أيها الخطيب: كُنْ، ولا تكن (1/2)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: تدريب

اقتباس

فإياك أن تضع نفسك في قالب أحدِ من سبقوك من الخطباء، وإياك أن تتحرج أو تتهيب من الابتكار والتجديد في أسلوب العرض، وإياك أن ترهب من أن تُغيِّر استهلال خُطبك عما عهده السامعون... بل اخرج عليهم كل يوم بجديد، واجعلهم متشوقين دومًا ينتظرون منك المزيد...

 

كنت أود أن أعنون هذا المقال بعنوان: "أيها الخطيب: قل، ولا تقل"، بدلًا من "كن، ولا تكن"، ولكني خشيت أن تظن -أخي الخطيب- أننا سنعرض لبعض الأخطاء اللغوية أو البلاغية، وأقول: لا، بل سنعرض لبعض الآداب الخطابية الدعوية، في صورة "كن ولا تكن"، والتي تمثل مجتمعة استراتيجية منبرية تثمر قبولًا لدى الجمهور، سمها إن شئت: "استراتيجية القبول الجماهيري"، وهاك بعض بنودها:

 

أولًا: كن متأدبًا، ولا تكن متبجحًا:

فإذا وقفت على من وقع في خطأ أو مخالفة، وخشيت أن ينتشر هذا الخطأ أو المخالفة بين المسلمين، وأردت أن تحذِّر منها الناس، فقل: (يُخطئ من يفعل كذا)، ولا تقل: (أخطأ فلان حين فعل كذا)؛ فلا تذكر اسم المخطئ ولا تلمح إليه.

 

فإن فعلت ذلك فقد أنجزت ووفيت بآداب كثيرة، واتقيت محظورات عديدة، ومنها:

(1) تجنبتَ المباشَرة: وهو المنهج النبوي المعروف، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجنب فضيحة المخطئ على الملأ، ويقول: "ما بال رجال منكم يقول أحدهم: أعتق يا فلان ولي الولاء..."([1])، ويقول : "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم..."([2])...

 

(2) برئتَ من تجريح الأشخاص والهيئات: فنجوت من عداوة الناس لك ونفورهم منك، فإن أكثر ما تكرهه النفس أن يوجَّه إليها التوبيخ واللوم والنقد المباشر ولو كان بالحسنى!

بل إن النفس لتنفر ممن يخالفها الرأي، وإن لم يوجِّه إليها طعنًا ولا نقدًا؛ فها هما أفضل رجلين في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يضيق صدر أحدهما بالآخر حين خالفه الرأي، حتى ترتفع أصواتهما في حضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن عبد الله بن الزبير قال: قدِم ركب من بني تميم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمِّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات: 1] حتى انقضت الآية([3])، فما بالك بغيرهما؟!

 

فتجنب "التشخيص"؛ أي تعيين الأشخاص والأعيان، وتجريحهم، تأمن عدواتهم وشرهم، وليس طريق أنسب لذلك من استعمال التلميح دون التصريح.

 

(3) وسَّعتَ مجال الإسقاط: وتلك هي الفائدة الثالثة، فبدل أن تصحح خطأ فرد صححت عيب مجتمع، فإنك إن حددت شخصًا وخصصته بالتصحيح والنقد فإنما أصلحت خطأً فرديًا، أما إن عممت الكلام وتجنبت تحديد الأعيان فقد قوَّمت خطأ الجماعة كلها، أو حصَّنتها أن تقع في ذلك الخطأ.

 

وهذا هو منهج القرآن في تناول الأحداث؛ أن يُعمم ولا يخصِّص، فقد قصَّ علينا القرآن قصص كثير من الأقوام كقوم نوح وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب، فما عيَّن منهم أفرادًا ولا أعيانًا، بل كان همُّ القصص القرآني هو الوصول إلى العظة والعبرة، فنسمع القرآن الكريم يقول: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ) [هود: 102-103]، وذلك تعليقًا على مهلك فرعون وجنده، ومن قبلهم قوم شعيب وقوم نوح وقوم هود وقوم صالح... فليست هذه الأقوام وحدها هي المعرضة للعذاب والإهلاك، بل وكل من فعل فعلهم.

 

وإننا لنجد القرآن يقدم العبرة وحدها وإن لم يسبق ذلك ذكر لقوم ولا لأحد؛ ففي سورة الطلاق يقول -عز من قائل-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الطلاق: 8-10]، فليس المقصود تعيين الأفراد، وإنما المقصود اكتساب العبر والعظات.

 

وأكثر من ذلك؛ فغالبًا ما يُغفل القرآن ذكر أسماء أشخاص وأعدادهم مع أنهم محور الحدث والواقعة؛ تنبيهًا على أن المقصود هو العبرة، ولا فائدة زائدة من تعيين الأسماء، ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [يس: 20]، وقوله: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص: 20]، ويقول عن فتية الكهف: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ...) [الكهف: 22]، فمن الرجل الأول؟ ومن الثاني؟ وما عدد الفتية وأسماؤهم؟ الجواب: لا يهم، فالمهم هو العبرة وحدها.

 

ثانيًا: كن متواضعًا، ولا تكن متعاليًا:

فقل: (نجاني الله وإياكم من الذنوب وسوء الخواتيم)، ولا تقل: (أنجاكم الله من الذنوب وسوء الخواتيم)، قل (غفر الله لي ولكم) ولا تقل: (غفر الله لكم) وتسكت، فلا تتعال بنفسك، ولا تسمو بها، ولا تفصلها وتعزلها عن السامعين، بل اجعل نفسك فردًا من المخاطَبين، وعُدَّ نفسك واحدًا منهم، فإنك معرَّض -مثلهم- للوقوع في الذنوب أو لسوء الخاتمة -والعياذ بالله- وأنا كذلك معكم.

 

وإنك -أخي الخطيب- إن تواضعت ولم تتعال في خطابك، غنمت هذه الغنائم:

(1) نفيتَ عن نفسك تهمة التكبر التي لو أحسها فيك المخاطبون انصرفت عنك قلوبهم.

 

(2) تُجنِبُ غيرك الفتنة بك: فإن قلوب الناس وعقولهم أنواع وأشكال وأصناف؛ فمنهم من إذا عزلت نفسك عنهم في الخطاب والأمر والنهي عدُّوك متكبرًا متعاليًا، وهؤلاء أشرنا إليهم، ومنهم -وكلامنا الآن عنهم- من إذا رآك فوق المنبر تعظ وتأمر وتنهى -وتعزل عن ذلك نفسك- افتتنوا بك؛ فظنوك في مأمن من الوقوع في الزلل والخطأ، فقدَّسوك ورفعوك حتى ظنوا فيك الملائكية! وهذه -كما تعلم زميلي الخطيب- من أعظم الفتن!

 

(3) جنَّبتَ نفسك الافتتان بنفسك: أقصد أن يدخلك العجب أو يتسرب إليك الغرور أو يسكنك الفخر، وذلك حين تأمر ولا تؤمر، وتَنهى ولا تُنهى، وتُتبع ولا تَتبع، وتوقَّر وتُعظَّم من ذلك الصنف الأخير من المخاطَبين الذي أشرنا إليه توًا...

 

ثالثًا: كن مبدعًا مجددًا، ولا تكن نمطيًا مكرِرًا:

فإياك أن تضع نفسك في قالب أحد من سبقوك من الخطباء، وإياك أن تتحرج أو تتهيب من الابتكار والتجديد في أسلوب العرض، وإياك أن ترهب من أن تُغيِّر استهلال خُطبك عما عهده السامعون... بل اخرج عليهم كل يوم بجديد، واجعلهم متشوقين دومًا ينتظرون منك المزيد.

وهيا بنا الآن -أخي الخطيب- نقارن سويًا بين الأساليب التالية في العرض، نرى أيها أكثر جذبًا لأذن السامع "الـمُثَقَّف":

فبدلًا من أن تقول: "بر الوالدين من الواجبات التي حتمها الشرع، وأمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأوجبها القرآن، ومن بر والده بره ولده، ومن عق والده عقه ولده"...

قل: "ما أجمل بر الوالدين فإنه رد للجميل، وإرضاء للجليل، وضمان لبر الولد".

 

وبدلًا من أن تقول: "الزنا فاحشة من كبائر الذنوب، ومن السبع الموبقات، ثبتت حرمتها بالقرآن والسنة، وهي انتهاك للأعراض، وتضييع للأنساب، وزرع للعداوات، وتقطيع للأواصر، وماء الزاني هدر لا ينتسب به ولد"...

قل: "إياكم والفاحشة؛ فإنها مغضبة لله، ونقصان للمروءة، وظلم للولد، وشقاء في الدارين".

 

وبدلًا من أن تقول: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه تقرُب إلى ربكم، وسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، وهو ديدن الصالحين، وطريق الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة"...

قل: "من أراد رضا الله ومحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وسلوك طريق المعالي فعليه بقيام الليل".

 

فجميع ما سبق "كله": كلام جميل؛ فهو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو نصح للمسلمين، لكن لعلك لاحظت أن بعضه أجمل من بعض، وأكثر منه اختصارًا، وأدعى للوصول إلى العقل والقلب...

فإن تخليت عن النمطية في خطبتك وأصبحت من المجددين، انجذبت إليك الجموع، وتلاقت معك القلوب، واقتنعت بكلامك العقول، فبلغت بغيتك من أفئدتهم وأفهامهم.

 

رابعًا: كن حصيفًا حكيمًا، لكن لا تكن جبانًا:

فبدلًا من أن تهاجم حكومة بلدك فتزرع الفتن وتبذر بذور الشقاق وتجلب لنفسك المتاعب، كن حصيفًا ذكيًا واطرح النموذج الإسلامي الصحيح في الأمر المراد، فإن أدركه الناس وآمنوا بعدم صلاحية سواه، استطاعوا أن يُفرِّقوا بين الخطأ والصواب وبين القبيح والحسن، فإذا بهم يدركون -وحدهم دون قيادة مباشرة منك- أن كل ما شذ عن الصورة الإسلامية التي رسمتها لهم قيد أنملة هو شنيع فظيع مريع.

 

فبدلًا من أن تهاجم الحكومة التي سمحت بالاختلاط في المدارس -منذ عقود- هجومًا مباشرًا، رسِّخ في عقول الناس أن الشر كله في الاختلاط المستهتر وأن الإسلام يؤكد على حرمته... حتى يأتي الوقت المناسب لاقتلاع تلك الفتنة.

وبدلًا من أن تقيم الدنيا لأن امرأة قد وليت أمر قضاء أو وزارة -وقد سبقتها كثيرات-، بيِّن للناس ووضِّح مكان المرأة الطبيعي، ورسالتها الأصلية، وما وضع الله -عز وجل- لعملها من ضوابط... حتى تجعلها قناعة بين الناس، إلى أن يأذن الله بالإصلاح.

 

اللهم إلا أن يستجد أمر سوء جلل تخشى أن يستقر في المجتمع -كما استقر غيره-، فساعتها احتسب نفسك، وقم لله قومة لا تخاف فيها لومة لائم، وانفض عنك كل جبن وكل وهن.

 

خامسًا: كن ميسرًا، ولا تكن معسرًا:

أتظن أن تشديدك في غير موضع التشديد، ورفعك لصوتك بالتهديد، والمبالغة في الزجر والوعيد، يرفع قدرك عند الناس فيعدُّوك رافع راية الشريعة ومقيم حدود الإسلام؟ أقول: كلا، بل إنك ستُنفِّرهم، ليس منك وحدك، بل من الدين ذاته!

 

إن اليسر والسماحة من معالم الدين الإسلامي وقواعده الأصيلة، ولست في حاجة -أخي الخطيب- أن أُذكِّرك بقول الله -تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقول عائشة: "ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا أخذ أيسرهما"([4])، يحفظه كله الناس.

 

فإن خيِّرت أنت بين أمرين كلاهما حلال مباح، فلا تأمر الناس إلا بالأيسر منهما، فإن تكلمت عن قيام الليل فلا تقصره على جوف الليل، بل قل: "وقته من بعد صلاة العشاء إلى قبيل الفجر، وأفضل وقته هو جوف الليل"؛ فلَأنْ يقيم أول الليل خير من ألا يقيمه أصلًا.

 

وإن سألتك متبرجة عن حكم الخمار الذي يكشف الوجه من المرأة، فلا تقل: "هذا غير كاف لأن الوجه عورة"، بل قل: "هو خطوة جيدة على الطريق الصحيح، وربما ترقيتِ في المستقبل لتلبسي النقاب".

 

وإن جاءك من كان تاركًا للصلاة أو للصيام تائبًا، فلا تقل له: "يجب عليك أن تعيد ما فاتك من صيام أو صلاة"، ولكن قل: "إن التوبة تجُبُّ ما قبلها، فأحسن فيما يستقبل، وأكثر الاستغفار مما فات".

 

وليكن نصب عينيك ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الرجل الذي جاءه فقال: هلكتُ، يا رسول الله، فسأله: "وما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: "هل تجد ما تعتق رقبة؟" قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا، قال: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟" قال: لا، قال: ثم جلس، فأُتِي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر، فقال: "تصدق بهذا" قال: أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: "اذهب فأطعمه أهلك"([5])، فهذا فعله -صلى الله عليه وسلم- مع مرتكب كبيرة!

 

وإذا كنت على منبرك فقلت: ستدخل النار إن عصيت، فقل معها: وستدخل الجنة إن أطعت... وإن عدَّدت من محارم الله كذا وكذا، فقل بعدها: "وما عدا ذلك كله حلال طيب"، أو قل: "وأصناف الحلال أكثر ألف مرة من أنواع الحرام"...

 

وليس معنى هذا ألا تأمر بالمعالي والترقي وألا تستخدم الترهيب مع الترغيب، كلا، بل معناه ألا تختار دائمًا الأصعب والأشق، وأن عليك بالتيسير والتبشير ما أمكنك.

 

سادسًا: كن فصيحًا، ولا تكن عييًا:

أذكر عندما كنت طفلًا صغيرًا أنني كنت أنبهر بأحد خطباء الجمعة من كثرة القصص والـمُلح التي يوردها... ولقد قدَّر الله لي بعد مرور سنوات كثيرة أن أستمع إلى نفس الخطيب وهو يخطب الجمعة وأنا أتوقع أن يبهرني كما كان يبهرني صغيرًا، ولقد وجدته على قدر كبير من التمكن الخطابي، إلا أنه أزعجني وأغضب أذني وأثار غيرتي على اللغة العربية كثرةُ أخطائه النحوية والصرفية؛ إذ كان يرفع المنصوب وينصب المرفوع ويحرك المجزوم ويشتق من الألفاظ ما هو أقرب للعامية منه إلى الفصحى! والتي أضاعت رونق خطبته.

 

زميلي الخطيب: إن مَثَل من يجهد في تحضير خطبة متقنة، ثم يطرحها بلغة ركيكة وأسلوب عقيم، كمثل رجل دفع المال الكثير في شراء هدية قيمة ثم لفها في ورقة متسخة بالية، أليس يعكر هذا صفو هديته ويحط من شأنها؟!

 

أما غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى رجلًا شعثًا قد تفرق شعره وقال: "أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره؟!"، ورأى رجلًا آخر وعليه ثياب وسخة، فقال: "أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه"([6])، فقد يحمل هذان الرجلان في قلبيهما من الإيمان والتقى الكم الكثير، لكن هذا وحده لا يكفي، حتى يجتمع مع جميل الجوهر روعة المظهر... فكذلك الخطبة الـمُعدَّة المتقنة لا بد أن يزيِّنها مع جيد مضمونها، ثمينُ لغتها.

 

بل إني لا أبالغ حين أقول: إن الخطبة المتوسطة الإعداد إذا ما أُلقيت بلغة جزلة بليغة وبأسلوب مشوق أخَّاذ، عوَّض ذلك كثيرًا من التقصير في إعدادها، وأنتجت ثمرتها في عقول وقلوب المستمعين خاصة المثقفين منهم، وعلى العكس؛ فإن الخطبة المكتملة الإعداد المتكاملة العناصر والنصوص إذا ما ألقيت بلغة ركيكة وبأسلوب متواضع، ضيَّع ذلك كثيرًا من رونقها وأفقدها جزءًا غير يسير من قيمتها!

 

فتعلم لغتك؛ لغة القرآن، وأتقن أساليبها، واستكشف أسرارها، وتفنن في استغلالها، وجوِّد وأصقل أسلوب إلقائك، تضمن قدرًا عظيمًا من تأثيرها على مخاطبيك.

 

سابعًا: عش الواقع، ولا تعش في برج عاجي:

كن ملتحمًا بالواقع، متابعًا لأحداثه ومستجداته، وخذ الدرس من القرآن الذي حدَّث المسلمين وهم مستضعفون عن أمة خارج صراعهم كلية، قائلًا: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم: 2-4]، فلا تكن منعزلًا في برج عاجي، تُنظِّر من وراء ستار وتشير على استحياء تخاف أن تخرج من خلف الحجاب!

 

وإني لأذكر ذلك العالم الذي رأيته بعيني على إحدى الشاشات وقد سئل: ما حكم الشرع في "الأفلام السينمائية"؟ فنطق العالم قائلًا: "إن كانت هذه الأفلام هادفة، وخلت من المحرمات فهي من المباحات"! وكنت أود أن أسأل هذا العالم سؤالًا ملحًا: وأين هي تلك الأفلام الهادفة؟! وهل يخلو شيء من أفلام اليوم من المتبرجات ومن مشاهد الفراش ومن المفاهيم التي تتعارض مع أصول الإسلام؟! وما حكم الإسلام في التمثيل؟ والجواب لكل من له خبرة -ولو قليلة- بالواقع المعاش: أن جميع تلك الأفلام يضج بالمنكرات وبالموبقات! ولو اقترب عالِمنا من الواقع لعرف، وما داؤه -إن أحسنا به الظن- إلا الانعزال عن الواقع والهروب منه...

فإياك أن تكون مثله، فتحكم على وهْم، وتُنظِّر في الخيال، وتبني قصرًا على أمواج البحر!

***

 

أخي الخطيب: إنك إن طبَّقت هذه البنود -مع بنود أخرى ستأتيك في الجزء الثاني بإذن الله- قَبِلتْ الجماهير كلامك، وفتحت لك القلوب والعقول تستقبل -محبة راضية- ما تقول.

 

----

([1]) البخاري (2563)، ومسلم (1504).

([2]) البخاري (750).

([3]) البخاري (4847).

([4]) البخاري (3560)، ومسلم (2327).

([5]) البخاري (1936)، ومسلم (1111).

([6]) أبو داود (4062)، والنسائي (5236)، وصححه الألباني (الصحيحة: 493).

 

أيها الخطيب: كُنْ، ولا تكن (2/2)

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات