ما بين العبادة والعبودية

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

عبد القادر محمد عثمان

 

كثيراً ما نقرأ الآية الكريمة في سورة الذاريات: "وما خلقت الإنسَ والجن إلا ليعبدون" ونعتقد أن معناها أن الله خلقنا لنعبده بالصلاة والحج وغيرهما من العبادات، ظانين أن المصدر من الفعل "يعبدون" هو "عبادة". ليس الأمر كذلك، بل المصدر من الفعل "يعبدون" هنا هو "عُبودية" أو "عبودة"، أي أن الله خلقنا لنكون عبيداً، لا لأنه محتاج لعبادتنا. الله سبحانه تعالى ليس بحاجة إلى عبادتنا، وإنما نحن المحتاجون إلى عبوديتنا له، ولذلك جاء في الآيتين التاليتين من نفس السورة: "ما أريد منهم من زرقٍ وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"، معنى الآيتين أن عبادتنا لا تمثل طعاماً ولا رزقاً لله سبحانه وتعالى عن ذلك، بل نحن، الأذلاء الضعفاء، محتاجون لله ليرزقنا ويطعمنا.

 

نحن مدعوون في هذه الآيات، وفي القرآن كله، إلى أن نعبد الله عبوديةً أولاً، وبعد ذلك تأتي العبادة تحصيل حاصل، وتكملة لا تمثّل شرطاً. إنْ تحققت العبودية في قلب المؤمن فسوف يطيع الله بالضرورة ويحقق كل ما استطاع من العبادة. لكن إن لم يجد الوقت للعبادة فعبوديته تكفيه عند الله. لم يدخل سحرة فرعون الجنة لأنهم "عبدوا الله عبادةً"، إذ لم يمهلهم فرعون لذلك، بل دخلوا الجنة لأنهم "عبدوا الله عبودية/عبودة" بإعلانهم كلمة الإخلاص التي وقرت في قلوبهم ثم تجسدت في سجودهم لله. وتؤكد ذلك أيضاً قصة الرجل الذي دخل الإسلام ثم سقط شهيداً في غزوة أحد قبل أن يتمكن من أن يسجد لله ولا سجدة واحدة، وشهد له الرسول (ص) بأنه من أهل الجنة. هؤلاء الذين يعبدون الله بالعبودةً والعبوديةً هم الذين يرثون الأرض، أرض الجنة أو أرض الدنيا، بحسب التفسيرين الساريين للآية الكريمة التالية في سورة الأنبياء: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون". وتنبِّه إلى هذه الحقيقة الآيةُ التي تليها من نفس السورة: "إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين"، ومعناها: انتبهوا يا من تعبدون الله عبادةً إلى ضرورة أن تعبدوا الله عبودةً وعبوديةً في المقام الأول، أو أن عبادتكم ينبغي أن توصلكم إلى مقام تشريفكم: عبوديتكم لربكم.   ما مِن كلمةٍ نستطيع أن نشرح بها، في زماننا هذا، معنى العبودة/العبودية مثل كلمة التواضع. بل إن كلمة "تواضع" هي التي تساعدنا الآن حتى في شرح وتوضيح معنى الإسلام نفسه. لقد ضاع، للأسف، في هذا الزمن معنى التواضع الذي كان المسلمون الأوائل يجدونه متضمنا في كلمة "الإسلام"؛ وتجردت العبودية من معناها الصميم لتُختزل في مجرد العبادة.

 

نعم، كلمة "إسلام" هي التي كان يفهم منها المسلمون الأوائل هذه العبودية وهذا التواضع، أما الآن فقد تبلدّنا عن ذلك الفهم، وأضحى الإسلام يعني المظهر دون المخبر. إسلام هؤلاء غلظة وجفاء، وفخر وتعالي على الآخر، وكأنك بالواحد منهم يقف مزهواً مفاخراً: الإسلام أنا وأنا الإسلام؛ الإسلام صحيح، إذن فما أفعله أنا كله صحيح؛ الآخرون يدخلون النار وأنا أدخل الجنة، فهيا معي إلى الجنة. ولو درى هذا المسكين -هدانا الله وإياه-.

 

لعلم أن المسلم الحقيقي هو المتواضع الذي يهضم نفسه، كما قال الإمام الحسن -رضي الله عنه-، ويخشى أن يكون، هو، آخر من يدخل الجنة، ويخاف أن يكون، هو، أول من يدخل النار. هذا التواضع وهذه العبودية هي التي كان يفهمها سيدنا عمر بن الخطاب، -رضي الله عنه-، عندما قال: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله". قال ذلك حين طلبوا منه أن يرتدي لباس الأبهة وأن يركب ركوب الوجاهة، لكنه، رضي الله، كان يعلم أن الأبهة والوجاهة مدعاة للخيلاء، والخيلاء من الكِبْر، والكبر منافٍ للإسلام، وللعبودية لله. وتدلنا على الفرق بين العبادة والعبودية قصةُ الرجال الذي كان ملازما للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبلى بلاء حسناً في إحدى الغزوات؛ فلما سمع النبي (ص) ثناء الصحابة على صنيعه، قال لهم: هو من أهل النار.

تعجب الصحابة لذلك، وما كان من أحدهم إلا أن لازمه ليرى ماذا يصنع ذلك الرجل حتى يستحق النار، فرآه وقد جرح جرحاً بليغاً فأسند سيفه على الأرض وتحامل عليه فقتل نفسه، فجاء ذلك الصحابي إلى الرسول (ص) وقال: أشهد أنك رسول الله، وقص عليه قصة الرجل، فقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". إذن فالتواضع هو معنى العبودية لله، وهو الإسلام، أي إسلام الأمر والنفس لرب العالمين، لكون الإنسان لا حول له ولا قوة، ولا قدر، ولا فضل، إلا ما أعطاه الله ليبتليه به. والتواضع هو الحل لنا، لكل مشكالنا، لأنه هو الذي ينقصنا ونحن لا ندري؛ ولا ندري أنه ينقصنا لأننا نجهل معناه، أو نسيناه، وما أنساناه إلا الشيطان.

 

التواضع هو الحل لأنه جماع كل الفضائل، وبدونه تغدو كل الفضائل رياء وسمعة، وعندما نتكلم عن التواضع لا نقصد مجرد "طيبة القلب والتبسط مع الناس" فحسب، بل نقصد الخضوع لله والذلة له، أي الإسلام له، ولذلك فإن التواضع مكانه القلب، وما تقوم به الجوارح من سلوك وتصرفات إنما هو تجليات جزئية له؛ وعندما نتكلم عن التواضع نقصد أن نكون عبيداً لله، بلا حول ولا قوة ولا قدر ولا فضل، وبالتالي فنحن جميعاً سواسية، لا يفتخر الرجل منا على المرأة، ولا الكبير على الصغير ، ولا يفتخر أي كان، بأي شيء كان، لا مال، ولا جمال، ولا لون، ولا  بلد، ولا حتى بالدين، لأنه ببساطة، لا يدري، مهما حَسُن عمله، هل هو من أن النار أو من أهل الجنة.   أيها الأحبة لنعبد الله بالعبودية/العبودة، قبل أن نعبده بالعبادات؛ ولتكن عباداتنا موصلةً لنا للعبودية، بالتواضع التام، والخلو من التكبر والتعالي والعجب والخيلاء والرياء، فكل ذلك من الكِبر، وذرة من الكبر تودي بصاحبها إلى النار. أيها الأحبة، لنكونَ مسلمين علينا أن نتواضع فيؤمن كل واحد منا بأنه لاحول له، ولا قوة له، ولا قدر له، ولا فضل له، لا على نفسه ولا على أحد، وأنالحول كله والقوة كلها لله، وأن القدر والفضل بيد الله يؤتيهما من يشاء، والله هو الواحد المنان. أيها الأحبة، لنتواضع، بهذا المعنى، وليس بالفهم الناقص للتواضع، حيث نعتقد أننا متواضعون، ولسنا كذلك؛ لنتواضع ليرفعنا الله، فوالله إن ذلتنا قد بلغت مدى لم تعرفه من قبل، ونخشى أن تكون ذلتنا بسبب كِبُر في نفوسنا.

 

نسأل الله أن يعافينا منه.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات