خطبة الجمعة أداة فعالة للتغيير وطاقات مهدرة (2-3)

محمد بن لطفي الصباغ

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: بناء الخطبة

اقتباس

وعلى الخطيب أن يُعِدَّ خُطبَه إعدادًا جيدًا، ويَحسُن أن تكون مكتوبة؛ لأن كتابتها تحمله على التحضير، وتتيح له أن يُورِد النصوص بألفاظها من الكتاب والسُّنة وأن يرجع إلى المراجع، وأن يَستكمِل الموضوع الذي يريد أن يتحدَّث فيه..

 

 

 

 

نريد أن نذكُر أهمَّ الأمور التي ينبغي أن يأتي بها خطيبُ الجمعة، ونُريد أن نذكُر طبيعة خطبة الجمعة.

 

ينبغي أن تتحقَّق في هذه الخُطبة الموعظة الحسنة الموجَزة الواضحة المتَّصِلة بحياة الناس، ليست خطبة الجمعة محاضرة علميَّة في موضوع تخصصي، وليست تعليقًا سياسيًّا مملاًّ كالذي نسمعه في الإذاعات والفضائيَّات؛ إنما ينبغي أن تذكِّر بالواجبات وتُحذِّر من المُنكرات، وتُعالِج شؤون الناس، وتحاول أن تُقدِّم لهم الحلولَ لما يلاقون من مشكلات، ويجب أن يكون العلاج مستقىً من الكتاب والسنة.

 

وعلى الخطيب أن يَبتعِد عن إيقاع الناس في اليأس مهما كانت الظروف قاسية؛ فالمسلمون هم الأعلون ولو كانوا مُنهزِمين في معركة، ولننظر ولنتأمَّل قولَ الله –تعالى- فيما أُنزِل بعد غزوة أحد؛ قال - سبحانه -: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) [آل عمران: 139، 140]، فاليأس موت يقود إلى الذِّلة، والمؤمن لا يكون ذليلاً.

 

وعليه أن يَهتمَّ بالأهم فالأهم من أمور الدين؛ ذلك لأنه يَشغَل الناس بأمر من الأمور الفرعية اليسيرة، ويصرفهم عن أمور الدين المهمّة، فهناك أمور العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر، فلا ينبغي أن يُثيرها بحال من الأحوال.

وعليه أن تكون خطبته زاخرة برُوح النصح والودِّ واللطف والرأفة بالمسلمين والتواضع، بعيدة عن الترفع والأستاذية.

 

وعليه ألا يُشدِّد على الناس وليَمتثِل أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يَسِّروا ولا تُعسِّروا وبشروا ولا تنفروا" متفق عليه.

 

ويقول: "إنما بُعِثتم ميسِّرين ولم تُبعَثوا معسرين" رواه البخاري [2].

 

ويقول: "سدِّدوا وقارِبوا"، متفق عليه[3].

 

ويقول: "من يُحرَم الرِّفق يُحرَم الخير كله"؛ رواه مسلم[4] وأبو داود.

 

إن التلطف في دعوة الناس والرِّفق بهم يقودهم إلى التزام طريق الحق؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].

 

إن في ذلك لدرسًا للدعاة والخطباء، إذا كان المؤيَّد بالعصمة، المبعوث بالرحمة -صلى الله عليه وسلم- المكلَّف بالرسالة من الله، يقول له الله –تعالى-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، فما القول بالإنسان العادي إذا كان فظًّا قاسيًا غليظَ القلب جافي القول؟!

 

إن علينا ألا نكون عونًا للشيطان على أبناء أمتنا وديننا، إن علينا أن نترفَّق بهم، وأن نُلين القولَ لهم، وألا نتشدَّد ولا نعسِّر.

 

وهناك أمر لا بد من التنبيه عليه وهو في غاية الأهمية:

 

لا يعني الأسلوب الحَسَن في الدعوة والرِّفق بالمدعوين التنازل عن مبادئ الدعوة، ولا الرضا بأنصاف الحلول، ولا اتخاذ الموقف المائع من القضايا المطروحة، إن هذا لو حصل فإنما هو تشويه لحقيقة الدعوة ومبادئها، إن الثبات على الحقِّ والإصرار عليه وعدم المداهَنة فيه أساس لا بد منه.

 

وعلى الخطيب أن يُعِدَّ خُطبَه إعدادًا جيدًا، ويَحسُن أن تكون مكتوبة؛ لأن كتابتها تحمله على التحضير، وتتيح له أن يُورِد النصوص بألفاظها من الكتاب والسُّنة وأن يرجع إلى المراجع، وأن يَستكمِل الموضوع الذي يريد أن يتحدَّث فيه.

 

وكان شيخنا العلامة الشيخ بهجت البيطار في كثير من الأحيان -ولا سيما في الأيام الأخيرة من ممارسته الخطابة- يكتب خطبتَه ويُلقيها، وهو من هو في العلم والمكانة، وكذلك فقد كان الشيخ عبدالرزاق الحمصي وهو من الخطباء المشهورين، وكان خطيب الرئيس القوتلي، كان يكتب خطبتَه ويلقيها من الورقة أحسن إلقاء، وقد أوتي صوتًا رائعًا في الإلقاء، هذان وأمثالهما من الخطباء كانوا يكتبون الخُطْبة، أفلا يَجدُر بطلبة العلم المبتدئين الذين يُكلَّفون بالخطابة أن يقتدوا بهم؟!

 

وأنصح كلَّ خطيب -مهما كان مستواه العلمي- أن يكتب الخطبة، ثم إن قرأها على المنبر من ورقةٍ فأمر حسن، وإن كرَّرها مرات حتى حفِظها عن ظهر قلب فألقاها من حفظه، فهو أحسن.

جاء دمشقَ في أربعينيات القرن الميلادي الماضي مبعوث من الأزهر، وكلِّف بالخطابة في بعض المساجد، فأدهش الناس ببلاغته وروعة خُطبِه، وقد سمعت عددًا من خطبه فكانت آيات من البيان وعُمْق الأفكار وتسلسلها ووفرة الاستشهاد بالآيات والأحاديث، ثم عرفت أنه كان يكتب الخطبة ويحفظها عن ظهر قلب، ثم يلقيها يوم الجمعة.

 

وقد بلغني أن القوم في الغرب يعتبرون أن الذي يَرتجِل ولا يقرأ من ورقةٍ معدَّةٍ يستهين بالحاضرين، ولذا فإنك ترى المسؤولين يُلقون الكلمات الرسمية التي تُعبِّر عن رأي الدولة مكتوبة.

 

وعلى الخطيب أن يكتبها بأسلوب واضح؛ فالوضوح أمرٌ ينبغي الحرص عليه كل الحرص؛ لأن الغرض من الكلام الإفهام، بحيث يَفهمها السامعون.

 

أما ما يفعله بعض الخطباء من الارتجال والخوض في موضوعات غير مُترابِطة، فهذا لا يُحقِّق الغرض من الخطبة.

 

ويحسن أن يُعنى الخطيب بموضوع الرقائق، فيَذكُر الآيات والأحاديث في هذا الموضوع، ويَذكر أخبار الصالحين التي تُرقق القلب وتُكفكِف من حِدة النزعة المادية التي سيطرت على كثير من الناس في الوقت الحاضر، وكتاب الترغيب والترهيب للمنذري، وكتاب رياض الصالحين للنووي، وكتاب الرقاق في صحيح البخاري -من المصادر المهمة التي ينبغي أن يرجع إليها.

 

ويَحسُن أن تكون الخطبة مدعومة بالشواهد من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبار الصحابة، ولا سيما الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم جميعًا - وقصص البطولة في تاريخنا الأغر[5].

 

والحمد لله رب العالمين.

(يتبع).

 

------

[1] البخاري برقم 69 ومسلم برقم 1734.

[2] البخاري برقم 220.

[3] البخاري برقم 6467 ومسلم برقم 2816.

[4] مسلم برقم 2592 وأبو داود برقم 4809.

[5] انظر: كتابنا "وقفات مع الأبرار ورقائق من المنثور والأشعار".

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات