غناء

2022-10-05 - 1444/03/09

التعريف

تعريف الغناء في اللغة:

جاء في لسان العرب أن الغناء هو "كل من رفع صوته ووالاه، فصوته عند العرب غناء"(لسان العرب: 6-3309) والغناء من الصوت ماطرّب به قال حميد بن ثور: عجبت لها أنَّى يكون غناؤها فصيحاً ولم يغفر بمطقها فما (لسان العرب: 6-3310).

 

وجاء في المصباح المنير: تغزلّ بها، وغنىَّ بزيد: مدحه أو هجاه، وغنىَّ الحمام تغنة: صوّت.(المصباح المنير: 2-109 بتصرف يسير).

 

ويطلق الغناء: على الترنم الذي تسميه العرب (انظر الفتح: 2-442)، وعلى الحداء المعروف عند العرب وعلى مجرد الإنشاد: قال ابن الأثير في النهاية (انظر الفتح: 3-392) في حديث عائشة: وعندي جاريتان تغنيان بغناء يوم بُعاث (رواه البخاري 6973) أي تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث.

 

تعريفه في الاصطلاح الشرعي:

جاء تعريف الشرعي للغناء موافقا لعُرف اللغة في تسميته برفع الصوت وموالاته ويطلق كذلك على رفع الصوت وموالاته بطريقة التلحين والتطريب، وعلى هذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن"(رواه البخاري:1005).

 

ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "زينوا القرآن بأصواتكم"(رواه البخاري:4660، ومسلم:1321).

 

ومنها أن أبا موسى الأشعري، استمع النبي -صلى الله عليه وسلم- لصوته وأثنى على حسن الصوت وقال: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود" وقال له أبو موسى: لو أعلم أنك استمعت لحبرته لك تحبيراً - أي زينته وحسنته - ومنها أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يسمع إنشاد الصحابة وكانوا يرتجزون بين يديه في حفر الخندق: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أحداً. ومنها سماعه -صلى الله عليه وسلم- قصيدة كعب بن زهير وأجازه وغيرها كثير.

 

أما عند اصطلاح أهل الغناء والمتصوفة:...

 

الغناء هو رفع الصوت بالكلام الموزون المطرب المصاحب بالآلات غالباً، وعلى هذا فإن المتصوفة وأهل الغناء متفقون على الظاهر، غير أنهم يختلفون من جهة الباطن، وهو كون سماع الغناء عند المتصوفة يكون بطريقة التعبد والتقرب إلى الله تعالى.

 

وعلى هذا فإن الغناء المعروف عند العرب، ورفع الصوت وموالاته مع شيء من التطريب والتلحين ولم يكن معروفاً بضرب الكف أو القضيب أو غيرها من الآلات.

 

يقول شيخ الإسلام وإذا عرف هذا: فاعلم أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا بمصر والمغرب والعراق وخراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة، من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية إنما حدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه"(مسألة السماع والرقص، تحقيق عبدالحميد شانوفة: ص 30).

 

 

 

العناصر

1- معنى الغناء وأسماء الغناء في القرآن و السنة..

 

2- حكم الغناء في الإسلام.

 

3- عقوبة المستمع للغناء والمغنين.

 

4- حكم كسب المغني والمغنية والمتاجرين فيها.

 

5- آفات الغناء ومفاسده.

 

6- حكم الإنشاد.

الايات

1- قوله تعالى: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)[الأنعام:70].

 

2- قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال: 35].

 

3- قوله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)[الإسراء: 64].

 

4- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[الفرقان:72].قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)[القصص:55].

 

5- قال اللَّه تعالى: (الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[لقمان:1-7].

 

6- قوله تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ)[النجم:59-61].

 

 

الاحاديث

1- عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وعِندِي جارِيَتانِ تُغَنِّيانِ بغِناءِ بُعاثَ، فاضْطَجَعَ على الفِراشِ، وحَوَّلَ وجْهَهُ، ودَخَلَ أبو بَكْرٍ، فانْتَهَرَنِي وقالَ: مِزْمارَةُ الشَّيْطانِ عِنْدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فأقْبَلَ عليه رَسولُ اللَّهِ عليه السَّلامُ فقالَ: دَعْهُما، فَلَمّا غَفَلَ غَمَزْتُهُما فَخَرَجَتا، وكانَ يَومَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودانُ بالدَّرَقِ والحِرابِ، فَإِمّا سَأَلْتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وإمّا قالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقُلتُ: نَعَمْ، فأقامَنِي وراءَهُ، خَدِّي على خَدِّهِ، وهو يقولُ: دُونَكُمْ يا بَنِي أرْفِدَةَ. حتّى إذا مَلِلْتُ، قالَ: حَسْبُكِ؟ قُلتُ: نَعَمْ، قالَ: فاذْهَبِي. أخرجه البخاري: (٩٤٩)، ومسلم: (٨٩٢).

 

2- عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتي أقْوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ، والخَمْرَ والمَعازِفَ، ولَيَنْزِلَنَّ أقْوامٌ إلى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عليهم بسارِحَةٍ لهمْ، يَأْتِيهِمْ -يَعْنِي الفقِيرَ- لِحاجَةٍ، فيَقولونَ: ارْجِعْ إلَيْنا غَدًا، فيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، ويَضَعُ العَلَمَ، ويَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وخَنازِيرَ إلى يَومِ القِيامَةِ". أخرجه البخاري موصولا وصورته معلقاً بصيغة الجزم (٥٥٩٠). وفي رواية: "ليشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها، يُعزَفُ على رءوسِهِم بالمعازفِ، والمغنِّياتِ، يخسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأرضَ، ويجعَلُ منهمُ القِرَدةَ والخَنازيرَ". رواه ابن ماجه (٣٢٦٣)، وصححه الألباني.

 

3- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَوْتانِ مَلْعُونانِ في الدنيا والآخرةِ: مِزْمارٌ عندَ نِعْمَةٍ، ورَنَّةٌ عندَ مُصِيبَةٍ". أخرجه البزار: (٧٥١٣) واللفظ له، والديلمي في الفردوس: (٣٧٧٨)، والضياء في الأحاديث المختارة: (٢٢٠٠)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (٣٨٠١).

 

4- عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللهَ حرَّم عليَّ -أو حرَّم-؛ الخمرَ، والميسِرَ، والكُوبةَ. قال: وكلُّ مسكرٍ حرامٌ قال سفيان: فسألتُ عليَّ ابنَ بذيمةَ عن الكُوبةِ، قال: الطَّبلُ. رواه أبو داود: (٣٦٩٦)، وصححه الألباني.

 

5- عن نافع أنَّ ابنَ عُمَرَ سَمِعَ صَوتَ زَمّارَةِ راعٍ، فوَضَعَ إِصبَعَيهِ في أُذُنيهِ، وعَدَلَ راحِلَتَه عن الطَّريقِ، وهو يقولُ: يا نافِعُ، أتَسمَعُ؟ فأقولُ: نَعَمْ، فيَمضي حتى قُلتُ: لا، فوَضَعَ يَدَيهِ، وأعاد راحِلَتَه إلى الطَّريقِ، وقال: رَأيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وسَمِعَ صَوتَ زَمّارَةِ راعٍ، فصَنَعَ مِثلَ هذا. أخرجه أبو داود: (٤٩٢٤)، وابن ماجه: (١٩٠١)، وأحمد: (٤٥٣٥) واللفظ له وقال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب (٤٥٣٥): حسن.

 

6- عن أبي أمامة، رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) رواه الترمذي: (٣١٩٥)، وضعفه الألباني، وقال ابن باز: وهذا الحديث، وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلي ضعيف إلا أن للحديث شواهد ومتابعات.

 

الاثار

1- سئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) فقال الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات"(تفسير القرطبي:1-7).

 

2- قال عبد الله بن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب "(تفسير القرطبي:1-7).

 

3- قال الحسن : (لَهْوَ الحَدِيثِ) : المعازف والغناء "(تفسير القرطبي:1-7).

 

4- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : الدف حرام والمعازف حرام والكوبة حرام والمزمار حرام (أخرجه البيهقي:10-222).

 

5- عن سعيد بن المسيب قال: "إني لأبغض الغناء وأحب الرجز"(أخرجه عبد الرزاق في المصنف:11-19743، وقال الألباني: سنده صحيح).

 

6- قال قتادة: في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال: "والله لعله لا ينفق فيه مالًا، ولكن شراؤه استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع"(تفسير ابن كثير).

 

7- قال القاسم بن محمد رحمه الله: "الغناء باطل، والباطل في النار"(تفسير القرطبي).

 

8- قال الإمام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: الغناء مبدؤه من الشيطان وعاقبته سخط الرحمن (غذاء الألباب).

 

9- قال الحسن البصري رحمه الله: "إن كان في الوليمة لهو -أي غناء ولعب-، فلا دعوة لهم"(الجامع للقيرواني).

 

 

القصص

1- ذكر ابن القيم رحمه الله أن رجلاً حضرته الوفاة، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، وقيل لأحد المحتضرين: قل لا إله إلا الله، فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة، ولم يقلها (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي:106) .

الاشعار

1- قال محمد إقبال شاعر الإسلام الفيلسوف الكبير:

لقد سئم الهوى في البيد قيس *** ومل من الشكاية والعذاب

يحاول أن يباح العشق حتى *** يرى ليلاه وهي بلا احتجاب

يريد سفور وجه الحسن لما *** رأى وجه الغرام بلا نقاب

فهذا العهد أحرق كل غرس *** من الماضي وأغلق كل باب

لقد أفنت صواعقه المغاني *** وعاثت في الجبال وفي الهضاب

(محمد إقبال فيلسوف الذاتية:272).

 

2- قال ابن القيم في قصيدة بديعة له يذم الغناء ومحترفيه:

فدع صاحب المزمار والدف والغناء *** وما اختاره عن طاعة الله مذهبا

ودعه يعش في غيه وضلاله *** على تنتنا يحيا ويبعث أشيبا

ففي تنتنا يوم المعاد نجاته *** إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا

سيعلم يوم العرض أي بضاعة *** أضاع وعند الوزن ما خف أو ربا

ويعلم ما قد كان فيه حياته *** إذا حصلت أعماله كلها هبا

دعاه الهدى والغي من ذا يجيبه *** فقال لداعي الغي أهلاً ومرحبا

وأعرض عن داعي الهدى قائلاً له *** هواي إلى صوت المعازف قد صبا

يراع ودف والصنوج وشادنٌ *** وصوت مغنٍ صوته يقنص الظبا

فما شئت من صيد بغير تطاردٍ *** ووصل حبيب كان بالهجر عذبا

(إغاثة اللهفان1-238).

 

3- قال ابن القيم رحمه الله:

حُبُّ القُرَانِ وحُبُّ ألحانِ الغِنَا *** في قلبِ عبدٍ ليس يجتمعانِ

والله ما سلِم الذي هو دأبه *** أبداً من الإشراك بالرحمن

وإذا تعلَّق بالسماع أصارَهُ *** عبداً لِكُلِّ فلانةٍ وفلان

ثقُل الكتاب عليهم لمــَّا رأوا *** تقييده بشرائع الايمان

واللهو خَفَّ عليهمُ لما رأَوْا *** ما فيه من طرَبٍ ومن ألحان

يا لَذَّةَ الفُسَّاقِ لستِ كلذةِ الــْ *** أبرار في عقلٍ ولا قرآن

(الكافية الشافية)

 

4- قال أحدهم:

تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة *** لكنه إطراق ساه لاهي

وأتى الغناء، فكالحمير تناهقوا *** والله ما رقصوا لأجـل الله

دف ومزمار ونغمة شادن *** فمتى رأيت عبـادة بملاهي

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا *** تقييده بأوامر ونواهي

سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى *** زجرا وتخويفا بفعل مناهي

ورأوه أعظم قاطع للنفس عن *** شهواتها، يا ذبحها المتناهي

وأتى السماع موافقًا أغراضها *** فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه

أين المساعد للهوى من قاطع *** أسبابه، عند الجهول الساهي

إن لم يكن خمر الجسوم فإنه *** خمر العقول مماثل ومضاهي

فانظر إلى النشوان عند شرابه *** وانظر إلى النسوان عند ملاهي

وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه *** من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي

واحكم فأي الخمرتين أحق بالتـ *** حريم والتأثيـم عند الله

 

5- قال أحدهم:

برئنا إلى الله من معشر *** بهم مرض من سماع الغنا

وكم قلت: يا قوم أنتم على *** شفا جرف ما به من بنا

شفا جرف تحته هوة *** إلى درك كم به من عنا

وتكرار ذا النصح منا لهم *** لنعذر فيهم إلى ربـنا

فلما استهانوا بتنبيهنا *** رجعنا إلى الله في أمرنا

فعشنا على سنة المصطفى *** وماتوا على تنتنا، تنتنا

 

متفرقات

1- قال الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الغناء والضرب على المعازف: "هل من عاقل يقول بأن الغناء حق؟ إنما يفعله عندنا الفساق"(تفسير القرطبي:14-55).

 

2- سئل الشافعي رضي الله عنه عن الغناء؟ فقال: "أول من أحدثه الزنادقة في العراق حتى يلهوا الناس عن الصلاة وعن الذكر"(الزواجر عن اقتراف الكبائر:153).

 

3- قال ابن القيم رحمه الله: "وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء فقال: الغناء ينبت النفاق بالقلب، لا يعجبني، ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق"(إغاثة اللهفان:210).

 

4- نص الإمام أحمد رحمه الله على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة، وأمكنه كسرها (إغاثة اللهفان:211).

 

5- حكى الطبري في تفسيره قائلاً: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: عُنيَّ به كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله؛ لأن الله تعالى عمّ بقوله: (لَهْوَ الْحَدِيثِ) - كما في قوله سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)- ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه حتى يأتي ما يدلّ على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك. وجاء عند الطبري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لهو الحديث الباطل والغناء. وقال قتادة عن لهو الحديث: اللهو الطبل"(تفسير الطبري).

 

6- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام... ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا"(مجموع الفتاوى:6-313).

 

7- قال ابن تيمية رحمه الله: "فاعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا مصر ولا المغرب ولا العراق ولا خراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية لا بدف ولا بكف ولا بقضيب وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية فلما رآه الأئمة أنكروه"(مجموع الفتاوى:3-309).

 

8- قال ابن تيمية رحمه الله: " المعازف هي خمر النفوس تفعل أعظم مما تفعله الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك ومالوا إلي الفواحش وإلى الظلم، فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الله ويزنون وهذه الثلاثة موجودة كثيرا في أهل سماع الأغاني، إن سماع الأغاني والموسيقى لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضلال والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر، فيجدون لذة كما يجد شارب الخمر، بل أكثر وأكبر"( مجموع الفتاوى:10-417).

 

9- قال ابن تيمية رحمه الله في بيان حال من اعتاد سماع الغناء: "ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به لا يحن على سماع القرآن، ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات وسكنت الحركات وأصغت القلوب" (مجموع الفتاوى:11/557-558).

 

10- قال ابن القيم رحمه الله: "وأعجب من هذا استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم، فأين هذا من هذا، والعجيب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم، فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان، وأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذه التسمية، ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولاستماعهما، أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى؟! فسبحان الله كيف ضلت العقول والأفهام"(مدارج السالكين1-493-494).

 

11- قال ابن القيم رحمه الله: "ويستحيل في حكمة الحكيم الخبير أن يحرمّ مثل رأس الإبرة من المسكر، لأنه يدعوا إلى كثرة الذي يدعو إلى المفاسد، ثم يبيح ماهو أعظم سوقا إلى المفاسد من الخمر وهو الغناء"(مدارج السالكين1-497).

 

12- قال ابن القيم رحمه الله: "ما اعتاد أحد الغناء إلا ونافق قلبه وهو لا يشعر، ولو عرف حقيقة النفاق لأبصره في قلبه، فإنه ما اجتمع في قلب عبد قط محبة الغناء ومحبة القرآن، إلا وطردت إحداهما الأخرى"(مدارج السالكين:٢-۱٢٤۱).

 

13- قال ابن الجوزي رحمه الله: "وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت، ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء، قد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها"(تلبيس إبليس:238).

 

14- قال أبو جعفر عند قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: "وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق وهو باطل، ويدخل فيه الغناء لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه"(تفسير الطبري).

 

15- قال أبو جعفر عند قوله تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: "وإذا مروا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مروا كراما. مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء"(تفسير الطبري).

 

16- قال الإمام أبو العباس القرطبي: "الغناء ممنوع بالكتاب والسنة" وقال أيضا: "أما المزامير والأوتار والكوبة (الطبل) فلا يختلف في تحريم استماعها ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك، وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج الشهوات والفساد والمجون؟ وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا تفسيق فاعله وتأثيمه"(الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي).

 

17- قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عند هاتين الآيتين ما نصه: "لما ذكر حال السعداء وهم: الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) الآية [الزمر:23] عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء والألحان وآلات الطرب"(تفسير ابن كثير).

 

18- قال ابن الصلاح: "الإجماع على تحريمه ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح الغناء"(إغاثة اللهفان لابن القيم-210).

 

19- قال ابن القيم رحمه الله: "ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)، فقال: والله الذي لا إله غيره هو الغناء -يرددها ثلاث مرات-، وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء.."(إغاثة اللهفان لابن القيم-219).

 

20- يقول ابن القيم رحمه الله: ومن مكايد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العقل والعلم والدين وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن وهو رقية اللواط والزنا وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى كاد به الشيطان النفوس المبطله وحسنه لها مكرا منه وغروراً وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت من أجله القرآن مهجوراً.

 

فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات وهدأت منهم الحركات وعكفت قلوبهم بكليتها عليه وانصبت انصبابة واحدة إليه فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان وتكسرواً في حركاتهم ورقصهم.. أرأيت تكسر المخانيث والنسوان ويحق لهم ذلك. وقد خالط خمارة النفوس ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق وأموال في غير طاعة الله تنفق. قضوا حياتهم لذة وطرباً واتخذوا دينهم لهواً ولعباً.. مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن. لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً ولا أزعج له قاطناً حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره.. سمعه تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت وعلى يديه فصفقت. وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت وعلى أنفاسه فتصاعدت.. فيا أيها الفاتن المفتون والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون هل كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد.. ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه ويميل إلى ما يشاكله (باختصار من كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1-224).

 

21- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي. وهو سماع المشركين قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) قال ابن عباس وابن عمر وغيرهما: التصدية: التصفيق باليد. والمكاء: الصفير. فكان المشركون يتخذون هذا عبادة.. وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك ولم يجتمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف.. ثم قال عن مستمع الغناء: وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلاً فإذا جاءت الصلاة صلى قاعداً أو ينقر الصلاة نقر الديك وهو يبغض سماع القرآن وينفر منه ويتكلفه.. ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد.. فهذه أحوال شيطانية وهو ممن يتناوله قوله تعالى: ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) [الزخرف: 36]، (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: ص 32 و38).

 

22- قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "لما ذكر حال السعداء وهم: الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) الآية [الزمر:23] عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء والألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) قال: هو والله الغناء". تفسير ابن كثير عند 6 و 7 من سورة لقمان.

 

23- قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله، ردا على ابن مطهر الشيعي في نسبته إلى أهل السنة إباحة الملاهي: قال: "هذا من الكذب على الأئمة الأربعة، فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو، كالعود ونحوه، ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف، بل يحرم عندهم اتخاذها". منهاج السنة النبوية: (3-439).

 

24- قال ابن الصلاح: "وأما إباحة هذا السماع وتحليله، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع. إلى أن قال: فإذا هذا السماع غير مباح بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين". فتاوى ومسائل ابن الصلاح: (2-499).

 

25- قال العلامة ابن باز رحمه الله: "زعم أبو تراب. تبعًا لابن حزم، أن قوله سبحانه: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6] الآية دليل على أن مشتري لهو الحديث من الأغاني والملاهي لا يستحق الذم إلا إذا اشتراها لقصد الضلال أو الإضلال، أما من اشتراها للترفيه والترويح عن نفسه فلا بأس في ذلك، والجواب أن يقال: هذه شبهة باطلة من وجوه ثلاثة:

الأول: أن ذلك خلاف ما فهمه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الآية الكريمة، فإنهم احتجوا بها على ذم الأغاني والملاهي والتحذير منها، ولم يقيدوا ذلك بهذا الشرط الذي قاله أبو تراب، وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم.

 

الوجه الثاني: أن ذلك خلاف ظاهر الآية لمن تأملها؛ لأن الله سبحانه قال: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فدل ذلك على أن هذا الصنف المذموم من الناس قد اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله بغير علم ولا شعور بالغاية، ولا قصد للإضلال أو الضلال، ولو كان اشترى لهو الحديث وهو يعلم أنه يضل به أو يقصد ذلك لم يقل الله -عز وجل-: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لأن من علم أنه اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله لا يقال له: إنه لا يعلم، وهكذا من قصد ذلك لا يقال: إنه اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم؛ لأن من علم أن غايته الضلال أو قصد ذلك قد اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بعلم وقصد، لا ليضل بغير علم، فتأمل وتنبه-أيها القارئ الكريم-يتضح لك الحق، وعليه تكون " اللام " في قوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لام العاقبة، أو لام التعليل، أي تعليل الأمر القدري. ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره، وعلى كونها للعاقبة يكون المعنى: أن من اشترى لهو الحديث من الغناء والمعازف، تكون عاقبته الضلال عن سبيل الله، والإضلال واتخاذ سبيل الله هزوًا، والإعراض عن آيات الله استكبارًا واحتقارًا، وإن لم يشعر بذلك ولم يقصده.

 

وعلى المعنى الثاني، وهو كونها لتعليل الأمر القدري، يكون المعنى: أن الله سبحانه قضى وقدر على بعض الناس أن يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله، وعلى كلا التقديرين فالآية الكريمة تفيد ذم من اشترى لهو الحديث، ووعيده بأن مصيره إلى الضلال والاستهزاء بسبيل الله، والتولي عن كتاب الله، وهذا هو الواقع الكثير، والمشاهد ممن اشتغل بلهو الحديث من الأغاني والمعازف، واستحسنها وشغف بها، يكون مآله إلى قسوة القلب والضلال عن الحق إلا من رحم الله.

 

وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة في مصادرها ومواردها على وجوب الحذر من وسائل الضلال والفساد والتحذير منها، حذرًا من الوقوع في غاياتها، كما نهى النبي عن شرب القليل الذي لا يسكر، حذرًا من الوقوع في المسكر، حيث قال-عليه الصلاة والسلام: ما أسكر كثيره فقليله حرام ونهى عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما وقع فيه بعض المشركين من عبادة الشمس عند طلوعها وغروبها، ونظائر ذلك كثيرة يعرفها من له أدنى علم بالشريعة المطهرة، والله المستعان.

 

الوجه الثالث: أنه لو كان الذم مختصًا بمن اشترى لهو الحديث لقصد الضلال أو الإضلال، لم يكن في تنصيص الرب -عز وجل- على لهو الحديث فائدة؛ لأن الذم حينئذ لا يختص به، بل يعم كل من فعل شيئًا يقصد به الضلال أو الإضلال، حتى ولو كان ذلك الشيء محبوبًا إلى الله -سبحانه وتعالى-، كمن اشترى مصحفًا يقصد به التلبيس على الناس وإضلالهم، فإن المصحف محبوب إلى الله لاشتماله على كلامه -عز وجل-، ولكنه سبحانه لا يحب من عباده أن يشتروه للتلبيس والإضلال، وإنما يشترى للاهتداء والتوجيه إلى الخير، وقد اعترف ابن حزم وأبو تراب بهذا الوجه، وزعما أن الآية تختص بهذا الصنف، وهو خطأ بين، وعدول بالآية عن معناها الصحيح، وإضاعة لمعناها الأكمل". موقع ابن باز.

 

24- قال ابن القيم رحمه الله: " أن قول الصحابة أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله -تعالى- في كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول علمًا وعملًا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل، ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم ونحو ذلك، مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة، يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث.

 

ولهذا قال ابن عباس: "لهو الحديث الباطل والغناء"، فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما، والغناء أشد لهوًا وأعظم ضررًا من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنا، ومنبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل؛ لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه

 

إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه، لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا، وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرًا، كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرًا، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئًا استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرًا، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم، يوضحه أنك لا تجد أحدًا عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علمًا وعملًا، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن، عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ، ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه.

 

والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41]".

 

25- قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الإغاثة لما ذكر هذا الأثر ما نصه: (فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب، من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا، بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة، لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطبب الناس.

 

فاعلم أن للغناء خواص، لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه: أنه يلهي القلب، ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا؛ لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ، وهو جاسوس القلب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب على محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة؛ فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد.

 

فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبة الذباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين)، ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:

 

أتذكر ليلة وقد اجتمعنا على *** طيب السماع إلى الصباح؟

ودارت بيننا كأس الأغاني *** فأسكرت النفوس بغير راح

فلم تر فيهم إلا نشاوى سرورا والسرور هناك صاحي

إذا نادى أخو اللذات فيه *** أجاب اللهو: حي على السماح

ولم نملك سوى المهجات شيئًا *** أرقناها لألحاظ الملاح

 

وقال بعض العارفين: "السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم".

 

وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش. وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقًا، فما للنفاق حقيقة.

 

وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان -كما سيأتي- فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا.

 

وأيضًا فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرًا، أو يظهر النسك فيكون منافقًا، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة، وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق.

 

وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل: قول بالحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن. والنفاق قول الباطل وعمل البغي، وهذا ينبت على الغناء.

 

وأيضًا فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه.

 

وأيضًا: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه وذلك عين النفاق.

 

وأيضًا: فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك.

 

وأيضًا: فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات. قال الضحاك: (الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب).

 

وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء؛ فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.

 

وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل القرآن، تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق".

 

 

الإحالات

1- تحريم آلات الطرب؛ للإمام ناصر الدين الألباني.

 

2- الغناء في الميزان؛ للشيخ عبدالعزيز بن مرزوق الطريفي.

 

3- الغناء والمعازف في ضوء الكتاب والسنة وآثار الصحابة رضي الله عنهم؛ للشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني.

 

4- كتاب الغناء والأغاني في عصرنا؛ د. محمد بن لطفي الصباغ.

 

5- أحكام الغناء والمعازف وأنواع الترفية الهادف؛ أ. د. سالم بن علي الثقفي.