الخطيب وفن ضرب الأمثال (2/2)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: تدريب

اقتباس

وهكذا، فالخطيب الناجح هو من يستطيع بكلماته وتمثيلاته أن يصل إلى جذور وأصول المشاعر والأحاسيس والعواطف داخل قلوب جمهوره فيُحْكِم عليها قبضته، ثم يوجهها الاتجاه الذي يريد؛ استنفارًا أو تشويقًا أو ترقيقًا أو تخويفًا...

 

 

 

إن سألتني ما هو أسرع طريق إلى العقول؟ أجبتك: هو ضرب الأمثال، وإن أعدت السؤال: فما هو أروع أسلوب للتأثير في القلوب؟ قلت لك: هو ضرب الأمثال، وإن استفهمتني: وكيف أصل إلى أعماق عواطف وأحاسيس المخاطَبين؟ جاوبتك: بضرب الأمثال...

 

فمن الأدوات الإقناعية التي ينبغي للخطيب الناجح إتقانها وتطويعها أداة "ضرب الأمثال"، وقد ذكرنا في الجزء الأول من هذا البحث بعض فوائدها وخصائصها، وأشرنا أنه ينبغي على الخطيب قبل صعوده المنبر أن يُعِدَّ ويستحضر الأمثال التي سيضربها لكل فضيلة يروج لها، ولكل رذيلة ينهى عنها، ولكل خفية يريد بيانها... وأنه إن فعل ذلك أكسب خطبته قوة إقناع وروعة بيان، ونفى عن سامعيه الملل والضجر، ووصل بكلماته إلى جميع القلوب والعقول، للعالم والأمي وللصغير والكبير.

 

وقد سبق وأن قدمنا ستًا من وسائل وطرائق استخدام "ضرب الأمثال" في الأداء الخطابي والدعوي، وهاك بعض طرائق أخرى لاستخدام تلك الأداة الإقناعية نُتِم بها ما بدأنا: 

 

سابعًا: حرِّك عواطف جمهورك:

من المعلوم أن أقرب طريق إلى إقناع أغلب السامعين والمتلقين هو عواطفهم وقلوبهم -وليس عقولهم- لذلك فإن الخطيب الناجح هو الذي يعمل على التأثير في القلوب، والذي يخاطب العواطف؛ يثيرها حينًا حتى تغتلي غضبًا، ويرققها حينًا حتى تشف وتدمع وتئن شفقة وحزنًا...

 

ولن يجد الخطيب للتأثير في المشاعر والعواطف والأحاسيس أداة أنجح ولا أروع ولا أسرع من ضرب الأمثال؛ فإذا جاء يتحدث -مثلًا- عن دماء المسلمين ومآسيهم، رأيته يضرب الأمثال المؤثرة "لمسلم يذبح كأنه شاة، ولطفل جائع حتى بدت أضلعه كقضبان سجَّان، ولثكلى وأرملة بكتا الدم بدل الدموع، ولبيوت غدت أطلالًا وأثرًا بعد عين، ولظالم بغى عليهم وتمادى حتى أشبه فرعون في جبروته"... وهكذا حتى تثور النفوس نخوة وغيرة.

 

وإذا ناظر من ينادون بالسلام والتطبيع مع إسرائيل! ضرب المثال قائلًا: "إن اقتحم لصوص منزلك وسكنوه، وقتلوا ابنك وانتهكوك عرض زوجتك واستولوا على مدخراتك واستخدموا ابنتك، ثم وهبوك حجرة من منزلك، وطالبوك بالعيش في سلام ووئام! فهل تستجيب؟!".

 

وإذا تحدث عن الشهادة وأجر الشهداء عند الله صوَّر لهم مشهد الطير الأخضر وهي تحمل في حواصلها أرواح الشهداء ثم تسرح في الجنة ثم تأوي إلى قناديل معلقة في العرش، ثم أمَّنهم من ألم الموت بأنه «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة»([1])، ثم صَوَّر لهم مشهد الحور العين وهي تسعى إلى استقبال الشهيد تنشد له الأناشيد... وهكذا حتى تهتز القلوب حرصًا على الشهادة.

 

وإذا تحدث عن الجنة أبدع في إظهار مفاتنها وفي تنعم ساكنيها، وحبذا لو ركز في وصفه على ما حُرم منه المجتمع الذي يخطب فيه؛ فإن كان يخطب في فقراء لا يجدون ما يأكلون ولا ما يلبسون حدَّثَهم عن الغلمان المخلدون الذين يطوفون على أهل الجنة بصحاف الطعام، وعن أشجار الجنة التي تُقطَّع منها الحلل لأهلها، وإن كانوا من الأغنياء حدثهم عن بُعد الأسقام عن أهل الجنة وخلودهم فيها وعدم فنائهم... وهكذا حتى تسكن الجوارح وتشتاق القلوب وتحن النفوس إلى الجنة...

 

وهذا ما فعله القرآن الكريم مع البشر، يحرك العواطف ويثيرها تحسرًا وتندمًا وخذلانًا على الأجر الضائع لمن راءى الناس: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) [البقرة: 266]، قال ابن عباس: "هذا مثل ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها"([2]).

 

وما أشد حسرة الكافرين على أعمالهم يوم القيامة حين يبصرونها وقد ذهبت هباءً: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) [النور: 39]

 

ومرة أخرى يثيرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استنفارًا لقراءة القرآن والعمل به، ليكون كالأترجة لا كالريحانة ولا كالحنظلة، قائلًا: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر»([3]).

 

وهكذا، فالخطيب الناجح هو من يستطيع بكلماته وتمثيلاته أن يصل إلى جذور وأصول المشاعر والأحاسيس والعواطف داخل قلوب جمهوره فيُحْكِم عليها قبضته، ثم يوجهها الاتجاه الذي يريد؛ استنفارًا أو تشويقًا أو ترقيقًا أو تخويفًا...

 

ثامنًا: قارن ليتضح الفارق أو التناقض:

لقد قالوا: "الضد يظهر حسنه الضد"، وإنما تستبين الأمور بأضدادها، لذا فإذا أردت -أيها الخطيب- أن تتضح المعاني وضوح الشمس بل وتتألق في الأفهام تألقًا، فعليك بالمقارنة بين الأضداد لتستبين الخصال، وخير ما يدعمك وأنت تفعل ذلك أداة "ضرب الأمثال".

 

فما كان ليتضح الفرق بين المنفق والبخيل هذا الوضوح المبهر لولا هذا المثال النموذجي: «مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه، حتى تغشي أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت، وأخذت كل حلقة مكانها» قال: فأنا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول بإصبعه في جيبه: «فلو رأيته يوسعها ولا توسع»([4]).

 

وكذا الفرق بين حال المؤمن وحال الكافر مع البلاء: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها، حتى يأتيه أجله، ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة»([5]).

 

والفارق الضخم بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة ما كان ليتبين هذا التبين أمام العيون لولا هذا المثال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم: 24-26].

 

وقل مثل ذلك مقارنًا بين الجليسين؛ الصالح والطالح: «إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة»([6]).

 

وهكذا ينبغي للخطيب أن يصنع؛ فيقارن -مثلًا- حال المتواضع والمتكبر ضاربًا مثالًا بالنجم المتألق والكوكب المعتم... ويقارن بين التقي والشقي ضاربًا المثل بالماء العذب والماء المالح... ويقارن أحوال الإنسان الإيمانية من قوة وضعف بالقمر حال كونه بدرًا ومحاقًا... ولن يعدم الخطيب الأريب ما يضرب به أمثلة المقارنة، وإن أعجزه مثال يضربه من واقعه فليلجأ إلى أمثلة القرآن والسنة ففيهما من ذلك معين لا ينضب.

 

تاسعًا: جسِّد ما لا جسد له:

كثيرة هي الأشياء الغامضة والمبهمة التي يصعب فهمها على عوام الناس، ومن مهام الخطيب أن يجلِّي تلك الغامضات ويقرِّب تلك المبهمات إلى عقولهم، وإن أنجح الطرق التي يصنع بها ذلك وأيسرها على المخاطَبين: "ضرب المثل"، وهاك بعض نماذج لتلك الغوامض والمبهمات وكيفية الاستعانة بضرب المثال في تجليتها.

 

(1) المعنوي في حاجة إلى جسد:

يصعب على كثير من الناس فهم الحقائق المعنوية الرمزية المجردة، وحتى إن وعتها عقولهم فما شعرت بها أرواحهم ولا سكنت -آمنة- وجدانهم، لكنك -أيها الخطيب- لو ضربت لها مثلًا بشيء حسي، فجعلت للمعنى المعنوي جسدًا يُرى ويُلمس، سَهُل عليهم فهمها وإدراكها.

 

يؤيد ذلك الزمخشري فيقول: "ولضرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد"([7]).

 

ويوافقه الزركشي على ذلك ويزيد الأمر جلاءً حين يقول: "والمثل أعون شيء على البيان؛ فالأمثال تصور المعاني تَصَوُّرَ الأشخاص، فإن الأشخاص والأعيان أثبت في الأذهان؛ لاستعانة الذهن فيها بالحواس، بخلاف المعاني المعقولة فإنها مجردة عن الحس ولذلك دقت"([8]).

 

فمثلًا: تكفير الصلاة للذنوب شيء معنوي، فانظر كيف صنع النبي -صلى الله عليه وسلم- له جسدًا حين قال: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا»([9]).

 

وكونه -صلى الله عليه وسلم- "خاتم النبيين" شيء يحتاج إلى جسد أيضًا، وقد قدَّمه -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»([10]).

 

والصدود عن الإسلام شيء معنوي، وقد خلق الله -عز وجل- له جسدًا حين قال: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدثر: 49-51]، فقد رأيت الصدود -الذي هو داخل القلب- رأي العين؛ فرارًا وهربًا وخوفًا ورعبًا.

 

وضرب ابن القيم مثالًا فجسَّد فيه معنويًا فقال: "تولد الطاعة ونموها وتزايدها كمثل نواة غرستها فصارت شجرة، ثم أثمرت فأكلت ثمرها وغرست نواها، فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره وغرست نواه، وكذلك تداعي المعاصي، فليتدبر اللبيب هذا المثال"([11]).

 

(2) تصوير موجود لم يُرَ:

نسمي ما يجب الإيمان به وإن لم نره: غيبًا، ولن يستقر هذا الغيب داخل القلب حتى نصوِّره -أيضًا- في صور المحسوس الملموس.

 

فكلاليب جهنم غيب، لكن كيف يؤتي التخويفُ بها نتيجته ونحن لا نعرف كنهها؟! لذا فقد ضرب لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المثال قائلًا: «وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟»، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: «فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم»([12]).

 

والموت حق، لكنه لا يَقْرب أبدًا أهل الجنة وأهل النار، لكنهم قد لا يتصورون ذلك، فيصوِّره الله لهم، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: وهل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت»([13]).

 

وكل غائب عن عقول السامعين ينبغي للخطيب أن يصنع له جسدًا لتراه عيون من لم تدركه عقولهم.

 

(3) إحياء الميت:

ونقصد بذلك تصوير الجمادات وما لا روح فيه بالحي الذي ينبض قلبه، أو تصوير الشيء الساكن بالمتحرك المتحول عن مكانه... وذلك بغرض دقة تصوير المعاني داخل أذهان السامعين.

 

وذلك في القرآن كثير، فمنه الجدار صاحب الإرادة: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) [الكهف: 77]، ومنه الغضب الذي يملك زمام أمره فيسكت أو يثور: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) [الأعراف: 154]، ومنه الخوف الذي يأتي ويذهب حسبما شاء: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ) [هود: 74].

ومنه كذلك الشيب الذي يشتعل اشتعال النار: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) [مريم: 4]، والنهار الذي يتنفس تنفس الأحياء: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) [التكوير: 18]...

 

فللخطيب -بل عليه- أن يُحيي المعاني الميتة، وأن يُحرك الجبال الراسية، وأن يضيء الليالي الشاتية... مستعينًا في ذلك بأداة ضرب الأمثال.

 

عاشرًا: تصوير المشاهد التكاملية والتوضيحية:

فكثيرًا ما يحتاج الخطيب في مساعيه الإقناعية إلى نقل مشاهد تكاملية يعرض فيها الصورة الكاملة الشاملة لشيء ما، أو يوضح فيها أمرًا متشابكًا معقدًا، وهذا أمر يطول إن استخدمنا فيه الكلمات المجردة، لكنه شيء ميسور سهل إن استعننا فيه بأداة "ضرب الأمثال".

 

ولننظر الآن لنتعلم من قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلم- كيف فعلها، فها هو -صلى الله عليه وسلم- يحيك ويحبك مشهدًا توضيحيًا يصوِّر حاله -صلى الله عليه وسلم- مع البشر، فيقول: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها»([14])، فكأننا نرى هذا المشهد المؤثر رأي العين؛ النار متقدة والفراش المنخدع بدفئها يسري إليها مندفعًا مشدوهًا قد تركزت عليها عيونه فكأنه لا يرى سواها، وهناك رجل شفوق كله حرص على إبعادهم عنها يحاول جاهدًا أن يمنعهم ويجذبهم بعيدًا، وهم يتفلتون فيحترقون... فهذا حاله -صلى الله عليه وسلم- مع البشرية!

 

وهذا مشهد آخر أحكمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لنفس الغرض: «مثلي ومثل ما بعثني الله، كمثل رجل أتى قومًا فقال: رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجا النجاء، فأطاعته طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم»([15]).

 

أما هذا فمشهد تكاملي يعرض فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- صورة شاملة لجميع ردود أفعال البشر تجاه بعثته ورسالته -صلى الله عليه وسلم-: «إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى، والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»([16]).

 

وهذي صورة تكاملية شاملة أخرى لأحوال الناس مع الدنيا: «إنما الدنيا لأربعة نفر، عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء»([17]).

 

فلو أقام الخطيب مشاهد تصف وتروي وتمثل وتوضح ما يريد إقراره وتقريره واستيعابه لكان أروع وأمتع وأنجع.

 

وأخيرًا: التزيين للترغيب أو التقبيح للتنفير:

كثيرًا ما يحتاج الخطيب أن يزين للسامعين شيئًا من الخير ويحببهم فيه، أو يقبِّح في عيونهم شيئًا من الشر ويبغضهم فيه، وأقصر طريق لصنع ذلك هو "ضرب المثال"؛ فإنه يغنيه عن كثير كلام.

 

فالحور لؤلؤ بياضًا وصفاءً: (وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) [الواقعة: 22].

ويوسف -في عيون النسوة- ليس من البشر: (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف: 31].

 

والشجرة المحرمة هي عند إبليس "شجرة الخلد" فقد قال مزينًا: (يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه: 120]، وقد استجاب آدم -عليه السلام- لتزيينه.

 

والتقبيح كذلك؛ أفضل ما يقوم به هي أداة "ضرب المثال"، فكاتم العلم «حمار حُمِّل كتبًا»: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [الجمعة: 5].

ومن أوتي الهدى فرفضه «كلب يلهث»: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف: 175-176].

وكذا من وهب ثم رجع: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»([18]).

والربا جريمة خسيسة: «الربا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه»([19]).

 

فاضرب -أيها الخطيب- المثل الجميل المشوق المحبِّب لكل ما أردت الترغيب فيه، واضرب المثل المقزز المنفر المخوِّف لكل ما أردت الترهيب منه، يكن ذلك أبلغ من كثير كلام مجرد.

 

قبل الختام:

والآن -أيها الخطيب- فهناك أشياء كثيرة ينبغي أن تراعيها عند ضرب الأمثال، منها:

 

(1) عدم الإكثار من الأمثال الشعبية، أو ذكر الأمثال الساقطة والمبتذلة؛ فإن الأُولى تُفقِد الخطبة تفردها ورونقها، وتشبِّهها بكلام الناس على المقاهي وفي النوادي، وأما الثانية فلا تتفق مع عفة اللسان والمقام فوق المنبر، بل وتُسقط هيبة الخطيب من النفوس.

 

(2) حسن اختيار المثل: فلتحذر من ضرب مثال معقد صعب على الأفهام، يكون هو نفسه في حاجة إلى ما ييسره ويقرِّبه من العقول، أو مثال بعيد نادر غريب يحتاج إلى طويل تأمل لفهمه... فإن من خصائص الأمثال التيسير والوضوح والقرب من الأفهام.

 

(3) مع أن أفضل الأمثال وأحكمها وأعظمها عبرة على الإطلاق هي أمثال القرآن ثم أمثال السنة، لكن لا ينبغي أن تحصر نفسك -أيها الخطيب- في الأمثال القرآنية والنبوية فقط، فلا تضيق واسعًا، بل لك أن تستعين بأمثال العلماء والدعاة، وبأمثال تنتزعها أنت من الواقع المعاش، وأمثال تبتكرها ابتكارًا وتخترعها اختراعًا، وأمثال تقتبسها من كلام الناس تنتقي أحسنها...

 

(4) مطابقة المثال للغرض: فلا تضرب مثالًا لا ينطبق على الغرض المسوق من أجله، وهذا من أهم ما يراعى عند ضرب مثال ما، وإلا فَقَدَ المثال فائدته بل وأدى خلاف مقصوده؛ فشتت الأفهام وصرفها عن المعنى المراد.

 

 

--------

([1]) الترمذي (1668)، وابن ماجه (2802)، وصححه الألباني (الصحيحة: 960).

([2]) تفسير القرطبي (3/318)، الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة الثانية، 1384ه.

 ([3])البخاري (5020)، ومسلم (797).

([4]) البخاري (1443)، ومسلم (1021).

([5]) البخاري (5643)، ومسلم (2810).

([6]) البخاري (2101)، ومسلم واللفظ له (2628).

([7]) الكشاف للزمخشري (1/72)، بتصرف، دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة الثالثة 1407هـ.

([8]) البرهان للزركشي (1/488)، بتصرف، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي، الطبعة الأولى 1376هـ.

([9]) البخاري (528)، ومسلم (667).

([10]) البخاري (3535)، ومسلم (2286).

([11]) الفوائد لابن القيم (35)، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1393هـ.

([12]) البخاري (7437)، ومسلم (182).

([13]) البخاري (4730)، ومسلم (2849).

([14]) البخاري (6483)، ومسلم (2284).

([15]) البخاري (6482)، ومسلم (2283).

([16]) البخاري (79)، ومسلم (2282).

([17]) الترمذي (2325)، وأحمد (18031)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 3024).

([18]) البخاري (2589)، ومسلم (1622).

([19]) الطبراني في الأوسط (7151)، والمطالب العالية لابن حجر العسقلاني (2726)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1871).

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات