استراتيجيات الإقناع ونشر الدعوة في العصر الحديث(2-2)

معتصم بابكر مصطفى

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

القرآن الكريم له منهج رشيد في خطاب المدعوين، فالله عز وجل هو خالقهم، وهو أعلم بهم من أنفسهم، فخاطب كل صنف منهم بما يناسبه من التأثير والانفعال النفسي وإثارة الوجدان وتحريك العواطف حتى ينتج عن ذلك الاستجابة لما يُدْعَوْن إليه؛ لذا يجب أن يتبع الدعاة في نشر الدعوة كل أسلوب يوصلها قلوب الناس، ويحقق الغاية المطلوبة منها، ..

 

 

 

 

 

 

 

نشر الدعوة الإسلامية واجب على كل مسلم بالقدر الذي يطيقه، وفي حدود العلم الذي تعلمه، غير أننا يجب أن نعلم أن الدعوة الإسلامية ليست مجرد كلمات تردد، أو خطب تلهب حماس الناس، ولا فلسفة تخاطب العقول فقط، ولكنها دعوة عملية تبعث في اتباعها الحس والحركة، وتؤمن على الناس ما تتطلع إليه نفوسهم وتتشوق إليه عقولهم وقلوبهم من راحة وطمأنينة في النفس وخير ورشاد في واقع الحياة(2)، ولنا أن نعلم أن عالم اليوم مهيأ لهذه الدعوة، فقد اشتكى كثير من المصلحين، وعدد من قادة الدول في الغرب من تدهور القيم الأخلاقية والدينية في العالم، خاصةً الغربي منه، نتيجةً لسيادة الفكر العلماني، ونبذ قيم الإيمان والدين، والبعد الغيبي للحياة، ومن هؤلاء ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلس الذي قال أمام مركز الدراسات الإسلامية في أكسفورد ببريطانيا:

"لقد أصبحت الحضارة الغربية مولعة بالكسب واستغلاله على نحو متزايد بما يتنافى مع مسؤولياتنا البيئية..؛ إن هذا الشعور الهام بالوجدانية والوصاية على الطابع القدسي والروحي للعالم من حولنا شيء مهم يمكن أن نتعلمه من جديد من الإسلام..؛ إنني على ثقة بأن بعض الناس ستسارع في اتهامي، كما يفعل عادةً بأنني أعيش في الماضي وأنني أرفض التأقلم مع واقع الحياة العصرية، إن الأمر على عكس ذلك، فما أدعو إليه هو فهم أوسع وأعمق ومتأنٍ أكثر لعالمنا، إنني أدعو إلى إيجاد بعد غيبي، بالإضافة إلى البعد المادي، لحياتنا، بغية استعادة التوازن الذي تخلينا عنه، والذي أعتقد أن غيابه سيثبت أنه مدمر في الأمد الطويل"(3).

وفي السياق ذاته، تحدث الأمير تشارلس في هيئة الإذاعة البريطانية، في شهر مايو 1997م، مؤكداً أن الحضارة الغربية فقدت إيمانها بالله، وذكر أنه استنتج ذلك من الحرج الذي يلاقيه كلما تحدث عن الدين في المجتمعات البريطانية المستنيرة، وأنه كان يحتاج إلى استجماع شجاعته الأدبية في كل مرة يريد الحديث فيها عن الدين، ثم قال: إن عقوداً من اتباع النهج العلماني في الحياة عاد بعواقب وخيمة على الغرب، وإن الأمراض والأوبئة، ومنها مرض جنون البقر في بريطانيا، ما هي إلا نتيجة للحياة المادية البحتة، التي يعيشها الناس في الغرب، ودعا إلى الاستفادة من منهج الإسلام في تحصيل العلم والمعرفة، وذلك بالعقل والقلب جميعاً، ودعا كذلك إلى إفساح المجال لعلماء الإسلام للتدريس في الجامعات الغربية والبريطانية، كما دعا إلى فهم أفضل للإسلام الذي ينظر نظرة شاملة إلى الإنسان وإلى الكون، أساسها التوحيد بالله، الذي له الوصاية على الكون، ولو حدث هذا لعرف الإنسان الغربي البعد الغيبي والروحي للحياة (4).

ومعلوم أن الضلال الذي يعيشه العالم الغربي نابع في الأساس من تحريف اليهود والنصارى لكلمة التوحيد الخالصة (لا إله إلا الله) والزعم أن:

- المخلوق والخالق شيء واحد وشخص واحد.
- وأن الوالد والمولود شيء واحد وشخص واحد.
- وأن الأب إله، والابن إله (فمن هو الأعلى؟).
- وأن عزيراً إله، وأن الله عز وجل إله (فمن هو الأول ومن الآخر؟).
- وأن لله ولداً (فكيف يكون له ولد ولم يتخذ صاحبة، أي زوجة؟).

ورغم هذا الانحراف في عقيدة الغرب الفاسدة، يدعو "فرانسيس فاكوياما" إلى تعميمها على كل العالم، بالترغيب والترهيب، ويتخذ من السلوك الأمريكي نموذجاً خاتماً يعتبره نهاية الرقي الإنساني ونهاية الثقافة والحضارة(5).

وجدير بالملاحظة أن أفكار "فرانسيس فاكوياما" قوبلت بالنقد حتى عند الغربيين.. ففي كتابه "صدام الحضارات" يقدم "صمويل هانتنغتون" مجموعة من الانتقادات لأطروحات "فاكوياما"، منها:

أن الحضارة الغربية رائعة وفريدة ولكنها ليست عالمية؛ وأن المستقبل سوف يشهد أفول الحضارة الغربية وقيام تحالف بين الحضارتين الإسلامية والصينية؛ وأن الإسلام سوف يقوى على حساب الغرب إذا امتلك الحداثة والتقانة ولم يتغرب.. ورغم هذا الموقف من "صمويل هانتنغتون" إلا أنه يعود ويحذر من تمكين الإسلام من امتلاك التقانة الغربية لأنه سوف يقوى مادياً ويظل مع ذلك متمسكاً بالتعاليم الإسلامية، وهذا خطر على الغرب(6) وصدق الله العظيم القائل: (نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) (الحشر:19)، (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67)، وكيف تسنى لهم ذلك، وهم في غمرتهم يعمهون وفي شهواتهم سادرون، ومعظم أهل الغرب اليوم يعيشون مشكلة في الصحة النفسية، وهي مشكلة أكبر وأعقد، لأنها تحتاج إلى معرفة قوى النفس وملكاتها ونوازعها، وهذه متعددة ومختلفة على حد التضارب في هذا الإنسان الذي تكاملت في طبيعته كل التراكيب.

وقد اجتهد الحكماء القدماء من مختلف الأمم، كما اجتهد أهل الفلسفة العلمية على المستوى الفردي والاجتماعي، وكذلك اجتهد علماء النفس المحدثون، في إرشاد الإنسان إلى الراحة من آلامه النفسية، وتنوعت آراؤهم بحسب ظروف حياة الأمم ونوع حضارتها، فمنهم من حاول معالجته من داخل ذاته، ومنهم من التمس العلاج من خارجها، وكلهم يحاول تجنب المعاناة والشقاء، رغم اختلافهم في السبل والوسائل!

غير أنه في عصور انحلال الحضارة، وسيطرة الترف مع أزمات في الفكر والحياة، يظهر من يدعو إلى لذات الجسد ولا يرى غيرها، ومنهم - كما حكى ابن مسكويه في كتابه (تهذيب الأخلاق)- من دعا إلى استعمال الفكر في تنظيم اللذات، فيجعل أشرف ما في الإنسان خادماً لأحط ما فيه.

كل هذه الآراء تهدف إلى توفير الراحة النفسية، ومنها ما لا ضرورة له، ومنها ما قد يكون مقبولاً من الناحية العملية بقدر ما تسمح طبيعة الحياة، لكنها دعوات ليس معها إلزام ولا جزاء من جهة، ولا تحل مشكلة الإنسان من جهة أخرى، ولك أن تشاهد حياة الإنسان الغربي اليوم، فهي لا تجيب عن سؤال لا مفر منه للمفكر الجاد في أثناء معاناته للحياة أن يطرحه وهو: ما معنى حياة الإنسان ووجوده في الأرض، بكل ملكاته الرفيعة، واستعداداته للهبوط إلى مستوى الحيوان؟ وما هو قانون حياته، وما هو مصيره بعدها؟

وتبقى الإجابة الصحيحة عن هذه التساؤلات في النظرة الدينية الإسلامية..، فهي وحدها التي تشمل معنى الوجود، بمعناه المطلق، وتقدم تصوراً متكاملاً للأشياء.. فالإيمان يقوم على المعرفة والتصديق الجازم، العقلي والنفسي، بوجود صانع لهذا العالم، تام القدرة والحكمة والعناية والرحمة، فالإيمان في الإسلام بالذات ليس نوعاً من الإعلام الخبري بوجود الله وسائر أصول العقيدة، ولا هو مأخوذ من تراث الآباء، بل هو مبني على التفكير في تلك الأصول، وجعلها مسائل للبحث والدليل والبرهان، باستعمال العقل، وخصوصاً التفكير في هذا العالم وفي الإنسان ومكانه فيه، واتخاذ ذلك نقطة البداية للاستدلال(7) قال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاواتِ وَالأْرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) (يونس:101)، وقال تعالى: (وَفِي الأْرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) (الذاريات:20-21)، وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاواتِ وَالأْرْضِ لآيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية:3-4) وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاواتِ وَالأْرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْء) (الأعراف:185).

القرآن الكريم له منهج رشيد في خطاب المدعوين، فالله عز وجل هو خالقهم، وهو أعلم بهم من أنفسهم، فخاطب كل صنف منهم بما يناسبه من التأثير والانفعال النفسي وإثارة الوجدان وتحريك العواطف حتى ينتج عن ذلك الاستجابة لما يُدْعَوْن إليه؛ لذا يجب أن يتبع الدعاة في نشر الدعوة كل أسلوب يوصلها قلوب الناس، ويحقق الغاية المطلوبة منها، وعليهم أن يطوروا هذه الأساليب حتى لا تتعارض مع دعوتهم ولا تصطدم بقواعد الدين، قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل:125)، فالحكمة في الآية هي الحجج القاطعة الصحيحة، كما ذكر الشوكاني في فتح القدير، أو هي الأدلة اليقينية الموضحة للحق، المزيحة للشبهة، كما صرح بذلك البيضاوي في تفسيره.. وهذا يمثل أساس الإقناع في الخطاب الدعوي.

إن الأمر الذي ينبغي أن يعيه القائمون على أمر الدعوة لله عز وجل، أن للعمل الإسلامي المعاصر وظيفتين(8):

1- وظيفة البناء الإيماني والعقدي وإحياء ما أماته الناس من شرائع الإسلام.... وهو في هذا يدور في فلك المنهجية العلمية، يدعو إلى أصول هذا المنهج، وينشّئ رجاله على أساسه.. وقاعدته في هذا الإطار هم الملتزمون بهذا المنهج.

2- وظيفة الدفاع عن الإسلام في مواجهة الكفر المطبق في هذه الأيام، وهو في هذا حركة جهادية عامة، تدور في فلك المذهبية الإسلامية، بالمعنى العام.. وتتضمن هذه الوظيفة - فيما أرى - معنى أن يعمل الدعاة على نشر الإسلام في العالم كافة، وتبصير أهل العقائد الفاسدة، فضلاً عن الدفاع عن الشبهات والهجوم الذي يشن على الإسلام، وهذا أمر يستدعي استخدام الاستراتيجيات الثلاث للإقناع، مما يتطلب من الداعية عدَّة فكرية، بجوار العدّة الروحية والأخلاقية، فالدعوة عطاء وإنفاق.. ومن لم يكن عنده علم ولا ثقافة كيف يعطي غيره؟

لقد تبين لكثير من الباحثين في هذا المجال أن الداعية بحاجة إلى مجموعة من الثقافات، من أهمها(9):

أ- الثقافة الإسلامية.
ب- الثقافة التاريخية .
ج- الثقافة الأدبية واللغوية.
د- الثقافة الإنسانية.
ه- الثقافة العلمية.
و- الثقافة الواقعية.

وامتلاك الفرد لهذه الثقافات هو - فيما نرى- الذي يجعله يعمل على صياغة طابعه الدعوي بطريقة تقنع الآخرين بطرحه.. فمعرفة وفهم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والفقه، يمثل جوهر الثقافة الإسلامية؛ أما التاريخ فهو الذاكرة البشرية، وسجل أحداثها، وديوان عبرها، والشاهد العدل لها أو عليها، ويهمنا في ذلك تاريخ الإسلام والأمة الإسلامية خاصة، وتاريخ الإنسانية عامة، وهذا يمثل أساس الثقافة التاريخية.

وإذا كانت الثقافة الدينية لازمة للداعية بالدرجة الأولى، فإن الثقافة الأدبية واللغوية لازمة كذلك، ولكن الأولى تلزمه لزوم المقاصد والغايات، والثانية تلزمه لزوم الوسائل والأدوات، فاللغة بمفرداتها ونحوها وصرفها لازمة لسلامة اللسان وصحة الأداء، فضلاً عن حسن أثرها في السامع، بل صحة الفهم أيضاً، فالأخطاء اللغوية إن لم تحرف المعنى وتشوه المداد، يمجها الطبع وينفر منها السمع.

أما الثقافة الإنسانية، فتعني مدى إلمام الداعية إلماماً مناسباً بأصول ما يعرف الآن باسم (العلوم الإنسانية) مثل علوم: النفس، والاجتماع، والاقتصاد، والفلسفة، والأخلاق.
والثقافة الخامسة المطلوب توفرها عند الداعية هي الثقافة العلمية، والعلم هنا بمفهومه الاصطلاحي الحديث كما شاع عند الغربيين، فهو ما قام على الملاحظة والتجربة وخضع للقياس والاختبار مثل علوم الفيزياء والكيمياء ... الخ، ولا يقصد هنا أن يتعمق الداعية في دراسة هذه العلوم، وإنما عليه أن يطالع بعض الكتب الميسر فهمها، فهي مهمة لفهم الحياة المعاصرة، كما أن هذه العلوم يتخذها بعضهم للتشكيك في الدين.

ومن أهم ما يلزم الداعية: الثقافة الواقعية المستمدة من واقع الحياة الحاضرة وما يدور به الفلك في دنيا الناس الآن، داخل العالم الإسلامي وخارجه.

والملاحظ أن هذه الثقافات، والتسلح بها، تعطي الداعية معرفة متكاملة باستخدام استراتيجيات الإقناع، سواء كان ذلك في المجال النفسي، أو الثقافي الاجتماعي، أو إنشاء المعاني، ومن هناك يمكن القول: إن أساسيات الخطاب الدعوي واضحة، وسمات الداعية أوضح..

ويبقى لنا الحديث عن وسائل الدعوة، ونخص منها هنا وسائل الاتصال الجماهيري، فهي الأمضى سلاحاً والأقوى أثراً في عالم اليوم. فهذا ما سنتكلم عنه -إن شاء الله- في لقاء قادم .

 

 

 

 

 

 

ـــــــــ
(1) من كتاب" من أساليب الاقناع في القرآن الكريم
(2) محمد السيد الوكيل، أسس الدعوة وآداب الدعاة، ط2 (المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 1986م) ص11.
(3) الأمير تشارلس، الإسلام والغرب (أكسفورد، بريطانيا: 1993م) ص20.
(4) زكريا بشير إمام، مواجهة العولمة، ط1 (الخرطوم: منشورات مركز قاسم للمعلومات وخدمات المكتبات، 2000م) ص175.
(5) فرانسيس فوكاياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة حسين أحمد أمين، ط1 (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1993م) ص35.
(6) صمويل هانتنغتون، صدام الحضارات، ترجمة طلعت الشايب، ص20.
(7) راجع في ذلك الشبكة الدولية للمعلومات، إسلام نت، د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، الصحة البدنية والنفسية في الإسلام، ص3.
(8) صلاح الصاوي، الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر، ط2 (القاهرة: دار الإعلام الدولي، 1994م) ص315.
(9) يوسف القرضاوي، ثقافة الداعية (الكويت: مطبعة الفيصل، منشورات الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، بدون تاريخ نشر) راجع الصفحات 9-193-165-180-190.

 

 

 
 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات