أن تكون اجتماعيا فأنت مؤثر

صـلاح فضـل توقه - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11

اقتباس

إن إجادة الخطيب وتقيميه يجب ألا تقتصر على الجوانب الشكلية والنمطية لمواصفات الخطبة والخطيب، ففي الموقف السابق نجد أن الخطيب قد أفتقد جانباً مهماً، ألا وهو الجانب الاجتماعي، فقد كان الخطيب مُستغرقاً نفسياً وفكرياً في الالتزام بالنواحي الشكلية فيما يتعلق بالخطبة، وما يتعلق بمظهره الخارجي أيضاً، فاحتلت هذه الجوانب بؤرة شعوره، وجاء المسجد وجمهوره في هامش شعوره، أي خارج اهتمامه وتركيزه.

 

 

 

 

 

يدخل المسجد في سكينة ووقار،حسن الهيئة، طيب الرائحة، ممسكاً بحذائه ،لا يلتفت يميناً أو يساراً، مُذكراً نفسه بحمد الله أنه قد وصل المسجد، يصلي ركعتي تحية المسجد، بعد السلام يتنحى جانبا غالباً ما يكون بمواجهة أو داخل المحراب، أو داخل غرفة الإمام، ثم يخرج ما معه من ورقات تتناول موضوع خطبته اليوم، ينهمك فيها مراجعاً لعناصر خطبته والآيات والأحاديث، يخرج القلم من جيبه ليخط به بعض العبارات التي خطرت بباله حال مراجعة الخطبة، ثم ينهمك مرة أخرى في ورقاته، حتى يأتيه من يربت على كتفه، ينبه إلى أن قد حان  موعد الأذان، ينظر إليه وهو يلملم بورقاته ليضعها في جيبه حتى يصعد درجات المنبر.

 

يؤدي الخطبة بطريقة جيدة، وفق عناصرها المعدة سلفاً، الثوابت والشواهد والأدلة، كل ذلك في موضعه، فلا يوجد تناقض بين هذه جمعيا وبين المكان التي وظفت فيه خلال الخطبة، اللغة سليمة ورائعة، واللمحات البلاغية زادت من روعة الخطبة. والأقوال المأثورة زادت من رونقها.

 

انتهى من الخطبة نزل من على المنبر وخطا نحو المحراب، أقيمت الصلاة كبر وصلى ثم أنتهي من صلاته وسلم، اتجه ناحية المصلين مصوبا نظره ناحية الأرض، قرأ أذكار الصلاة، ولما انتهى منها قام منصرفاً ،إلى حال سبيله، فقد انتهت المهمة التي جاء من أجلها !!!

هذا وصف لحال كثير من إخواننا الخطباء حينما يتوجهون إلى المسجد لإلقاء خطبة الجمعة وعندما نراجع الموقف السابق، ونطيل النظر فيه، قد يوافق الكثيرون منا على ما قام به الخطيب، ويرون أنه قد أجاد بدرجة امتياز، وذلك تبعا للشروط الشكلية للخطبة وأدى مهمته بنجاح. !

 

 ومن جانبنا فنحن لا نختلف مع من ذهب إلى أن الخطيب قد أجاد بدرجة امتياز، وحقق كل الشروط الشكلية للخطبة، ولكن هذا وإن كان جانباَ يحسب للخطيب، إلا أنه ليس الجانب الذي نعنيه من كلامنا هنا، فهذا هو الجانب النمطي الذي يهتم به غالبية الخطباء، بل وينال القسط الأكبر في إعداد الخطيب، لدرجة تستغرق كل فكره وجهده وتجعله لا ينشغل بسواها، ولا يلتفت إلى غيرها.!

 

وعندما يصل الخطيب إلى هذه الدرجة من الاستغراق الفكري والنفسي في هذه الجوانب وحدها، فإنه ودون أن يدرى قد وضع حواجز بينه وبين جمهور الخطبة، وأغلق قنوات اتصال لو انتبه إليها وأتقن توظيفها، لحقق أضعاف النتائج التي يرمى إليها من وراء موضوع خطبته.

 

ولتوضيح هذا الأمر، وإلقاء الضوء عليه، نرجع إلى الموقف السابق  الذي صدرنا به مقالنا هذا، وننظر إليه نظرة تحليلية فنقول:

 

إن إجادة الخطيب وتقيميه يجب ألا تقتصر على الجوانب الشكلية والنمطية لمواصفات الخطبة والخطيب، ففي الموقف السابق نجد أن الخطيب قد أفتقد جانباً مهماً، ألا وهو الجانب الاجتماعي، فقد كان الخطيب مُستغرقاً نفسياً وفكرياً في الالتزام بالنواحي الشكلية فيما يتعلق بالخطبة، وما يتعلق بمظهره الخارجي أيضاً، فاحتلت هذه الجوانب بؤرة شعوره، وجاء المسجد وجمهوره في هامش شعوره، أي خارج اهتمامه وتركيزه.

 

ونتيجة لذلك فإن الخطيب قد أنفصل تماما عن جمهور المسجد وأفتقد مع هذا الانفصال الحس والتواصل الاجتماعي معهم، وأصبح خلال فترة تواجده في المسجد وحتى خروجه منه يعيش في غربة عنهم وانفصال عن محيطه المتواجد به.

 

وللتخلص من مثل هذه السلوكيات المنفرة، لابد أولاً أن نبدأ مع الخطيب فهو العلة وسببها في آن واحد، فعليه أن يسأل نفسه السؤال التالي وأن يكون صادقا مع الله في إجابته، ثم مع نفسه، لأن ذلك سينعكس على حياته الدعوية وعلاقته بالمدعوين بعد ذلك.

 

والسؤال هو: ما هي رؤيتك لتواجدك في الميدان الدعوي ؟ هل تعتبرها دعوة ورسالة ؟ أم وظيفة؟

 

فإذا ما اختارنا أحد شطري الإجابة على السؤال السابق، لنطبقها على الموقف الذي نحن بصدد تحليله، لكان الشطر الثاني من الإجابة هو حال لسان خطيب الموقف، فرغم إجادته شكليا إلا أنه لم يخرج عن كونه موظفاً يؤدي ما كلف به، بكل جد وإتقان لم ينقص منه، أو يزد عليه.

 

وهذا الموقف ينطبق على حال كثير من الخطباء المعينين، في وظائف الخطابة من قبل الجهات الرسمية، وهذا ما يفسر لنا عدم تفاعل الجمهور مع مثل هذا الصنف من الدعاة.

 

ولكن إذا كانت الإجابة على السؤال السابق، بالشطر الأول وهي أن الخطيب يتواجد في الميدان الدعوي، داعية إلي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويعتبر نفسه  صاحب رسالة يحمل على كاهله هم نجاحها وإيصالها إلي الناس أجمعين، وأن كونه في هذا المجال فإنه شرف اختصه الله به، قال تعالى:

 

"  وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" ( فصلت:33)

 

هذه الآية تحتوي على دروس وفوائد عظيمة، في شرف الدعوة إلي الله، فهي تصعد إلي الله سابقة الكلم الطيب، والعمل الصالح يصدقها، فهي في المقدمة لأنها منسوبة إلى الله، والداعية يبلغها، فشرف الدعوة إلى الله سبحانه وتعالي يهون على الداعية مشاق طريقها.

 

وقد احتوت هذه الآية على، كلمتي " القول، العمل " وفيهما دلالات عظيمة على عمل الداعية بين الناس، فلا بد من أن تتوافق الأقوال مع الأفعال حتى تؤتي الدعوة ثمارها.

 

فالخطيب يخاطب النفس البشرية على اختلاف طبائعها، وفوران شهواتها، وتقلب أحوالها، ولذا لا بد أن يتودد إليها ويهدئ من ثورتها، ويقابل إساءتها – المتوقعة - بإحسان  ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)  والنتيجة مضمونة وهي " فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " أي نجاح الخطيب في دعوته، قال تعالى:

 

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ( فصلت: 34 ).

 

فالخطيب الداعية عليه أن يتنقل في دعوته بين القول والعمل في محيط مجاله الدعوي وهو المسجد الذي سيلقي على رواده خطبة الجمعة.

 

ونقدم خلال هذه السطور أنموذجاً لحال الداعية المتفاعل اجتماعيا مع جمهوره.

 

يدخل المسجد مبكراً قدر المستطاع، فسيجد من أهل المسجد ورواده الحريصين على إتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بالتبكير إلي المسجد يوم الجمعة، طمعاً في أجر هذا التبكير الذي بشرهم به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله  قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" (البخاري:ح481).

 

ففي مثل هؤلاء الخير الكثير، فيتودد إليهم ويسلم عليهم يقبل رأس كبيرهم ويشجع صغيرهم ويثني عليهم خيرا، ومن هنا يبدأ معهم الحوار والسؤال عن أحوالهم، وأحوال أهل المسجد فلعله يجد صاحب عرس فيهنئه ويذكره بالله، أو صاحب مرض فيدعو له ويذكره بالله، أو من أصابته مصيبة الموت في أهله أو أحبابه، فيعزيه ويذكره بالله ،........

 
يتفقد شئون المسجد وأحواله، ممن يقومون على إدارته، ويسأل عما يعترضهم من مشكلات، أو عقبات، وعما قد يحتاج إليه المسجد، ويتعرف من خلالهم على مشروعات المسجد – إن كان به مشروعات – مثل المشروعات التعليمية، أو الطبية، أو الاجتماعية. .........

 

يطلب منهم أن يصطحبوه ليتفقد المسجد، وما به من أنشطة – إن وجدت – ويسألهم عن احتياجات المسجد، وعما إذا ما كانوا يريدون التنبيه، أو التركيز على نقاط بعينها فيما يخص احتياجات المسجد، ولفت أنظار المصلين إليها، وتحفيزهم للقيام بإنجازها ودعمها.

 

قد تكون هناك بعض السلوكيات الخاطئة التي قد يلاحظها بنفسه، أو ينقلها إليه رواد المسجد الذين التقاهم عند قدومه للمسجد، أو تنقلها إليه إدارة المسجد، فلابد أن يلفت النظر إليها برفق ويصوبها من خلال خطبته.

 

بعد الانتهاء من الخطبة، والفراغ من الصلاة، عليه ألا يتعجل الانصراف من المسجد، بل عليه أن يمكث في محرابه يسلم على الناس، أو يقوم هو إليهم ويسلم عليهم، ويستمع إلى ما قد يبدونه من أسئلة حول موضوع الخطبة أو غيرها من المسائل الفقهية التي قد يتوجه بها جمهور المصلين إلى خطيب الجمعة، فيجيب على أسئلتهم، ويوضح لهم ما قد يتلبس عليهم ولا سيما ما يتعلق بموضوع الخطبة.
قد يتصادف أن تكون هناك مناسبة ما لأحد رواد المسجد في هذا اليوم ويمكن أن توجه الدعوة لخطيب الجمعة لحضورها مثل: وليمة العرس ،أو خرس الولادة، أو عقيقه المولود، أو غديرة الختان، أو وكيرة البناء، أو ما يشابها من المناسبات التي لا تحتوي مخالفات شرعية، أو عقدية، وفي هذه الحالة عليه أن يلبي الدعوة ويشارك فيها بإلقاء كلمة عن المناسبة، وقد تكون المناسبة أيضاً تشييع جنازة أو عزاء أو زيارة مريض،. ....

 

إن مشاركة الخطيب في مثل هذه المناسبات هي جانب من نشر دعوته ووسيلة من وسائل نجاحها ومفاتحاً للولوج إلي قلوب المدعوين،وتأليفها نحوه، ولن ينجح في هذه الأمور إلا من كان صاحب دعوة حقاً، فيضحي بوقته من أجل نجاحها، فلا يرتبط بمواعيد يوم الجمعة حتى صلاة المغرب، تحسبا لمثل هذه المواقف.

 

إن هذه المشاركات الاجتماعية التي هي في أصلها عبادات يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، ليست بغريبة على الداعية المسلم، فقد كان هذا هو حال سيد الدعاة إلى الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا ما وصفته به السيدة خديجة - رضي الله عنها - لتبشره بنجاح دعوته منذ البداية فقالت: ( رواه مسلم: جزء من حديث: 160).

 

لاشك أن هذا حال الخطيب صاحب الدعوة حامل همها والمجتهد لإنجاحها وإيصالها إلي الناس، فالجانب الاجتماعي لو أفتقده الخطيب فقد فاته ركنا ركينا من استراتيجيه الدعوية فلا دعوة بدون جمهور،  ولا جمهور بدون تفاعل.  

 

والحمد لله أولاً وآخرا

 

وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وأله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا

 

 

   

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات