المباح: أحواله وأحكامه (2)

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات:

 

 

د. محمد مصطفى الشيخ

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد؛ فقد تناولْنا في المقالة السابقة المباح وأحواله، ونتوِّج المسألة بالكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: ((وفي بُضْع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر))؛ مسلم[1]، وهذا الحديث يُحمَل على وجهين:

 

  • الوجه الأول: أن المسلم إذا فعل المباح من غير نية أُجِر؛ يُبيِّنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط قصْد الطاعة؛ وإنما بيَّن العلة، وهي أخذ المباح من جهة إذْن المَلِك عدولاً عما حرَّم الله إلى ما أحله، فيكون الحديث مبينًا الحال الثانية المذكورة أول المسألة في المقالة الأولى.

 

 

 

ولعل هذا مضمون كلام ابن تيمية؛ إذ يقول: "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((في بُضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام، أما كان عليه وزر؟))، قالوا: بلى، قال: ((فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر، فلِمَ تعتدُّون بالحرام ولا تعتدون بالحلال؟))؛ مسلم؛ وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه الله إلى ما أباحه الله، ويقصد فعل المباح معتقدًا أن الله أباحه، والله يحب أن يؤخذ برُخَصِه كما يَكره أن تؤتى معصيتُه[2]، كما رواه الإمام أحمد في المسند ورواه غيره؛ ولهذا أحبَّ القصرَ والفِطر، فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي لا يحبُّه الله، إلى ما يحبه الله من الرخصة - هو من الحسنات التي يثيبه الله عليها - وإن فعل مباحًا - لما اقترن به من الاعتقاد والقصد اللذين كلاهما طاعة لله ورسوله، فـ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))؛ متفق عليه[3].

 

 

 

وأيضًا فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات، فهو مأمور بالأكل عند الجوع والشرب عند العطش؛ ولهذا يجب على المضطرِّ إلى الميتة أن يأكل منها، ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبًا للوعيد كما هو قول جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه، بل وهو مأمور بنفس عقد النكاح إذا احتاج إليه وقَدر عليه، فقولُ النبي: ((في بضع أحدكم صدقة))؛ فإن المباضعة مأمور بها لحاجته ولحاجة المرأة إلى ذلك؛ فإنَّ قضاء حاجتها التي لا تَنقضي إلا به بالوجه المباح - صدقةٌ" [الفتاوى: 10 / 462 - 463].

 

 

 

وكلام ابن تيمية الأخير موافق لما قرره الشاطبي؛ انظر الموافقات: ك / الأحكام، القسم الأول (خطاب التكليف)، المسألة الثانية، 1 / 206 - 210.

 

 

 

  • الوجه الثاني: أن الحديث محمول على القيد المذكور في الحديثين قبله، فيكون الأجر في جماع الزوجة مترتبًا على أمرين: نية القربة، واجتِناب النكاح المحرَّم؛ فإنَّ ترْكَ الحرام واجبٌ يثابُ المرء عليه، فيكون الحديث دائرًا على الحال الثالثة المذكورة أول المسألة في المقالة الأولى.

 

 

 

وفي هذا المعنى يقول النووي في كلامه على هذا الحديث: ((وفي بضع أحدكم صدقة)): "وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى، صار طاعة ويثاب عليه، وقد نبَّه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: ((حتى اللقمة تجعلها في فِي امرأتِك))؛ متفق عليه[4]؛ لأن زوجة الإنسان هي من أخصِّ حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذِّه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطَفة والتلذُّذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك، فغيرُ هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى، ويتضمَّن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئًا أصله على الإباحة وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه؛ وذلك كالأكل بنية التقَوِّي على طاعة الله تعالى، والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطًا، والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكفَّ نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام، وليَقضي حقها، وليحصِّل ولدًا صالحًا، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((وفي بُضْع أحدكم صدقة))، والله أعلم" [مسلم بشرح النووي: ك / الوصية، باب الوصية بالثلث، ح: (1628)، 11 / 82 - 83]، وانظر أيضًا: ك / الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، ح (1006)، 7 / 97.

 

 

 

والوجهان صحيحان، وعلى أيهما حُمل الحديث كان حقًّا كما بينا، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

 

[1] مسلم: ك / الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، ح: (1006)، وأبو داود: ك / الصلاة، باب صلاة الضحى، ح: (1285) - ك / الأدب، باب في إماطة الأذى عن الطريق، ح: (5243)، وأحمد: ح: (20856)، ح: (20917)، ح: (20958)، ح: (20962)، ح: (20971)، ح: (20973)، ح: (21038)، الجميع من حديث أبي ذرٍّ، إلا أن الأحاديث (1006) عند مسلم و(20856، 20958، 20962، 20971) عند أحمد كانت في سياق حديث: ((ذهب أهل الدثور بالأجور...))، بينما الأحاديث (1285، 5243) عند أبي داود و(20973، 21038) عند أحمد كانت في سياق حديث: ((يُصبح كل يوم على كلِّ سُلامى من ابن آدم صدقة...)).

 

[2] أحمد: ح: (5832)، ح: (5839) من حديث عبدالله بن عمر.

 

[3] البخاري: باب بدء الوحي...، ح: (1) - ك / الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى...، ح: (54) - ك / العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه ولا عتاقة إلا لوجه الله...، ح: (2529) - ك / المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة...، ح: (3898) - ك / النكاح، باب من هاجر أو عمل خيرًا لتزويج امرأة فله ما نوى، ح: (5070) - ك / الأيمان والنذور، باب النية في الأيمان، ح: (6689) - ك / الحيل، باب في ترك الحيل وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها، ح: (6953)، ومسلم: ك / الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنية...))، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، ح: (1907)، وأبو داود: ك / الطلاق، باب فيما عُني به الطلاق والنيات، ح: (2201)، والنسائي: ك / الطهارة، باب النية في الوضوء، ح: (75) - ك / الطلاق، باب الكلام إذا قصد به فيما يَحتمل معناه، ح: (3437) - ك / الأيمان والنذور، النية في اليمين، ح: (3794)، والترمذي: ك / فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا، ح: (1647) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: ك / الزهد، باب النية، ح: (4227)، وأحمد: ح: (169)، ح: (302) الجميع من حديث عمر بن الخطاب.

 

[4] البخاري: ك / الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى...، ح: (56) - ك / الجنائز، باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، ح: (1296) - ك / الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، ح: (2742) - ك / المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أَمضِ لأصحابي هجرتهم)) ومرثيته لمن مات بمكة، ح: (3936) - ك / المغازي، باب حجة الوداع، ح: (4409) - ك / النفقات، باب فضل النفقة على الأهل...، ح: (5354) - ك / المرضى، باب قول المريض: إني وجع، أو وارأساه، أو اشتد بي الوجع...، ح: (5668) - ك / الدعوات، باب الدعاء برفع الوباء والوجع، ح: (6373) - ك / الفرائض، باب ميراث البنات، ح: (6733)، ومسلم: ك / الوصية، باب الوصية بالثلث، ح: (1628)، وأبو داود: ك / الوصايا، باب ما جاء في ما لا يجوز للموصي في ماله، ح: (2864)، والترمذي: ك / الوصايا، باب ما جاء في الوصية بالثلث، ح: (2116)، وأحمد: ح: (1443)، ح: (1483)، ح: (1485)، ح: (1491)، ح: (1527)، ح: (1549)، ومالك: ك / الأقضية، باب الوصية في الثلث لا تتعدَّى، ح: (1495)، والدارمي: ك / الوصايا، باب الوصية بالثلث، ح: (3196) الجميع من حديث سعد بن أبي وقاص.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات