن كذلك أنَّ القرآنَ قدَّم بعضَ قضايا الإصلاح الاجتماعي كما أشرنا، وسماها إصلاحاً؛ لما يجب عملُه من أجل توحيد صفوف المسلمين والقضاء على الخلافات التي قد تنشأ بينهم.. إلى آخره.

ومن شأنِ خطيبِ الجمعةِ العارفِ بمقاصد الشريعة والمطَّلع على أسرارها أن يستمدَّ من هذا المفهوم العام الشامل للإصلاح الاجتماعي في الإسلام، ويعمل على نشره وتقوية معناه في النفوس، ويجعل ذلك دعوتَه التي يعلنها من منبره إلى الناس كلَّ أسبوع، على حد قوله سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33] .

المنهج الإصلاحي لخطبة الجمعة:

إن الإصلاحَ كما سبق أمرٌ أساس في الدين، يتناول جميع الجوانب التي يتحقق بها صلاحُ الأمة ورقيّها وتقدّمها وأمنها، ولخطبة الجمعة -لا شك- دورٌ في تحقيق ذلك الإصلاح، وتبليغ رسالته، والحضِّ عليه، وتذليل الصعاب النفسية والاجتماعية التي تُعطِّله أو تَعُوقُه أو تُخْمِد جذوتَه.

وإذا كان هذا هو دور الخطبة، وكان همُّ الخطباء ترسيخَ مفهوم الإصلاح وتعميقَ الشعور به، والتغلّبَ على معوِّقاته؛ فإنه يحسنُ بحثُ هذا الدور من حيث مؤهلات الخطيب النفسية والعلمية والمنهجية، ومن حيث الواقعُ الذي يعيشه المسلمون، ومن حيث أنواعُ المشكلات المطروحة التي ينبغي أن تعطَى لها الأولويَة في خطبة الجمعة، وسوف يتمّ تناول هذه القضايا بالبحث في مؤهلات الخطيب، وبحث منهج خطبة الجمعة.

مؤهلات الخطيب:

قد لا أقف أيضاً طويلاً عند مؤهلات الخطيب؛ لأنها غالباً معروفة، لكن هناك تقسيمٌ ظريف ذكره بعضُ الكاتبين، أشير إليه، وقد لا يكون بالضرورة أن محدثَكم مرتضيه، لكنّه على كل حال قابلٌ للنظر، وهو تقسيم يفتح الآفاقَ في النظر والتأمل.

فيقسم بعضُ الكاتبين خطباءَ الجمعة على نوعين: خطيبٌ داعية، وخطيبٌ واعظ.

فالخطيب الداعية عنده هو الخطيبُ ذو الثقافةِ الواسعة، يحمل همومَ عصره، ويعرف أوضاعَ مجتمعه، ويجعل هدفَه إصلاحَ المجتمع، يستمدّ تعاليمَه من كتاب الله وسنة نبيه محمد.

ومن شأنِ هذا الخطيبِ، بمعنى المؤهلات لهذا الخطيب حتى يكون داعية -لأنه حسب رأي بعض هؤلاء الكاتبين أن الداعية أرقى من الخطيب الواعظ- أن يكون عالماً، يعرف الإسلامَ معرفةً جيدة، قرأ القرآنَ وحفظَه، واطَّلع على السنة، وميَّز صحيحها وحسنها وضعيفَها، نال حظَّهُ من المعرفة بأحكام الإسلام، ميَّز بين الحلال والحرام والمكروه والمباح، عرف معرفةً حسنة من تاريخ الإسلام وتاريخ بلاده وأهله وتاريخ العالم؛ ليتمكَّن من استخلاص العظات والعبر من مصارع الأمم وأوضاعها.

كذلك يعرف من التاريخ قضايا الديانات وتقلّبَها عبرَ العصور، ولما في هذه المعرفة من فوائد وعظات، ولا سيما أن القرآنَ الكريم نبَّه إلى هذا من حيث النظرُ في تاريخ الأمم وأحوالها كما في قوله سبحانه: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الروم:9] .

والخطيب الداعية -على هذا التقسيم- يستطيع بمعرفة التاريخ والأمم أن يدحَضَ أقوال المتطاولين، التي تطعَن في الإسلام وحضارته، أو تدَّعي أن الإسلامَ لم يحكم الحياة، ولم يكن له تأثير في تاريخ الشعوب، وبذلك لا ينساق مع الدعاوى القائلة بأنه ليس في الإسلام مشروعٌ إصلاحي، أو لم يكن للمسلمين كذلك مشروعٌ إصلاحي.

ومعرفةُ الخطيب الداعيةِ بالتاريخ ستمكِّنه من معرفة الفَرق بين الجاهلية والإسلام، وكيفَ غيَّر الإسلام أوضاعَ الجاهلية، وجاء بإصلاح عظيم في مجالات التشريع والأخلاق والعبادة والعقيدة.

ومن شأن هذا الخطيب كذلك أن يكون له إلمامٌ جيِّد بعلوم عصره، ولا سيما في عصرنا الحاضر أيضاً، مما يعطيه قاعدة مهمَّة لإقناع مستمعيه بحديثه، مما يحضّ مستمعي خطبه إلى حسن الاستجابة لما يقول، ويكشِف أيضاً أخطاءَ -ولا سيما في عصرنا الحاضر- دعاةِ التوجهات المادية ممن ينكرون الأديانَ، أو يقلِّلون أو يحجمون -إن صح التعبير- من شأن ديننا بخاصة؛ لأنه دين ودنيا، وهو دين ودولة.

أما الخطيبُ الواعظ -حسبَ التقسيم- فهو يكون أقلَّ تأهيلاً ممن سبقَه، فهو رجلٌ له حظّه من الفِقه والمعرفةِ بالكتاب والسنة، ولهُ حظّ من العربية، وهو يؤدّي مهمَّته في نطاق علمه ومعرفته، ويُنتفع به، ولكن مجال انتشار خطابته أقلّ من صاحبه، وربما تصدُر منه أخطاء ترجع إلى عدمِ إدراكه لواقعه إدراكاً جيّداً، وعدم معرفته بمكامن الأدواء الاجتماعية، وقد يصدر منه خلطٌ غير متعمَّد في بعض الاستشهادات.

على كلّ حال هذا نوع من التقسيم -كما قلت لكم- قد لا أرتضيه، أو ليس لمحدثكم منه موقف على كل حال، ولكنه يعطي -لا شكَّ- أنّ الخطباء ليسوا على درجة واحدة، وهذا شأنُ الله عز وجل وسنتُه في الناس، بل حتى الخطباء المتميّزون ليسوا على درجة واحدة في اهتماماتهم بأنواعِ العلوم والمعارف والمواضيع وحُسن طرقها وحسْن تقديمها للناس.

منهج خطبة الجمعة:

أما منهج خطبة الجمعة فقد راعى الشرع فيه حالةَ المكلف، ولا شكّ أن الغرض الأساس منها هو التذكير والوعظ والتنبيه؛ إذ من المفروض أن المسلمَ محتاجٌ إلى التذكير بآيات الله عز وجل، وأحاديث رسوله؛ ليستقيم حاله، وليزدادَ من الخير، وليرتدعَ عن الغي، ويقوِّم اعوجاجه ويبادر للاستجابة، على حدِّ قوله سبحانه: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51] ، وقال سبحانه: (فَبَشِّرْ عِبَادِي) [الزمر:17] .. (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر:18] .

ومن هذا شرعَ الإسلام في الخطبة عدمَ التطويل؛ حتى يعقلَ السامع كلامَ خطيبه، وتَعظُمَ هيبةُ الدين في النفوس، وتُجمَع همة الحاضرين لأداء الصلاة بروح خاشعة وألباب واعية وقلوب داعية.

ولا مانع أن نذكر، ولا ينبغي أن يخلو هذا المجلس من قبس النبوة، فنذكِّر بشيء من هديِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة.

فعن الحكم بن حزن الكلفي رضي الله عنه قال: " قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة، فلبثنا عنده أياماً شهدنا فيها الجمعة، فقام رسول الله متوكئاً على قوس -أو قال: على عصا- فحمد الله وأثنى عليه كلماتٍ خفيفات طيباتٍ مباركات، ثم قال: أيها الناس! إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كلّ ما أمرتم، ولكن سدّدوا وأبشروا " رواه أحمد وأبو داود .

وعن عمّار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة " رواه أحمد ومسلم .

والنووي رحمه الله يبين معنى إطالة الصلاة وقصر الخطبة، فيقول في معنى إطالة الصلاة في الحديث: (أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة، لا تطويلا يشقّ على المأمومين) .

ولا شكَّ أنَّ مثلَ هذه الآدابِ في الخطبة هي آدابٌ تؤدّي إلى حصول الفائدة من الخطبة، وذلك بالعدول عن التطويل المُمِلّ إلى الاختصار غير المُخِل، وخير الكلام ما قَلَّ ودَلَّ، وهو أسلوب تنفردُ به الخطبة عن المحاضرة، إذ الخطبة موجَّهة لعموم الناس على اختلاف طبقاتهم، وأيضاً ليسوا في المحاضرة ملزَمين بوجوب الإنصات ولا بلزوم الخصور، وإنما المحاضرة اختيارية، بينما الخطبة يجب أن ينصتوا، فلمَّا وجَب عليهم الحضورُ والإنصات؛ خوطب الإمامُ بأن يخفّف عليهم.

فالخطبة تقوم على الإيجاز وعلى الفكرة السريعة الخطابية، والإقناع ببراهين الوحي من الكتاب والسنة، وهي أشدّ تأثيراً وحكمة وحكماً من براهين المنطق المجرّد.

والخطيبُ في هذا الباب لا يستغني عن أمرين: هما الإخلاص، والتعرّف على واقع الناس.

فمِن شأن الإخلاص: أن يجعله صادقاً، ويحثّه على تبليغ الرسالة وهداية الخلق إلى الله، ويمتّعه بالرضا النفسي الذي يُهوّن عليه مجابهة الشدائد، ومكابدةَ إعراض الناس عن عظاته وتوجيهاته، ويجعله مُصِّراً على الاستمرار حتى يجدَ من يستمع إليه.

ومن شأن معرفته بالواقع: أن يبني دعوتَه للإصلاح على الجوانب الواقعية المتمثّلة في حياة الناس العامّة، وبذلك يقتصد في الجهود التي يمكن صرفُها في أمور لا صلةَ لها بالحياة، ويقتصر على ما تَمسّ إليه الحاجة وتعظم به البلوى.

أشير بإيجاز إلى جوانب الإصلاح الاجتماعي في خطبة الجمعة..

جوانب الإصلاح الاجتماعي في خطبة الجمعة:

يُمكن أن يكون ذلك من خلالِ عنصرين كبيرَين:

الجانب الأول: الغزو الخارجي:

ويتعلَّق بالعوامل الخارجيَّة أو المؤثّرات الخارجيّة، وهي -خاصة وأنا أتكلم عن عصرنا الحاضر- عوامل التأثر بالغرب، والنزعة العلمانية التي تطبع أجهزةَ الغرب وفكرَه، والتي تصدَّر إلى المسلمين في شكل مذاهب وتياراتٍ سرعان ما تتلقفها جماعات وفئات ترى فيها حقاً أو الحق، وترى أنَّ ما عداها إما باطل رجعي، وقد تتعصَّب لها وتحاوِل فرضَها بجميع الوسائل، فهذا جانب.

الجانب الثاني الوضعية الداخلية للمسلمين:

والتي ينبغي إصلاحها في تشعباتها الكثيرة؛ أخذاً بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والمصالح الشرعية المرعية المعتبرة.

ومن الإصلاح: أن نفهمَ القضايا الداخلية فهما صالحاً؛ حتى لا ينحرف بنا التفكر إلى أن نظنّ ما هو صالح فاسداً؛ فليس من الإصلاح هدمُ كل شيء لإقامة بناءٍ جديد، ربما يظهر في النهاية بعد التجارب أنه فاسد بدوره.

فما يتعلق بالنزعة الخارجية يمكن أن تعالج من عدة أمور، منها: إظهار أن الإسلام مختلف عن الديانات الأخرى بأصوله ونظامه وتشريعه وأخلاقه؛ لأن العلمانية نبعت -كما هو معلوم- من الفهم لطبيعة الدين النصراني المحرَّف، فخرجوا عن الدّين، وظنّوا أن كلّ دين لا يصلح للحياة.

فمُهِمٌّ للخطيب أن يتكلّم في هذا الباب عن الإسلام، ويبيّن حقيقتَه وصلاحَه لكلّ زمان ومكان، وأنه دين ودنيا.

ثم أيضاً كذلك التركيز على الإيمان، وترسيخ العقيدة وتقويتها في النفوس.

وكذلك أيضاً الاهتمامُ بسيرة النبي وخصائصه عليه الصلاة والسلام، وحقوقه وجهاده، وشأنه كله عليه الصلاة والسلام، وحينما أمرنا ربُّنا سبحانه وتعالى بالاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حفظَ لنا سيرتَه، فسيرتُه محفوظة؛ ولهذا مُهِمٌّ جداً للخطيب أن يعتنيَ بهذا؛ لأنّ هذا له تأثيرُه العظيم والعجيب على المسلمين، لأنّ كلّ المسلمين يحبّون نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويشعرون بالراحة والانفتاح والسرور حينما يسمعون سيرةَ نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.. السيرة الصحيحة.

كذلك أيضاً مما يعالَج في هذا المقام فيما يتعلق بالغزو الخارجي: الدعوةُ إلى وحدة المسلمين، والتضامن الإسلامي كذلك.

وكذلك أيضاً تسليط الأضواء على بعض القضايا المثارة، مثل قضية العدل وحقوق الإنسان، ونحو ذلك.

كذلك أيضاً -وهذه قضية مهمة جداً- التأكيدُ على أن الإسلام يغني عن غيره، وأن المسلمين ليسوا في حاجة إلى استجلاب مذاهب، وإنما هم في حاجة إلى الاستفادة -لا شك- من التقدم العلمي والتقني، وهم لا شك أيضاً في حاجة إلى استغلال خيراتهم والعمل على وحدة صفوفهم.

هذا -بجملة- ما يتعلق بمواجهة الغزو الخارجي.

أما ناحية الإصلاح الداخلي فالكلام فيها طويل جداً، ولكن نذكر بعضَ الأشياء، وهذا يرجع إلى عدة أمور:

منها: لا شك طبعاً التأكيد على التوحيد والعقيدة وترسيخ الإيمان.

الثاني: علاج الأخلاق، وكذلك انطلاقاً من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح.

وكذلك أيضاً: التركيز على المعاني الكلية للشريعة ومقاصدها، فهذا من أفضل ما ينبغي أن يعتني به الخطيبُ، فيحاول أن يوجّه الأنظار إلى حقيقة المعاني الكلية التي تحكم الشريعة؛ مثل: الإيمان والإحسان والإخلاص والنصيحة، وإصلاح النية، والتقوى والأمانة والاستقامة، ويركز على تحريرها وبيان أُسُسِها ومقوّماتها، حتى تستقرّ في العقول وتسْتَرُّ بها النفوس؛ لأن كثيراً من الناس -وهم مسلمون- لا يكادون يعرفون المدلول الحقيقي، أو لا يكادون يعيشونه في نفوسهم؛ لأنهم يحتاجون إلى التذكير به بشكل متواصل.

وكذلك أيضاً التصدّي للمخالفات والأخطاء التي يقع فيها الناس ويرتكبها الأفراد، والحديث عنها وإظهار مفاسدها وحكم اقترافها، فيعمد الخطيب إلى التعرف على الرذائل التي تكثر وتفشو في المجتمع، والمخالفات التي يقترفها الناس؛ ليتحدَّث عنها، ويذْكُر ما فيها من أضرار تحيط بالفرد وبالجماعة، وتتضرّر منها الأمة، وقد تؤدّي إلى الانهيار والتقهقر.

كذلك ما يتعلق بإصلاح البنين والبنات والناشئة، وهذا جانبٌ كبير جداً من حثّ الآباء والمعلمين ومؤسسات الشباب والتربية على الإسهام في أمر التربية إلى آخره، والكلام في هذا أيضاً معروف ويطول، لكنه التذكير.

كذلك أيضاً الحثّ على الإقبال على كتابِ الله عز وجل وتعلّمه وحفظه، أو حفظ شيء منه، وإنشاء الحلق القرآنية ورعاية هؤلاء الناشئة، يقال ذلك لأنه ظاهرٌ جداً صلاح الناشئة حينما تنشأ في رحاب كتاب الله عز وجل، وهذا مهمّ جداً التركيز عليه.

كذلك -ولا شك- الاهتمام بالعبادات والحثّ عليها، وأيضاً إصلاح أو التنبيه على الانحرافات التي طرأت عليها.

وكل ما ذُكر -يا إخواني ولا سيما ما يتعلق بالغزو الفكري وغيره- لا ينبغي أن يُخرج الخطبة أن تكون خطبةً لباسها الدين ولباسُها النصوصُ.. كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن لا يُفرِّق المستمع أو الخطيب بين خطبة تُلقَى في مسجد، وكلام يلقيه مفكر؛ إما في جانب سياسي، أو جانب إصلاحي اجتماعي.

الخطبة لها أيضاً مظهرُها الديني، ويجب أن يَتنبّهَ الخطباء وطلبةُ العلم على أن يبقى للخطبة هيئتُها الدينية وارتباطُها الوثيق بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ونهج السلف الصالح، والارتباط بأهل العلم، ولا تخرج إلى أن تكون خطبة سياسيةً محضة، أو خطبةً لا يفرّق المستمع بين أن يسمع كلاماً في مسجد أو يسمعه في محاضرة عامة أو يسمعه في منتدى فكري أو منتدى ثقافي أو حوارات..

ينبغي أن يُعرف للخطبة ضوابطُها، وذلك أولاً لأن المسجد له وظيفته وله رسالته، وأيضاً الخطبة حينما شُرعت في الإسلام لها تأثيرها حينما تؤدَّى على النحو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما نقول: إنها تعايش العصر، ينبغي أن تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنصوص الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح.
 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات