تجنب التقعر والتكلف في الكلام

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات:

 

د. عبدالغني بن أحمد جبر مزهر

 

 

عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((هلك المتنطعون. قالها ثلاثا)) [1].

 

 

قال تعالى: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86].

 

 

قال ابن زيد: أي لا أسألكم على القرآن أجرًا: تعطوني شيئًا، وما أنا من المتكلفين أتَخَرَّص وأتكلف ما لم يأمرني الله به [2].

 

قال ابن عطية: وما أنا من المتكلفين أي: المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله، فأنتحل النبوة والقول على الله[3]، لقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي في الدعوة والخطابة، والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الأمور كلها.

 

 

من هديه في الكلام ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلاً يفهمه كل من يسمعه"، وقالت: "كان يحدثنا حديثًا لو عده العاد لأحصاه"، وقالت: "إنه لم يكن يسرد الحديث كسردكم"[4].

 

 

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها))؛ إسناده صحيح [5].

 

 

 

قال في النهاية: "هو الذي يتشدَّقُ في الكلام، ويفخم لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًّا"[6].

 

وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ من أحبكم إلي، وأقربِكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون... )) الحديث"[7].

 

قال ابن الأثير: الثرثار الذي يكثر الكلام تكلُّفًا وخروجًا عن الحق، والثرثرة كثرة الكلام وترديده، والمتشدق المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز، ومثل المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم... والمتفيهق الذي يتوسع في الكلام ويفتح فاه به، مأخوذ من الفهق، وهو الامتلاء والاتساع [8].

 

وقال في معنى صرْف الكلام: ما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه على قدر الحاجة، وإنما كره لما يدخله من الرياء والتصنُّعِ، ولما يُخَالِطُهُ من الكذب والتزيُّد[9].

 

وعن معاوية رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الكلام تشقيق الشعر))[10] وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثًا[11].

 

قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد العاصمي في حاشيته على "كتاب التوحيد": "أي المتكلفون المتعمقون المتأنقون، الغالون في الكلام، المتكلمون بأقاصي حلوقهم، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً، أو الغالون في عباداتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، أو الذي يدخل الباطل في قالب الحق، لقوة فصاحته، وأما الفصاحة التي توضح الحق، وترد الباطل، وتظهر عظمة العلم والدليل فممدوحة"[12].

 

إن مما تمجه الأسماع، وتنفر منه القلوب في الخطب التكلف في الكلام، والتنطع فيه، فعلى الخطيب أن يترفع عن هذه الطريقة الكريهة في الخطابة، ومن ذلك قلقلة الحروف إلى حد التكلف والتصنع، وتجويد بعض العبارات وترتيلها كأنه يرتل القرآن العظيم، ومن ذلك التكلف في تقليده لبعض الخطباء المعروفين، وانتحال طريقتهم في الخطاب، وأسلوبهم في تفخيم الكلام أو ترقيقه، أو مد آخر الجمل.

 

وليترك الكلام يخرج على سجيته، والألفاظ تخرج على السليقة، ولا يستكره الألفاظ ويحشرها في غير مواضعها.

 

قال الجاحظ: "ومتى كان اللفظ كريمًا في نفسه، متخيرًا في جنسه، وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد، حُبِّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب... ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح ألفاظًا مسخوطة، ولا معانِيَ مدخولة، ولا طبعا رديًا، ولا قولاً مستكرهًا"[13].

 

ومن التشدق في الخطبة أن تكون الخطبة عبارات مُنَمَّقَة، وجملاً إنشائية فارغة من المحتوى، فليس وراء تلك الكلمات الرنانة موضوع أو طائل يخرج به المستمعون، لا موضوعا تربويًّا، ولا اجتماعيًا، ولا فقهيًا يخرج منه المصلون بفائدة.

 

[1] رواه مسلم (العلم 2670) ، وانظر : تفسير ابن جرير (10 / 608) .

 

[2] رواه مسلم (العلم 2670) ، وانظر : تفسير ابن جرير (10 / 608) .

 

[3] تفسير البحر المحيط (7 / 411) .

 

[4] رواه البخاري (المناقب - 3567) ومسلم (فضائل الصحابة - 2493) واللفظ للبخاري .

 

[5] رواه أحمد (2 / 165)، وأبو داود (الأدب - 5005)، والترمذي (الأدب - 2852)، بإسناد حسن، وقال الترمذي: حسن غريب.

 

[6] النهاية (2 / 73) .

 

[7] رواه أحمد (4 / 193) من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الحشني ، ورواه الترمذي (البر - 2018) من طريق مبارك بن فضالة حدثني عبد ربه بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن جابر به ، ومبارك بن فضالة صدوق يدلس ، لكن هذا صرح بالسماع ، وقال الترمذي : حسن غريب .

 

[8] النهاية (3 / 482).

 

[9] النهاية (3 / 24).

 

[10] رواه أحمد - (4 / 98) من طريق جابر بن عمرو بن يحيى - ولم أجده - عن معاوية رضي الله عنه به ، وانظر : الآداب الكبرى (2 / 89 - 91).

 

[11] رواه مسلم ، وقد تقدم .

 

[12] حاشية كتاب التوحيد (ص 152) .

 

[13] البيان والتبيين (2 / 3 - 4) .

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات