تذكرت الوباء الكبير[1]

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

 

د. محمود النوبي أحمد سليمان

 

ما يحدث الآن من نشرات وإحصاءات وتحذيرات من وباء كورونا (كوفيد 19)، ذكرني ببحث أعددته عن تأثر الشعر بواحد من الأوبئة الخطيرة التي حدثت في العصور الوسطى (الوباء الكبير أو الموت الأسود)، وأصاب العالم بأسره، ولم تقتصر العدوى في هذا الوباء القديم على البشر فقط، بل أصابت الحيوانات والطيور حتى السمك في الماء؛ فمات منه معظم خلق الله على الأرض.

 

 

 

فقلت في نفسي: إذا كان ذلك كذلك، فإن وباء كورونا (كوفيد 19) الذي أزعج العالم يعد هينًا إذا تم قياسه بالوباء الكبير الذي حدث في العصور الوسطى، وإليكم المقدمة النظرية لبحثي، وقد أوردت فيها بعض ما جاء في كتب التاريخ لوصف ذلك الوباء المميت:

 

"الوباء الكبير أو الفناء الكبير، اسم يطلق على طاعون سنة 749هـ - 1348م، الذي اجتاح الأرض من أقصاها إلى أقصاها؛ فكان مقدمة لتناقص أعداد السكان في الشرق الأدنى وفي أوروبا على حد سواء، وقد عرف المسلمون هذا الوباء الشامل باسم (الفناء الكبير)، على حين عرفه الغرب الأوربي باسم (الموت الأسود Black Death )"[2].

 

 

 

وقد عمَّ هذا الوباء جميع أجناس البشر وغيرهم من دواب الأرض، حتى حيتان البحر، وطير السماء، ووحش البر، وحكى المقريزي كثيرًا عن البلاد التي انتشر فيها، في آسيا وأوروبا وإفريقية، فضلًا عن جزر البحر المتوسط، وروى أنه كان يموت بالقاهرة ومصر في اليوم الواحد بسبب ذلك الوباء ما بين عشرة آلاف وعشرين ألفًا، وأن الفلاحين بأسرهم ماتوا، فلم يوجد من يضم الزرع، وأن المواشي هلكت، ومات صيادو السمك في دمياط، وهم في سفنهم والشباك بأيديهم مملوءة سمكًا ميتًا، وهكذا أقفر الريف من الزراع، وأقفرت المدن من سكانها؛ فتوقف بذلك النشاط العمراني، وتعطلت الصنائع، وعم الأحياء الحزن والألم والهم ..."[3].

 

 

 

ومما ورد من إحصاءات لمن مات في القاهرة وحدها؛ فقال ابن تغري بردي: "وحصرت عدة من صلي عليه بالمصليات التي خارج باب النصر وباب زويلة وباب المحروق وتحت القلعة، ومصلى قتال السبع تجاه باب جامع قوصون في يومين، فبلغت ثلاث عشرة ألفًا وثمانمائة، سوى من مات في الأسواق والأحكار، وخارج باب البحر وعلى الدكاكين وفي الحسينية وجامع ابن طولون، ومن يتأخر دفنه في البيوت ...وهم أضعاف ذلك"، حتى قالوا: إن عدة الأموات في يوم واحد قد بلغت عشرين ألفًا، وقد ضبط في شهر شعبان ورمضان، فبلغ عدة من مات فيهما من الناس، فكان نحو تسعمائة ألف إنسان، ووصف المؤرخون شوارع القاهرة بعد هذا الوباء، وما حدث بها من فناء، فقالوا: فما أهلَّ ذو القعدة إلا والقاهرة خالية مقفرة، لا يوجد بشوارعها مارٌّ، بحيث إنه يمر الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر، فلا يرى من يزاحمه، وعلت الأتربة على الطرقات، وتنكرت وجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصياح ...[4].

 

 

 

وقد وصف الشعراء ذلك الوباء؛ ليكون شعرهم بمثابة وثيقة تاريخية مؤكدة للأحداث؛ فقال ابن الوردي[5]:

إسكندرية ذا الوبا

سبع يمد إليك ضبعه[6]

صبرًا لقسمته التي

تركت من السبعين سبعه[7]

 

 

أما عن انتقال العدوى، فقالوا: إنها كانت تنتقل عن طريق الهواء؛ فلذلك إذا أصيب أحد في بيت، تبعه أهل البيت جميعًا واحدًا بعد واحد، حتى يفنوا جميعًا بعد ليلة أو ليلتين[8].

 

 

 

وشعرًا وصف الصفدي سرعة الإصابة بالطاعون، فقال[9]:

قد نغص الطاعون عيش الورى

وأذهل الوالد والوالده

كم منزل كالشمع سكانه

أطفأهم في نفخة واحده

 

 

 

صورة معبرة، سكان البيت مثل مجموعة من الشموع، أطفأهم الوباء بقوته في نفخة واحدة، ويؤكد هذا المعنى الصفدي أيضًا في قوله:

مصيبة الطاعون قد أصبحت

لم يخلُ منها في الورى بقعه

يدخل في المنزل لو أنه

مدينة أخلاه في جُمعه

 

 

 

ولو تتبعت ما وُصف به هذا الوباء في كتب التاريخ ما وفيت، ومما يختصر القول في ذلك عبارة لابن تغري بردي عن حال الناس في مصر، وقد ماتوا عن أموالهم وضياعهم وأراضيهم وأمتعتهم، فقال: "وإذا ورث إنسان شيئًا انتقل في يوم واحد لرابع وخامس"، فهو تعبير يدل على كثرة الموت، وانتقال الميراث سريعًا بين الورثة، فكل وريث يموت في اليوم نفسه ليرثه آخر بعده، "وأخذ كثير من الناس دورًا وأموالًا بغير استحقاق لموت مستحقيها"، ولهول ما ورد فيه، شعر بعض المؤرخين بالتقصير في الإخبار؛ فقال ابن تغري بردي بعدما حكى عن فجائع ذلك الوباء صفحات طويلة: "... ورأيت أنا من رأى هذا الوباء، فكانوا يسمونه الفصل الكبير، ويسمونه أيضا بسنة الفناء، ويتحاكون عنه أضعاف ما حكيناه"[10].

 

 

 

فهذه الأخبار وغيرها تدل على هول الحدث على الخاصة والعامة، الأغنياء والفقراء، حتى كبار رجال الدولةوالحكام، سلموا أمورهم إلى الله وحاول كل منهم التوجه إليه بإكرام الرعية والفقراء؛ قال الصفدي: "فلم يبق أحد إلا وغلب على ظنه أنه يموت بهذا الداء، واستعد الناس جميعًا، وأكثروا من الصدقات، وتحللوا وأقبلوا على العبادة"[11]؛ وشعرًا وصف ابن الوردي حال الخوف والقلق والتشتت الذي أصاب الناس فقال:

فهذا يوصي بأولاده

وهذا يودع إخوانه

وهذا يهيئ أشغاله

وهذا يجهز أكفانه

وهذا يصالح أعداءه

وهذا يلاطف جيرانه[12]

 

 

 

وإذا نظرنا إلى لغة الأبيات، فلتكرار اسم الإشارة (هذا) في أول كل شطر من الأبيات، ثم ضمير الغائب (الهاء) آخره في إشارة إليه - دلالة مؤكدة على التشتت والحيرة والقلق الذي أصاب الناس، ثم يأتي الفعل المضارع بعد كل اسم إشارة في الأبيات ليؤكد معنى استمرار الحال.

 

 

 

أما عن أعراض الطاعون، ومراحل تطوره، فقد توقف المؤرخون والشعراء عندها كثيرًا؛ فقالوا: كان يخرج خلف أذن الإنسان بثرة؛ فيخر صريعًا، ثم صار يخرج للإنسان كبة تحت إبطه؛ فيموت أيضًا سريعًا، وهذه الأعراض وجدت في الأسماك والحيوانات والطيور التي كانوا يجدونها ميتة في هذا الوباء، وأشد مراحله عندما "يحس الإنسان في نفسه بحرارة، ويجد غثيانًا، فيبصق دمًا ويموت عقيبه"[13].

 

 

 

شعرًا وصف ذلك الصلاح الصفدي فقال[14]:

تعجبت من طاعون جلق إذ غدا

وما فاتت الآذان وقعة طعنه

فكم مؤمن تلقاه أذعن طائعًا

على أنه قد مات من خلف أذنه

 

(جلق: اسم دمشق).

 

 

 

وقال:

رعى الرحمن دهرًا قد تولى

يجازي بالسلامة كل شرطِ

وكان الناس في غفلات أمر

فجا طاعونهم من تحت إبطِ

 

 

 

فالأبيات تشير إلى غفلة الناس عن هذا الوباء، فنرى فيها ملامح الاغتيال الجماعي، فهو يطعن خلف الأذن، أو يأتي من تحت إبط، ولا يفرق في طعناته بين طائع وعاصٍ.

 

 

 

وفي الأبيات الآتية استشرى الطاعون وتجبر؛ فصار يواجه الناس صباحًا ومساءً؛ قال ابن الوردي[15]:

يا رحمتا لدمشق من طاعونها

فالكل مغتبق به أو مصطبحْ

كم هالك نفث الدما من حلقه

أوَما تراه بغير سكين ذُبحْ

 

 

 

فالأبيات السابقة تبين مراحل تطور الوباء على الترتيب: ففي أول أمره يخرج خلف أذن الإنسان ما يشبه البثرة (قد مات من خلف أذنه)، ثم صار يخرج للإنسان كبة تحت إبطه (فجا طاعونهم من تحت إبط)، وأشد مراحله عندما يشعر الإنسان بحرارة وغثيان فيبصق دمًا ويموت (كم هالك نفث الدما من حلقه - تقتل الناس ببزقه).

 

 

 

وهناك مجموعة أخرى من الشعر الموثق لوباء (سنة 749هـ)، وهي أبيات متقاربة المعاني والصور، غير بعيدة في دلالتها عن الأبيات السابقة؛ منها:

 

قول الشيخ بدر الدين حسن بن حبيب الحلبي[16]:

إن هذا الطاعون يفتك في العا

لم فتك امرئ ظلوم حسودِ

ويطوف البلاد شرقًا وغربًا

ويسوق الخلوقنحو اللحودِ[17]

 

(الخلوق: جميع الخلق).

 

 

 

وقول الصلاح الصفدي:

لمَ افترست صحابي

يا عام تسع وأربعينا

ما كنت والله تسعًا

بل كنت سبعًا يقينا[18]

 

 

 

وفيها قال جمال الدين إبراهيم المعمار[19]:

قبح الطاعون داءً

فُقدت فيه الأحبهْ

بيعت الأنفس فيه

كل إنسان بحبهْ[20]

 

 

 

وقال ابن نباتة المصري فيه[21]:

سر بنا عن دمشق يا طالب العيـ

ـش فما للمقام للمرء رغبهْ

رخصت أنفس الخلائق بالطا

عون فيها فكل نفس بحبهْ[22]

 

 

 

وقال:

عج عن العجب فهذى جلق

أصبحت منه على حال ذميمِ

لم تزل بالعجب حتى ضربت

نفسها منه بطاعون عظيمِ[23]

 

 

 

والشعر كثير، والأخبار أكثر، كلها تشير إلى دلالة واحدة، وهي دلالة الموت وكثرته في الخلائق.

 

[1] د. محمود النوبي أحمد - أستاذ الأدب العربي والنقد الأدبي، وكيل كلية الألسن جامعة الأقصر.

 

[2] د. قاسم عبده قاسم، دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي عصر سلاطين المماليك، ط: دار المعارف، الطبعة الثانية، 1983م، ص: 149.

 

[3] انظر: ­­­المقريزي تقي الدين أحمد بن علي، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، الجزء الثاني، القسم الثاني، ط: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، سنة 1958م، ص: 773 - 791، وابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 155 - 184، وابن إياس، بدائع الزهور، ج: 1، ص: 163، ومحمود رزق سليم، موسوعة عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي، المجلد الرابع، ط: مكتبة الآداب، الطبعة الأولى، 1965م، ج: 7، ص: 317.

 

[4] المقريزي، السلوك، ج: 2، ص: 781 - 782، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج:10، ص: 163، ابن إياس، بدائع الزهور، ج: 1، ص: 163.

 

(والعدد المذكور مبالغ فيه، ولكنه يدل على كثرة الموتى).

 

[5] ابن الوردي (691 - 749 هـ = 1292 - 1349 م)، عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس، أبو حفص، زين الدين، ابن الوردي المعري الكندي: شاعر، أديب، مؤرخ، ولد في معرة النعمان (بسورية)، وولي القضاء بمنبج، وتوفي في طاعون حلب؛ [الصفدي، صلاح الدين بن أيبك، أعيان العصر وأعوان النصر، حققه: د. علي أبو زيد وآخرون، ط: دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ودار الفكر، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 1998م، ج: 3، ص: 677 - 678، والزركلي، الأعلام، ج: 5، ص: 67].

 

[6] الضَّبْعُ بسكون الباء وسط العضد بلحمه يكون للإِنسان وغيره والجمع أضباعٌ، وفي البيت بمعنى ذراعه؛ [ابن منظور، محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، ط: دار صادر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى (دت)، (ضبع)].

 

[7] المقريزي، السلوك، ج: 2، ص: 787.

 

[8] انظر: الصفدي، أعيان العصر، ج: 3، ص: 60/ ج: 5، ص: 365، وابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 162، والوافي، ج: 18، ص: 240.

 

[9] المقريزي، السلوك، ج: 2، ص: 790.

 

[10] ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 166.

 

[11] انظر: الصفدي، أعيان العصر، ج: 3، ص: 60، ج: 5، ص: 365، وانظر: ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 162 – 184.

 

[12] المقريزي، السلوك، ج: 2، ص: 788.

 

[13] ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 157 – 162.

 

(وتفسير ذلك طبيًّا: أن للطاعون أنواعًا ومراحل هي: 1- طاعون تلوث الدم septicemic plague، ويظهر على شكل بقع نزفية غامقة تحت الجلد (وهو ما أعطاه اسم الموت الأسود)، والأشخاص الذين يموتون من هذا النوع يموتون في نفس يوم ظهور الأعراض المرضية عليهم.

 

2- الطاعون الرئوي Pneumonic plague: وهو أخطر أنواع الطاعون، وتنتقل عدواه عن طريق استنشاق الرذاذ المعدي أثناء العطس والكحة من إنسان مصاب بالعدوى إلى إنسان آخر بشكل مباشر ... وتتراوح فترة الحضانة لهذا النوع ما بين (1 - 4 أيام)، وهو أخطر أنواع الطاعون ... ومن أعراضه سعال أو قيء يصحب بدم، ونسبة الوفيات من هذا النوع من الطاعون تتراوح ما بين (50 - 90%)؛ [انظر: د.عبدالهادي مصباح، جريدة المصري اليوم، جريدة مصرية يومية مستقلة، عدد السبت الموافق 20/ 6/ 2009م].

 

[14] المقريزي، السلوك، ج: 2، ص: 789، وابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 167.

 

[15] الصفدي، أعيان العصر، ج: 3، ص: 41، وابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 167.

 

[16] ابن حبيب الحلبي (710 - 779 هـ = 1310 - 1377 م) الحسن بن عمر بن الحسن بن حبيب، أبو محمد، بدر الدين الحلبي: مؤرخ، من الكتاب المترسلين، ولد في دمشق، ونصب أبوه محتسبًا في حلب فانتقل معه، فنشأ فيها، ونُسب إليها، ثم رحل إلى مصر والحجاز، وعاد، وتنقل في بلاد الشام واستقر في حلب؛ [الزركلي، الأعلام، ج: 2، ص: 208].

 

[17] ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 167.

 

[18] ابن إياس، بدائع الزهور، ج: 1، ص: 164.

 

[19] جمال الدين بن نور الدين علي المعمار، وقيل: الحائك، وقيل: الحجار، غلام النوري المصري، عامي مطبوع، تقع له التوريات المليحة المتمكنة، توفي في طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبعمائة؛ [انظر: الصفدي، الوافي بالوفيات، ج: 6، ص: 111، وأعيان العصر، ج: 1، ص: 146 – 147، ود. محمد زغلول سلام، الأدب في العصر المملوكي، الجزء الثالث، ط: منشأة المعارف بالإسكندرية، 1996م، ص: 373].

 

[20] ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 168.

 

[21] إنما ذكرتها في هذا الموضع؛ لأنها كشعر معاصريه، عبر بها صراحة عن الفجيعة.

 

[22] ابن نباتة، جمال الدين ابن نباتة المصري، ديوان ابن نباتة المصري، ط: الهيئة العامة لقصور الثقافة 2007م، نسخة مصورة عن مطبعة التمدن بعابدين، الطبعة الأولى، سنة 1323هـ - 1905م، ص: 50، وابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج: 10، ص: 166.

 

[23] ابن نباتة، الديوان، ص: 468.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات