تنسيق الخطبة (1/2)

علي محفوظ

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: بناء الخطبة

اقتباس

وجملة الأمر: أن المطلع هو أول ما يستأذن على السمع من الكلام، فإن كان حسنًا رائقًا ظريفًا مناسبًا للموضع؛ أُذِنَ له، وتقبلته النفوس، وتطلعت إلى ما يورده الخطيب بعد، وحثَّها الشوق إلى الآتي بإضافته إلى الماضي، وهذا هو سر حسن الافتتاح.

 

 

 

 

 

وفيه ثلاثة مطالب:

 

وهو في اللغة: التنظيم والترتيب، وفي الاصطلاح: تنظيم معاني الخطبة وسياق أجزائها وذكر أدلتها، وهو من أعظم أركان البلاغة ووسائل التأثير؛ فإنه بمنزلة تنظيم صفوف الجند، فكما لا نصرة لجيش لم يراع فيه حسن النظام؛ كذلك لا قوة للخطبة ولا أثر لها إذا لم ترتب ترتيبًا حكيمًا؛ بحيث تكون أبين غرضًا، وأحسن في النفوس وقعًا، وأقسام الخطبة-إجمالاً-ترجع إلى ثلاثة أشياء: المقدمة، والإثبات، والخاتمة.

 

المطلب الأول:

 

في المقدمة:

 
وفيه مباحث:

 

المقدمة: هي فاتِحة الكلام ومرجع فحواه، ولما كانت بمثابة الأساس من البناء، والرأس من الأعضاء؛ وجب أن تكون محكمة الوضع، مناسبة مشوقة للسامعين إلى بسط الكلام فيما تشير إليه، فهي خطبة مُجملة.

 

المبحث الأول:

 

في حسن الافتتاح:

 

وهو أن يكون الابتداء لائقًا بموضوع الخطبة، بأن يأتي الخطيب في صدرها بما يدل على المقصود منها، وهو براعة الاستهلال.

 

قال أبو عثمان الجاحظ، نقلاً عن أبي علي القالي: "وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك؛ كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته -كأنه يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح، وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح حتى يكون لكلٍّ من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناه، ولا يشير إلى مغزاه، ولا إلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت".

 

وجملة الأمر: أن المطلع هو أول ما يستأذن على السمع من الكلام، فإن كان حسنًا رائقًا ظريفًا مناسبًا للموضع؛ أُذِنَ له، وتقبلته النفوس، وتطلعت إلى ما يورده الخطيب بعد، وحثَّها الشوق إلى الآتي بإضافته إلى الماضي، وهذا هو سر حسن الافتتاح.

 

ويستهجن في الافتتاح أمور:

 

الأول: الإسهاب والاستطالة بما يمل السامع، منه ما دام في الإيجاز وفاءً بالغرض.

 

الثاني: أن يكون مبتذلاً مشاعًا، يصلح لكل خطبة.

 

الثالث: ألا يوافق الموضوع؛ فيكون قلقًا غير ملتئم معه.

 

وأنواع الافتتاح أربعة: السهل، والجزل، والبدهي، والملوح.

 

فالسَّهل: ما يبين فيه الموضوع بلا تكلف، ويسمَّى (الساذج)، وهو أحْرَى بالخُطَب العاديَّة، ومحافل الأدب، ومجالس العظات والتَّشاوُر.

 

والجَزْل: ما كان أنيق اللفظ، شريف المعنى، يزينه حسن التعبير ورونقه، ويصلح للأحوال الخارقة للعادة، والوقائع الشريفة، والنوازل الهامة، إذ يتوقع الجمهور ما يكشف عن عظام الأمور؛ كقول أبي بكر - رضي الله عنه - يومَ مَوْتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّها النَّاسُ، إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، ثم تلا الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران: 144]، وكقول أبي الحسن الأنباري في افتتاح قصيدته في رثاء الوزير أبي طاهر، لما صَلَبَهُ عضُد الدولة؛ حيث قال:

 

عُلُوٌّ فِي الحَيَاةِ وَفِي المَمَاتِ *** لَعَمْرِي تِلْكَ إِحْدَى المُعْجِزَاتِ

 

والبَدَهي: ما أصاب السامع على غير انتظار، وأبرز عن حَميم العواطف والقلوب المتألِّمة، ومقامه الوقائع الباغتة والطوارئ المفجعة.

 

والملوِّح -أو المعرِّض-في اللغة: خلاف المصرِّح، وفي الاصطلاح: ما يخرج مخرج الكناية والتعريض، ويستعمل في سياسة النفوس النافرة، وترقيق القلوب العاتية المتكبرة الجبارة.

 

وكثير من خطباء هذا العصر يقلِّد خطباء أوربا في ترك هذه المقدمات رأسًا، مكتفين بمقدمة أجنبيَّة، فيها ثناء أو اعتذار أو تنويه بشأن الموضوع، وهو خروج عن الطريقة المألوفة في الخطابة عند الصدر الأول على ما عرفت.

 

المبحث الثاني:

 

في بيان المقصد:

 

هو أن يظهر الخطيب ما يبني عليه كلامه، بذكر ما سيلقي بعبارة جامعة جلية موجزة؛ لتكون كالعنوان للكتاب.

 

ولبيان المقصد عند العرب أسماء أخرى، وقد يسمونه بالسِّمَة، وهي عنوان الخطاب؛ ليكون عند السامع إجمال ما يفصِّله الخطيب بعدُ.

 

والصفات الملائمة لبيان المقصد ثلاث:

 

الأولى: أن يكون مترتبًا على قضية واحدة فقط، كما لو أردت الكلام على العدل؛ فإنك تقول: إن العدل أساس عمران الممالك -مثلاً.

 

الثانية: أن يكون واضحًا؛ لأن الغرض إذا كان خفيًّا بعيد المأخذ تبرَّم منه السامع، مثلاً: إذا كان الكلام على حسن الخُلُق قلتَ: "مَنْ حَسُنَ خُلُقُه وجبت محبته، ومَنْ ساء خُلُقُه تنكَّدت معيشته"، أو على شرف العقل قلتَ: "خير المواهب العقل، وشرُّ المصائب الجهل".

 

الثالثة: أن ينشط السامعين بابتكار صورته ولطيف مخرجه؛ كما تقول في كثرة خطوب الدهر: "الليل والنهار غرسان، يثمران للبرية صنوف البلية"، أو: "زوايا الدنيا مشحونة بالرزايا"، أو التحذير من المعاصي قلتَ: "رأس الحكمة مخافة الله".

 

المبحث الثالث:

 

في تقسيم الخطاب:

 

التقسيم في اللغة: مصدر قسمت الشيء إذا جزَّأته، وفي اصطلاح الخطباء: هو تفصيل المقصد ببيان أجزائه بعد ذكره مجملاً، وله فوائد كثيرة منها ما يعود إلى نفس الخطيب من حيث إنه وقاية له من الهذر والخروج عن الموضوع، وتكرار المعاني، ومنها ما يعود على السامعين بتسهيل إدراك الموضوع، وترويح خاطرِهِم فينشطون لِلسماع بالانتقال من قسم إلى آخر، هذا إلى أن التقسيم يفيد الخطبة وضوحًا ويكسوها حسنًا وجمالاً، وصفات التقسيم الحسن أربع:

 

الأولى: أن تكون القسمة شاملة لكل أجزاء الموضوع لا يخرج عنها جزء من أجزائه.

 

الثانية: أن تكون الأقسام متباينة لا يدخل بعضها في بعض.

 

الثالثة: أن تكون واضحة يتلقاها عقل السامع بسهولة؛ فترسخ في ذهنه.

 

الرابعة: أن تكون مبتكرة موجزة؛ كقول بعضهم في دواعي المحبة: ثلاثة تورث المحبة: الأدب، والتواضع، والدين.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات