الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قصة ذي القرنين

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

 

أ. د. فؤاد محمد موسى

 

 

 

لقد قصَّر المسلمون - في زماننا هذا - في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذهبت الغيرة مِن قلوب العباد، إلا من رحِم الله، وصار المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، وشاعتْ هذه المصيبة في كثير من البلاد والعباد، وانتشرت الفاحشة، وعمَّت الرذيلة، وتسلَّط الفُجار على الأخيار، وأصبح الحقُّ باطلًا والباطل حقًّا، وتعرضت الأمة للخطر، وتكالبتْ عليها كل ذئاب الأرض، وهذا ما حذَّر منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن تَداعى عليكم الأمم مِن كل أُفق، كما تداعى الأكَلَة على قَصعتها))، قال: قلنا: يا رسول الله، أمِن قلة بنا يومئذ؟ قال: ((أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاءً كغُثاء السيل، ينتزع المهابةَ مِن قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهَن))، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: ((حبُّ الحياة وكراهية الموت))؛ مسند الإمام أحمد.

 

 

 

وتفرقت الأمة وشاعتْ بينها البغضاء والشحناء، وتعرضتْ سفينة نجاة الأمة للخطر؛ قالَ صلى الله عليه وسلم: ((مثَل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثَل قومٍ استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرَقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا))؛ البخاري.

 

 

 

لقد وصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالخيرية عندما يتحقق فيها شروطُ الخيرية الثلاثة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].

 

 

 

ولست أدري لماذا جاء الفعل (كنتم) في الماضي؟ فهل هذا دليل على أننا سنُضيِّع الخيرية في المستقبل (الذي نحن فيه الآن)، بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وهذا هو الذي نحن فيه الآن!! والخيرية كانت لمن سبَقنا.

 

وقد حذَّر رسول الله مِن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده، لتَأمُرُنَّ بالمعروف، ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أو ليُوشكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه، فلا يُستجاب لكم))؛ الترمذي.

 

 

 

وهذا ما دفعني للتدبر والتفكر في الحديث الذي رواه أبو سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن رأى منكم منكرًا فلْيُغيره بيدِه، فإن لم يستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان))؛ رواه مسلم.

 

وهذا الحديثُ عظيمُ الشَّأنِ؛ لأنَّهُ نصَّ على وجوبِ إنكارِ المنكَرِ، وهذا كما قالَ النَّوويُّ: "وهو باب عظيم، به قِوام الأمر وملاكه، وإذا كثُر الخبث عمَّ العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمَّهم الله تعالى بعقابه؛ ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب؛ فإن نفعه عظيمٌ".

 

 

 

وقد جاءتْ في القصص القرآني - في سورة الكهف - مراتبُ إنكار المنكر الثلاث في الحديث؛ حيث التطبيق العملي في هذا القصص:

 

♦ قصة أصحاب الكهف، يُقابلها الإنكار بالقلب.

 

♦ قصة صاحب الجنتين، يُقابلها التغيير باللسان.

 

♦ قصة ذي القرنين، يُقابلها التغيير باليد.

 

 

 

وقصص القرآن أصدقُ القصص؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، وذلك لتمام مطابقتها للواقع، وأحسن القصص؛ لقوله تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾ [يوسف: 3]؛ وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى، وأنفع القصص؛ لقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، ولقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق.

 

 

 

فالغرَض مِن القصص القرآني أن يأخذَ المسلمون العِظة والعبرة، ويتعلَّموا ويأخذوا الخبرة مِن هذه القصص؛ كيلا يقعوا فيما وقعتْ فيه الأممُ السابقة من الأخطاء من جهة، ويستفيدوا مِن الصواب من جهةٍ أخرى، فالحياةُ تجارب، والإنسان العاقل يتَّعظ بما حدثَ مع غيره من خيرٍ وشر، ويستفيد مِن هذه التجارب السابقة، إضافةً إلى ما في هذه القصص من تثبيتٍ لقلبِ المؤمن.

 

 

 

وبالرجوع إلى الحديث نجد أن مراتب الإنكار في الحديث قد جاءت مرتبة - من الأعلى مستوى إلى الأدنى مستوى - ترتيبًا منطقيًّا في درجة الأهمية في الحياة والثواب عند الله، أما في القرآن الكريم - في سورة الكهف - فقد جاء الترتيب معكوسًا - أي: من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى - كأنه يشير إلى واقع تدرُّج وجوده في الحياة، والتدرج في بناء هذه المستويات في تربية النفس البشرية وتكوينها خبراتٍ حياتيةً، وأيضًا إشارة إلى التدرُّج في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا التسلسل.

 

 

 

وفي هذا المقال نتناول المستوى الأول من الحديث "التغيير باليد" في قصة ذي القرنين - تطبيقًا عمليًّا في الحياة الواقعية - لعلنا نجد مَن يُطبقها في واقعنا الذي نحن أحوج ما نكون إلى تطبيقه؛ لإخراج الأمة مما هي فيه!

 

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا *فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ﴾ [الكهف: 83 - 98].

 

 

 

إن الهدف من تناول قصة ذي القرنين في هذه المقالة هو: بيان كيف كان هذا الحاكم مثلًا نموذجيًّا يُقتدى به في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أعلى مستوى له، وهو التغيير باليد كما أورده الحديث، وهذا ما سنُركِّز عليه دون غيره.

 

يبدأ الحديث كما جاء في "الظلال" عن ذي القرنين بشيء عنه: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 84]، لقد مكَّن الله له في الأرض، فأعطاه سلطانًا وطيد الدعائم، ويسَّر له أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء والعمران، وأسباب السلطان والمتاع، وسائر ما هو من شأن البشر أن يُمكَّنوا فيه في هذه الحياة، ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 85]، ومضى في وجهٍ مما هو ميسر له، وسلك طريقه إلى الغرب، ومغرب الشمس هو المكان الذي يرى الرائي أن الشمس تغرُب عنده وراء الأفق، عند هذه الحَمِئة وجَد ذو القرنين قومًا: ﴿ قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ﴾ [الكهف: 86].

 

 

 

والمهم أن ذا القرنين أعلن دستوره في معاملة البلاد المفتوحة التي دان له أهلُها، وسلَّطه الله عليها؛ قال: ﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ [الكهف: 87، 88].

 

أعلن أن للمعتدين الظالمين عذابَهم الدنيوي وعقابهم، وأنهم بعد ذلك يُردون إلى ربهم، فيعذبهم عذابًا فظيعًا (نُكرًا) لا نظير له فيما يعرفه البشر، أما المؤمنون الصالحون، فلهم الجزاء الحسن، والمعاملة الطيبة، والتكريم والمعونة والتيسير.

 

 

 

ثم عاد ذو القرنين من رحلة المغرب إلى رحلة المشرق، مُمَكَّنًا له في الأرض، مُيسرة له الأسباب: ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 89 - 91].

 

إنهم قوم عُراة الأجسام، لم يجعل لهم سترًا من الشمس، وما قيل عن مغرب الشمس يقال عن مطلعها؛ فقد أعلن ذو القرنين من قبلُ دستورَه في الحكم، فلم يتكرر بيانُه هنا، ولا تصرُّفه في رحلة المشرق؛ لأنه معروف من قبل، وقد علِم الله كلَّ ما لديه من أفكار واتجاهات.

 

 

﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ﴾ [الكهف: 89 - 98].

 

 

 

وصل ذو القرنين إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدين صناعيين، تفصلهما فجوة أو ممر، فوجد هنالك قومًا متخلفين، ﴿ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴾ [الكهف: 93].

 

وعندما وجدوا فاتحًا قويًّا، وتوسَّموا فيه القدرة والصلاح، عرضوا عليه أن يقيم لهم سدًّا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويُغيرون عليهم من ذلك الممر، فيَعيثون في أرضهم فسادًا، ولا يَقدِرون هم على دفْعهم وصدِّهم، وذلك في مقابل خَراج من المال يجمعونه له من بينهم، وتبعًا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض، فقد ردَّ عليهم عرضَهم الذي عرضوه من المال، وتطوَّع بإقامة السد، ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين، فطلب من أولئك القوم المتخلفين أن يُعينوه بقوتهم المادية والعضلية؛ ﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ﴾ [الكهف: 95، 96]، فجمعوا له قطعَ الحديد، وكوَّمها في الفتحة بين الحاحزين، فأصبحا كأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما.

 

 

 

﴿ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ﴾ [الكهف: 96]، وأصبح الركام بمساواة القمتين، ﴿ قَالَ انْفُخُوا ﴾ [الكهف: 96] على النار لتسخين الحديد، ﴿ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا ﴾ [الكهف: 96] كله لشدة توهُّجه واحمراره، ﴿ قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾ [الكهف: 96]؛ أي: نحاسًا مذابًا يتخلل الحديد، ويختلط به، فيزيده صلابةً.

 

ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تُسكره نشوةُ القوة والعلم، ولكنه ذكر الله فشكَره، ورَد إليه العمل الصالح الذي وفَّقه إليه، وتبرَّأ من قوته إلى قوة الله، وفوَّض إليه الأمر، وأعلَن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود، ستُدَكُّ قبل يوم القيامة، فتَعود الأرض سطحًا أجردَ مستويًا؛ ﴿ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ﴾ [الكهف: 98].

 

 

 

وبذلك تنتهي سيرة ذي القرنين، النموذج الطيب للحاكم الصالح، يُمكِّنه الله في الأرض، ويُيسر له الأسباب، فيجتاح الأرض شرقًا وغربًا، ولكنه لا يتجبَّر ولا يتكبر، ولا يَطغى ولا يَبطَر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلةً للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق، ولا يُسخر أهلها في أغراضه وأطماعه، إنما ينشر العدل في كل مكان يُحُلُّ فيه، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل، ويستخدم القوة التي يسَّرها الله له في التعمير والإصلاح، ودفْع العدوان وإحقاق الحق، ثم يُرجِع كلَّ خير يُحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا يَنسى وهو في إبَّان سطوته قدرةَ الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله.

 

 

 

من هذا العرض نجد أن ذا القرنين قام في الواقع الحقيقي بتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (باليد)؛ كما جاء في الحديث: ((مَن رأى منكم منكرًا، فليُغيره بيده))، فهذا الإنكار هو أقوى درجات الإنكار؛ لأنه إزالة للمنكر بالكلية وزجرٌ عنه، ولا يكون هذا التغيير ممن لا يملِك سلطةً؛ إذ قد ينكر منكرًا، فيقع فيما هو أنكر، وليس ذلك من الحكمة، وقد علَّق الإنكار باليد على الاستطاعة، وهذه الدرجة الأولى لولي الأمر في الولاية العامة والخاصَّة.

 

 

 

وواجب الحكام في هذه المهمة عظيم؛ لأن بيدهم الشوكة والسلطان التي يرتدع بها السواد الأعظم من الناس عن المنكر؛ لأن الذين يتأثرون بالوعظ قلةٌ، وتقصير الحكام بهذه المهمة طامَّة كبرى؛ حيث إنه بسبب ذلك يفشو المنكر، ويَجترئ أهل الباطل والفسوق بباطلهم على أهل الحق والصلاح، وهذا هو واقع الأمة الإسلامية الآن في غالب الأحوال، إلا من رحم ربي.

 

 

 

فسلوك ذي القرنين كان سلوكًا ربانيًّا؛ حيث استطاع أن يستخدم كل الوسائل التي سخرها الله له في سبيل الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].

 

ويتجلى ذلك في تحرُّكاته جهة المغرب والمشرق وتحرُّكاته بين السدين، فكان تغييره تغييرًا فيه إصلاح وحفظٌ وأمنٌ وطاعة.

 

 

 

وقد تحقَّقت فيه خصال ثلاث يراها بعض العلماء ضرورية لمن يقوم بمثل هذه المهام: رفيق بما يأمُر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، وعدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى.

 

وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين، الأولياء العادلين العالمين؛ حيث وافَق مرضاة الله في معاملة كل أحد بما يليق بحاله.

 

 

 

ونحن الآن في أمسِّ الحاجة لمثل هذا الحاكم؛ ليوحِّد الأمة، ويُخرجها مما هي فيه، ويقود العالم بمنهج الله لِما فيه خير العباد والبلاد؛ مرضاةً لله.

 

ندعو الله أن يوفِّق مَن يُحقق ذلك ويُسدد خطاه، وأن يتنافس الحكام للاقتداء بذي القرنين، عسى الله أن يرحمنا جميعًا - حكامًا ومحكومين - ويجمعنا في مستقر رحمته، آمين، آمين، آمين يا رب العالمين.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات