أمانة الوظيفة والتحدي الحضاري

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

أ.حســــان أحمد العماري

 

[email protected]

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الأمانة من أنبل الخصال , واشرف الفضائل وأعز المآثر,والتي يحرز بها المرء الثقة والإعجاب,وينال بها النجاح والفوز في الدنيا والآخرة وكفاها شرفا أن الله تعالي مدح المتحلين بها : فقال "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" (المؤمنون:8) و قال صلى الله عليه وسلم : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له " [ صحيح ، رواه أحمد ] . فالأمانة من الأخلاق الفاضلة وهي أصل من أصول الديانات ، وعملة نادرة تسعى لإقتنائها الشعوب والدول ، وهي ضرورة للمجتمع الإنساني ، لا فرق فيها بين حاكم أو محكوم ، أو صانع وتاجر ، أو عامل وزارع ، ولا بين غني وفقير ، أو رجل و امرأة ، فهي شرف للجميع ، ورأس مال الإنسان ، وسر نجاحه ، ومفتاح كل تقدم ، وسبب لكل سعادة .. وإن من الأمانات الهامة في حياة الأفراد والمجتمعات والدول الأمانة في جانب المهنة والعمل والوظيفة فكم نسمع وكم نتحدث عن ذلك الموظف الذي لا ينجز معاملات الآخرين بل ويأخذ على ذلك الرشاوى والهدايا أو عن ذلك المعلم الذي فرط في رسالته فلا يؤديها كما ينبغي .. أو عن ذلك المدير الذي يتأخر عن دوامه فتتعطل كثير من مصالح المسلمين .. أو عن ذلك الشرطي أو رجل المرور الذي يقصر في عمله وكم نتحدث عن ذلك المهندس الذي يغش في عمله أو ذلك المصنع الذي لا يلتزم بمعايير الجودة في منتجاته وكم نسمع أنين المرضى وآهات ذويهم وهم يحدثوننا عن المستشفيات ومظاهر الإهمال فيها وجشع بعض الأطباء وتشخيصهم الخاطئ للمرض .. وكم نسمع ونتعامل مع صاحب الورشة وهولا يتقن عمله فيقوم بتغيير القطع والتدليس والغش وربما أعيد له الجهاز أو الآلة المراد إصلاحها أكثر من مرة .. وكم نتداول المنتجات ونقارن بين منتجاتنا وغيرنا من أمم الأرض فنجد الفرق الكبير والبون الشاسع ولو كان هناك قليل من الشعور بالمسئولية والأمانة مع الخبرة لأضحت دول العالم أسواق لمنتجاتنا .. ولعلنا لا ننسى ذلك المسئول وصاحب المنصب الذي يأتي متأخراً إلى دوامه الوظيفي ولا يكتفي بذلك بل يحتجب عن الناس في مكتبه وهم يقفون في طوابير قد جاؤا من مناطق بعيدة فمن ينجز معاملاتهم ؟ روى أبو مريم الأزدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ولي من أمور المسلمين شيئاً ، فاحتجب دون خلتهم ، وحاجتهم ، وفقرهم ، وفاقتهم ، احتجب الله عنه يوم القيامة ، دون خلته ، وحاجته ، وفاقته ، وفقره " (صحيح الجامع الصغير : (5/368) ..

وكم نتحدث ونرى ونسمع عن ذلك الموظف أو العامل أو المدير أو أي منصب كان وهو يعتدي على مال الوظيفة وممتلكاتها دون وجه حق سواء كان مال خاص أو مال عام .. في شركة أو وزارة أو مصنع أو مصلحة فأين الأمانة ؟ وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يحمل الغالون يوم القيامة ما غلوه في أكثر من حديث، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول فعظمه ، وعظم أمره ، ثم قال : " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، يقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة ، فيقول : يا رسول الله، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك .

 

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك شيئاً قد أبلغتك .

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح ، فيقول : يا رسول الله، أغثني ، فأقول : لا أملك شيئاً ، قد أبلغتك ... لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رأسه رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك ... لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (الذهب والفضة) ، فيقول : يا رسول الله ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك " ( متفق عليه ، وهذا لفظ مسلم ) وصدق الله إذ يقول (( وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [ آل عمران : 161 ] .

وكم نتحدث عن سير العمل في المحاكم وتقصير بعض القضاة ة وتأخيرهم الفصل في قضايا المتخاصمين فالخصوم أمانة في أعناق القضاة ، فليرع كل أمانته ، وليحذر من الخيانة ، أو الغدر والنكوص على الأعقاب فالويل ثم الويل لمن فرط في أمانته ، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ ") هذا القاضي العدل فكيف بالقاضي الظالم ؟ ... فإذا كان الأمر كذلك فقد وجب علينا جميعاً التذكير والنصح والإرشاد ليقوم كل فرد بواجبه من أجل سلامة مجتمعه وتقدم ورقي وطنه وازدهار أمته ...

 

إن نهضة الأمم والشعوب، تتوقف علي قوتها في إيمانها وفي عملها وفي إنتاجها، وفي إتقانها للعمل، والإخلاص فيه. ولا يمكن أن تتحقق نهضة حضارية لأمة من الأمم إلا بتحقيق عنصرين أساسيين: عنصر الإيمان، وعنصر العمل، لأن أي نهضة أو حضارة بدون إيمان لا تكون محققةٌ للخير والعمران، بل تكون حضارة مادية لا سلام فيها ولا استمرار لها. أما حين تقوم النهضة الحضارية علي الإيمان والعمل، فإنها تكون حضارة إعمار واستمرار ....

 

وإن من بين السلبيات التي تجعل حضارة المجتمع في تراجع 'الخيانة في العمل وعدم الوفاء بأمانة العمل' إما عن طريق أن يوسد العمل إلي غير أهله وإما بإهدار المال العام وكلاهما أبشع أنواع الخطر علي تقدم المجتمع وحضارته. أما توسيد العمل إلي غير أهله فيترتب عليه خلخلة المؤسسة أو الإدارة وعدم استقرارها وثباتها، وفي التأكيد علي المحافظة علي الاستقرار كان توجيه الإسلام واضحا في بيان أن الأمر إذا وسٌد إلي غير أهله فلننتظر الساعة كناية عن إنتهاء الحياة والاستقرار وعندما سئل الرسول صلي الله عليه وسلم عن الساعة وقال له رجل: متي الساعة؟ قال: ( إذا ضيعت الامانة فانتظر الساعة، فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: 'إذا وسٌدّ الأمر لغير أهله فأنتظر الساعة' ) رواه البخاري.

 

وأما إهدار المال العام فإنه يتمثل في صور كثيرة من سوء استخدام صلاحيات البعض، ومن عدم مراقبة الله تعالي فيما يعمل وفيما يأخذ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( من استعملناه علي عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ) (رواه أبو داود).

إن حضارة المسلمين على مدار القرون السابقة والتي كانت من الأسباب الرئيسة لظهور وتقدم حضارات الغرب والشرق و التقدم العلمي والصناعي والتجاري والإجتماعي الذي حققه المسلمون لم يأتي من فراغ ...بل كان هناك تصميم وعزيمة وعلم وقيم وأخلاق يتعاملون بها مع بعضهم البعض ومع غيرهم من الأمم والشعوب والمجتمعات من حولهم فكان من أعظم أخلاقهم وأجل صفاتهم الأمانة والتعامل بصدق وإتقان العمل وجودة الأداء كيف لا يكونون كذلك ورسولهم من ذو صباه وهو الملقب في قومه بالصادق الأمين وما كان لفظ الأمانة يفارق شفتيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوال حياته ترغيباً وترهيبا يربي على ذلك المسلمين حتى يقول أنس رضي الله عنه وعن أنس قال: ما خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) [صحيح ، مسند أحمد (3/154)]. والله عز وجل يقول ( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (الأنفال / 27).

 

لقد دخلت كثير من بلاد العالم الإسلام من باب الصدق وأمانة المهنة وجودة العمل فكان التاجر المسلم يذهب ببضاعته إلى دول جنوب شرق آسيا فيرى الناس أمانته وصدقه فيسألون عنه وعن بلاده ودينه فيخبرهم بأنه مسلم وأن الإسلام أمره بتلك الأخلاق فيدخلون في دين الله أفواجاً وكان المسلم يرعى الحقوق التي بين يديه في أي وظيفة أو مهنة أو منصب ويجعل ذلك عبادة لله وتقرباً إليه ..... قال نافع : خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة فمر بهم راع فقال له عبد الله : هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة. فقال : إني صائم.

 

فقال له عبد الله : في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم .. فقال الراعي : أبادر أيامي الخالية فعجب ابن عمر .. وقال : هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها ما تقطر عليه وتعطيك ثمنها .. قال : إنها ليست لي إنها لمولاي ... قال : فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب ...؟ ! فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول فأين الله ؟؟؟

قال : فلم يزل ابن عمر يقول : قال : الراعي فأين الله .. فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم رحمه الله ) صفة الصفوة ( 2 / 188)

 

وعندما فتحت فارس وسقط مُلك الأكاسرة أرسل القائد الفاتح نفائس الإيوان إلى المدينة المنورة كانت أكواما من الذهب والجواهر فى حقائب بعضها فوق بعض حملت من المدائن إلى دار الخلافة لم تنقص ذرة خلال آلاف الأميال قال ابن جرير:

لما قدم بسيف كسرى مع بقية الكنوز قال عمر إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة فقال له على ابن أبى طالب :(انك عففت فعفت الرعية) ... إن عظمة الأمم قبل أن تكمن في أجهزتها التشريعية والتنفيذية تكمن في قدراتها النفسية والخلقية وما ينتجه الإيمان من مواهب وملكات وطاقات فاعلة ومخلصة ومتقنة .

 

إن من أبرز صفات وأخلاق صاحب المهنة والوظيفة والمنصب والمسئولية هي مراقبة الله وإتقان العمل وإنجازه والمحافظة على أوقات الدوام الرسمية والحفاظ على ما تحت يديه من أموال وممتلكات وعليه أن يكون وفياً لعمله سواء كان في مؤسسة أو مصلحة أو وزارة أو شركة أو مصنع فيبذل جهد وقدراته لتطوير العمل والإرتقاء به وعليه أن يحفظ أسرار العمل وخصوصياته وعليه أن يكون رحيماً عدلاً صبوراً مع المراجعين والمعاملين ومن يقوم بخدمتهم أ و التعامل معهم وعليه كذلك أن يكون آمراً بالمعروف وناهياً عن منكر بالحكمة فلا يسكت عن المخالفات والتجاوزات في أي مصنع أو مؤسسة أو وزارة فيكون ناتج العمل ومخرجاته وبالاً على الأمة وسبب في تأخير رقيها وتقدمها وازدهار .. فهل نعي جميعاً أمانة المهنة والوظيفة والتحدي الحضاري الذي ينتظره منا العالم فنكون دولاً ومجتمعات متطورة ومتقدمة ومنتجة إلى جانب ما نحمله من رسالة عظيمة وقيم خالدة فنساهم في سعادة البشرية وتطور الإنسانية .. انتهى.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات