قواعد في الإنكار...

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

محمد بن سرّار اليامي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد
فإن كثيرا من أهل الغيرة وبدافع حب الدين قد يقعون في إنكار أمور على المخالفين هي عند العلماء المحققين لا يجوز الإنكار عليها.
وحتى نجتنب هذه المزالق ينبغي أن نعرف، ما ينكر فيه وما لا ينكر فيه، وضوابط ذلك، وفيما يلي بيان لهذه الجوانب بشيء من الإيجاز والاختصار هو مجموع كلام أهل العلم في ذلك:

أولا: بيان ما لا ينكر فيه
بين العلماء أنه (لا يجوز الإنكار في الخلاف المعتبر السائغ)، ويقصدون بذلك (عدم الإنكار في المختلف فيه من مسائل الاجتهاد)، وفي بيان ذلك أقوال متعددة لشيخ الإسلام -رحمه الله- منها قوله : "مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة: لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد؛ فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء" .
وقال -رحمه الله- في موضع آخر: " المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة مثل: تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشرته وفي بيع المقاثي جملة واحدة وبيع المعاطاة والسلم الحال واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره والتوضؤ من مس الذكر والنساء وخروج النجاسات من غير السبيلين والقهقهة وترك الوضوء من ذلك والقراءة بالبسملة سرا أو جهرا وترك ذلك. وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه أو القول بطهارة ذلك وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك. والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أو المنع من قبول شهادتهم" .
ويُنبه هنا إلى أن ابن تيمية رحمه الله له تفريق خاص بين مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد، ورتب على هذا التفريق جواز (الإنكار في مسائل الخلاف، وعدم الإنكار في مسائل الاجتهاد)، والفارق بين النوعين من المسائل أن مسائل الاختلاف هي التي يكون أحد القولان فيها مؤيد بالنص في مقابل آخر ضعيف، أما مسائل الاجتهاد فهي التي لم يرد فيها دليل يجب العمل به، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: " مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين" .
ويُرتب على ما سبق أنه (لا ينكر مقلد على مقلد إلا بحجة ليس لها معارض قوي)، يقول ابن تيمية -رحمه الله- في بيان ذلك: " من صار إلى قول مقلدا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله؛ لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت" .
ويُرتب على ما سبق أيضا أنه (لا إنكار بين المختلفين حيث لا سنة ولا إجماع)، يقول ابن القيم -رحمه الله-: " وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، لم ينكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا" .
ولكن ينبغي التنبيه هنا على أمر مهم وهو أن (عدم جواز الإنكار لا يعني عدم جواز النصح)، عند أمن الفتنة، يقول العز ابن عبد السلام -رحمه الله-: " فمن أتى شيئا مختلفا في تحريمه معتقدا تحريمه وجب الإنكار عليه.. وإن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه، إلا ان يكون مأخذ المحلل ضعيفا، ... وإن لم يعتقد تحريما ولا تحليلا أرشد إلى اجتنابه من غير توبيخ ولا إنكار" .

ثانيا: ضوابط الإنكار
هناك مجموعة من الضوابط ينبغي على المخالف أن يأخذ بها نفسه قبل الإنكار على مخالفه، ومن أهم هذه الضوابط ما يأتي:

1. ينبغي (تجنب الأنكر): فـ (أحيانا ينبغي ترك الأمر والنهي)، وذلك عندما يكون الإنكار على المخالف سوف يؤد إلى ضياع مصلحة قائمة أو إيجاد مفسدة منعدمة، يقول ابن تيمية -رحمه الله-في معرض حديثه عن اجتماع معروف ومنكر غير متلازمين عند طائفة: " في الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق" . وهذه الصورة تخالف ما لو كان المعروف والمنكر متلازمين عند طائفة أو فرد، فابن تيمية -رحمه الله- قال في ذلك: "وتارة لا يصلح أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين" .
وموضوع تجنب الأنكر يوجب على المنكر أن يعلم بدقة طبيعة الحالة أو المواقف التي سوف ينكر فيها، لأن (المنكر حيث لا ينبغي الإنكار مرتكب لنوع من الظلم والجهل)، أما الظلم فلأنه نهى عما لا يطلب فيه الإنكار، وأما الجهل فلأنه بنى إنكاره على غير معرفة، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: " إذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليهم آخرون إنكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم؛ فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من أعظم الفتن والشرور قديما وحديثا؛ إذ الإنسان ظلوم جهول والظلم والجهل أنواع فيكون ظلم الأول وجهله من نوع وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر" .
ومن الصور التي يقع فيه الإنكار على الوجه الممنوع، الإنكار على التفاضل بين السنن والمستحبات، بالرغم من أنه (لا يجب الأمر بالفاضل ولا النهي عن المفضول). ومن يحرص على السلامة في هذه الأمور فعليه أن يمسك عن الإنكار أو ينصح بالحسنى ففي هاذين الموقفين (يكون المنكر مصيبا).
ومن تطبيقات (تجنب الأنكر) النهي عن الخروج على الحاكم المرتكب للذنوب، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: " إذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريما منه لم ينه عنه ولم يبحه أيضا. ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب وإذا كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه" .

2. مراعاة (فقه المصالح في الإنكار): ففي الإنكار يكون درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فينكر حيث تقتضي المصلحة الإنكار ويترك الإنكار حيث يخشى منه المفسدة أو ضياع المصلحة، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: " حيث كانت مفسدة الامر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم إذ لمؤمن عليه ان يتقى الله في عباد الله وليس عليه هداهم" ، وفي موضع آخر يقول: " وإذا كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه" .
وما أروع ما ساقه ابن تيمية -رحمه الله- لبيان أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وأن (نور معه ظلمة خير من ترك النور بالكلية)، حيث قال: " قد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علما وعملا. فإذا لم يحصل النور الصافي بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف. وإلا بقي الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة. إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية إذا خرج غيره عن ذلك؛ لما رآه في طرق الناس من الظلمة" .
وهذا الذي ساقه ابن تيمية -رحمه الله-يفيد أنه (لا يهجر المبتدع إذا فوت هجره بعض المصالح)، وأوقع خلاف المقصود، " فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا. وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله. فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه وتحضها على فعل ضد ظلمه: من الإيمان والسنة ونحو ذلك. فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمورا بها" .
ومن المصالح التي يمكن أن تفوت بالإنكار في غير موضعه: مصلحة الحياة، فقد يفقد الإنسان حياة بذلك، ولذا كان (ترك النهي إذا خشي الإنسان الأذى على نفسه أو المسلمين) من الأمور الواجبة، يقول ابن رجب -رحمه الله-: "إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذى أهله أو جيرانه، لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره" . ويقول ابن تيمية رحمه الله: " فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر؛ بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي بالقلب" .

3. (مراعاة حال المنكر عليه ) ، فـ (لا ينكر على من كان حديث التوبة والإسلام إلا بعد تمكنه من العلم والعمل)، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: " وكذلك التائب من الذنوب؛ والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع... فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل" .
وكذلك (لا ينكر حيث لا يجدي مع المنكر عليه الإنكار إلا عند مظنة القبول)، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: " إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر" . ويقول العز بن عبد السلام رحمه الله: " فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يجديان ولا يفيدان شيئا، أو غلب على ظنه، سقط الوجوب لأنه وسيلة ويبقى الاستحباب، والوسائل تسقط بسقوط المقاصد، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدخل إلى المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه. وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم، كلما رأوهم، مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم. وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فيزداد فسوقا إلى فسوقه، وفجورا إلى فجوره" .
وأخيرا يجب أن يراعي المنكر ما يؤول إليه حال المنكر عليه، فـ (لا إنكار إلا إذا كانت النقلة إلى مباح أو منكر أخف)، يقول ابن القيم -رحمه الله-: " فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع" ...هذا محصل ماوقفت عليه من كلام أهل العلم وفق الله الجميع لصلاح النيةوالعمل وصلى الله وسلم على نبينامحمد بن عبدالله وآله وصحبه ومن والآه..

حرره
د.محمد بن سرار اليامي
عضوهيئةالتدريس بكليةالشريعة بجامعة نجران
 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات