أحكام الوصية

ناصر بن محمد الأحمد

2013-05-10 - 1434/06/30
عناصر الخطبة
1/ الشريعة أحكام وآداب 2/ وجوب الالتزام بأحكام الشريعة 3/ أنواع الوصية وأحكامها 4/ نموذج من وصايا العلماء

اقتباس

الإنسان له حقوق على نفسه، ولغيره حقوق عليه، ومثل تقلبات هذه الأحوال قد ينسى الإنسان مثل هذه الحقوق، من ديون وودائع وأمانات أو ذوي فقر وحاجات أو حتى فرصته لفتح الإنسان على نفسه باب أجر يجمع له بعد موته، لكل هذا ولغيره شرع الله بلطفه ومنّه وكرمه لهذا...

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا …

 

أما بعد: ما زلنا أيها الأحبة في موضوعنا الذي بدأناه قبل شهر، في الأحكام المتعلقة بانتقال العبد عن دار الفناء إلى دار البقاء. ولعلها تكون هذه هي آخر حلقات السلسلة حول الأحكام المتعلقة بالوصية.

 

فكلنا يعلم بأن الإنسان يتنقل من مرحلة إلى أخرى، ومن طور إلى طور في هذه الحياة، بل تمر به أحوال من العسر واليسر، والفقر والغنى، والحزن والسرور، والصحة والمرض، والقوة والضعف، والإنسان في الغالب له حقوق على نفسه، ولغيره حقوق عليه، ومثل تقلبات هذه الأحوال قد ينسى الإنسان مثل هذه الحقوق، من ديون وودائع وأمانات أو ذوي فقر وحاجات أو حتى فرصته لفتح الإنسان على نفسه باب أجر يجمع له بعد موته، لكل هذا ولغيره شرع الله بلطفه ومنّه وكرمه لهذا العبد الضعيف شرع له هذا الباب، باب الوصية فسحة وأمل، شرع له ميدان حسنات حال الحياة، وبعد الممات. قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 180]، وقال تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 11]، وقال النبي: صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم".

 

أيها المسلمون: الوصية سُميت بهذا الاسم؛ لأنها تصل ما كان في الحياة بما بعد الممات، ولأن الذي يوصي قد وصل بعض التصرف الجائز في حياته ليستمر بعد موته. فأول أحكام الوصية، أن هناك وصية واجبة ووصية مستحبة.

 

أما الواجبة: فذلك حين يكون على الإنسان حقوق لغيره، فهذه يجب عليه إثباتها؛ لئلا تضيع على أصحابها، قال رسول الله صلى في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين – وفي رواية – ثلاث ليال، إلا ووصيته مكتوبة عنده"، قال ابن عمر: ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى قال ذلك إلا وعندي وصيتي، متفق عليه. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقه وصيته".

 

 فيا أيها المسلمون: من لزمته حقوق شرعية لله، أو لعباد الله من زكوات وكفارات وديون وودائع فليسارع في أدائها وليبادر في قضائها مادام قادرًا على الأداء، متمكنًا من القضاء، وإلا فليوصِ بذلك وصية واضحة في لفظها ومعناها، مجودة في كتابتها، عادلة في شهودها؛ لأنها حقوق أيها الأحبة، وسيتعلق برقبتك أصحابها يوم القيامة، ولأجل أن تحمد سيرتك ولا يبقى اهلك من بعدك في منازعات، ولكي تلقى الله عز وجل وقد أديت ما عليك، وأبرأت ذمتك، وابيضت صحيفتك، وحسنت بإذن الله خاتمتك، وخفّ في الآخرة حسابك، ومن قصر تعرض لحرمان الثواب، أهمل براءة الذمة فليعد للسؤال جوابًا.

 

أما الوصية المستحبة: فهي لمن لم تكن عليه حقوق ولم تلزمه واجبات، فهذا يستحب له أن يوصي بشيء من ماله يصرف في سبيل البر والإحسان ليصل إليه ثوابه بعد وفاته، وهذا من لطف الله بعباده لتكثير الأعمال الصالحة لهم، وهذا باب واسع من الوصايا لا تنحصر، فلك أن توصي بشيء من مالك في عمارة المساجد وخدمتها، أو بناء الأربطة والمساكن للمحتاجين، أو في قضاء ديون المعسرين، أو في الصدقة على المحاويج، أو في الإنفاق على طلبة العلم وتعليم القرآن، أو تعبيد طرق المسلمين، أو طبع الكتب النافعة ونشرها، أو الوصية بالحج والأضاحي عن نفسك أو غيرك، وغيرها من أبواب البر والخير والإحسان، لكن هذه الوصية لمن له مال كثير، وورثته غير محتاجين لقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 180]، والخير هو المال الكثير، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 8].

 

فيقول أهل العلم: إن الوصية تكره من رجل ماله قليل ووارثه محتاج، وذريته ضعفاء، فالأولى أن يبدأ بهم ولا يقدم عليهم وصيته؛ لأنهم أحق بما له وأولى بمعروفه، وأعظم في ثوابه (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [النساء: 9]، وقد قال رسول الله صلى لسعد بن أبى وقاص رضي الله عنه: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" متفق عليه.

 

 وقال الشعبي رحمه الله: "ما من أعظم أجرًا من مال يتركه الرجل لولده ويغنيهم به عن الناس، وقد مات كثير من صحابة رسول الله صلى ولم يوصوا".

 

ومن أحكام الوصية: إنها لا تصح في الأمور المبتدعة والمسائل المحرمة كالوصية للكنائس، ومعابد الكفرة والمشركين، أو الوصية لعمارة الأضرحة وإسراجها أو الوصية بالنياحة والتبذير، والبناء على القبور، والتكفين بالحرير والدفن في مسجد أو في بيت خاص، كل هذا من الوصايا التي لا يجوز تنفيذها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لو حبس الذمي من مال نفسه شيئًا على معابدهم لم يجز للمسلمين الحكم بصحته؛ لأنه لا يجوز لهم لحكم إلا بما أنزل الله، ومما أنزل الله أن لا يتعاونوا على شيء من الكفر والفسوق والعصيان، فكيف يعاونون بالحبس على المواضع التي يكفر فيها".

 

ومن أحكام الوصية أنها تجوز إلاّ في حدود ثلث المال، فأقل ولا تجوز بأكثر من الثلث لمن له ورثة؛ لأن ما زاد على الثلث حق لهم. لكن تجوز الوصية بأكثر من الثلث، بل بكل المال لمن لا وارث له؛ لأن المال الآن لم يتعلق به حق وارث ولا غريم، فأشبه ما لو تصدق بكل ماله في حال صحته.

 

قال ابن القيم: "فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله".

 

ومن أحكامها: أنها لا تصح لأحد من الورثة، بمعنى أنك لا توصي لشخص له حق في الميراث لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.

 

ومن أحكام الوصية: إن الموصَى له لا تنتقل له الوصية، ولا يملكها إلا بعد موت الموصي؛ لأنه قد يغيّر رأيه، ولهذا فمن أحكامها: أنه يجوز للموصي الرجوع في وصيته، ونقضها أو الرجوع في بعضها، وهذا متفق عليه بين أهل العلم كان يقول رجعت في وصيتي أو أبطلتها ونحو ذلك.

 

ومن أحكامها: أنه قبل تنفيذ الوصية يخرج الواجب في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية أولاً لقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 11]، فيبدأ بالدين ثم الوصية ثم الإرث.

 

ومن أحكامها: أن الوصية تصح لكل شخص يصح تملكه بمعنى أنه يصح الوصية من مسلم لكافر؛ لأنها من باب الصدقة، والصدقة تجوز دفعها للكافر، وقد كسا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخاً له وهو مشرك، وصفية أم المؤمنين أوصت بثلثها لأخ لها يهودي، وقد قال الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].

 

ومن الأحكام: أنها تصح الوصية للحمل الذي في البطن إذا تحقق وجوده، ولا تصح الوصية لحمل غير موجود، كما لو قال: أوصيت لمن ستحمل به هذه المرأة السنة القادمة؛ لأنها وصية لمعدوم.

 

ومن الأحكام: عدم صحة الوصية لمن لا يصح تمليكه كمن يوصي لشخص ميت، أو كمن يوصي بعض ماله لبهيمة أو حيوان، كما نسمع أحيانًا مما يصلنا من تفاهات الغرب وزبالة معتقداتهم أن وصى أحدهم بعدة ملايين لكلب له أو لقطة، فهذا غير جائز في شريعة الإسلام.

 

ومن أحكام الوصية: أنه لو أوصى بثلث ماله، فاستحدث مالاً بعد الوصية، دخل في الوصية لأن الثلث إنما يعتبر عند الموت في المال الموجود حينه، ولأوضح بمثال: رجل يملك مليون ريال، فأوصى بثلثها في مجال الخير وقبل وفاته صارت المليون خمسة ملايين، فالثلث يكون من الخمسة لا من المليون.

 

ومن الأحكام: أنه لو أوصى لشخص بشيء معين من ماله، مزرعة معينة، ثم قبل موت الموصي أو بعده تلفت المزرعة، بطلت الوصية، وليس له حق بالمطالبة بقيمتها أو مثلها من باقي ماله، لزوال حقه بتلف ما أوصى له به.

 

هذه بعض أحكام الوصية، نسأل الله جل وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم

 

أقول هذا القول وأستغفر ..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين …

 

أما بعد: اعلموا أيها المسلمون أنه يستحب للعبد أن يكتب وصية عامة، يوصي المسلم بها بنيه وأهله وأقاربه، ومن سيطّلع على وصيته يوصيهم بتقوى الله تعالى، وطيب العمل يذكر فيها معتقده، ثم يوصي من بعده من أولاد وبنات وزوجة بشرائع الإسلام، وكليات العقيدة، وخصال الخير العامة ويحذرهم من ضدها.

 

وليس هناك صيغة ثابتة تكتب بها الوصايا، لكن من جملة ما وصى به بعض أئمة الإسلام وكتبوه، وذكرت في بعض الكتب أن الرجل يوصي فيقول:

أوصى فلان بن فلان، وهو يشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له. إلها واحدًا. فردا صمدا. لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ولم يشرك في حكمه أحدا. ويشهد أن محمدا عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق وما أعده الله لأوليائه، والنار حق، وما أعده الله لأعدائه، وهو قد رضي بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالقرآن إماما، على ذلك يحيى، وعليه يموت إن شاء الله، ويشهد أن الملائكة حق، والنبيين حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.

 

فيا أيها الأولاد، ويا أيها البنات وأنت أيتها الزوجة وأنتم أيها الأقارب والأرحام، إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم معاده، وهذه وصية مودع ونصيحة مشفق، حسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوكم أيكم أحسن عملاً (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 132]، (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان 13]، (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 17-18].

 

 أعظم فرائض الله بعد التوحيد: الصلاة، الله الله في الصلاة، فإنها خاصة الملة، وأم العبادة، والزكاة أختها الملازمة، والصوم عبادة السر لمن يعلم السر وأخفى، والحج مع الاستطاعة، ركن واجب، هذه عُمد الإسلام وفروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين وعلى من يناوئكم ظاهرين. وتلقوا ربكم غير مبدلين ولا مغيرين.

 

واسلكوا في الاعتقاد مسلك السلف الصالح وأئمة الدين، ولا تخوضوا فيما كره السلف الخوض فيه، وعليكم بالعلم النافع، فالعلم وسيلة النفوس الشريفة، وشريطة الإخلاص والخشية لله مع الخيفة، وخير العلوم علوم الشريعة، اجتنبوا الفتن وأسبابها، ولا تدخلوا في الخلاف، والزموا الصدق فإنه شعار المؤمنين، والكذب عورة لا توارى، وحافظوا على الحشمة والصيانة، فيها أيتها البنات والنساء حافظوا خصوصًا في هذا الزمان على الحجاب، فإنه زمان قلة حياء ورقة دين وانتشار للمنكرات، وأوفوا بالعهد، وابذلوا النصح، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تطغوا في النعم، ولا تنسوا الفضل بينكم، ولا تتنافسوا في الحظوظ السخيفة، وإذا أسديتم معروفًا فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وأصلحوا ذات بينكم، واحذروا الظلم، وصلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، واعرفوا حق الأكابر، وارحموا الأصاغر، واحذروا التباغض والتحاسد.

 

 واعلموا أن جماع الأمر تقوى الله كان الله خليفتي عليكم في كل حال، وموعد الالتقاء دار البقاء، والسلام عليكم من حبيب مودع، والله يجمع إذا شاء هذا الشمل المتصدع.

 

 ثم اعلموا بأن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة ...

 

 

 

 

المرفقات

الوصية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات