باب النجاسات

سعد بن تركي الخثلان

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

تعريف النجاسة لغة واصطلاحاً:

قال المصنف -رحمه الله-: (باب النجاسات) ثم عدَّ هذه النجاسات، نحتاج أولا إلى أن نعرف النجاسة، ما المقصود بها؟

 

فالنجاسة لغة ضد الطهارة, قالوا: نجس الشيء ينجس نجسا فهو نجس إذا كان قذرا غير نظيف, ومعناها اصطلاحا: عُرِّفت بأنها كل عين يجب التطهر منها, هذا تعريف صاحب الإقناع، وعُرِّفت بتعريف يعني أدق وهو تعريف الشيخ محمد ابن عثيمين: وهي كل عين يحرم تناولها لا لحرمتها ولا لاستقذارها ولا لضررها, (كل عين يحرم تناولها) خرج به ما يباح تناوله فليس نجسا, (ولا لحرمتها), خرج بها ما يحرم تناولها لحرمتها مثل الصيد حال الإحرام داخل الحرم فيحرم تناوله لحرمته, (ولا لاستقذارها) خرج به المخاط ونحوه, هذا لا يتناول لاستقذاره وليس لنجاسته، (ولا لضررها) مثل السم ونحوه مما فيه ضرر يحرم تناوله لضرره, فيكون إذًا تعريف النجاسة: كل عين يحرم تناولها لا لحرمتها ولا لاستقذارها ولا لضررها, أو تعريف صاحب الإقناع: كل عين يجب التطهر منها.

 

أقسام النجاسة:

ويقسم الفقهاء النجاسة إلى قسمين: نجاسة عينية ونجاسة حكمية, والنجاسة العينية: كل عين جامدة أو رطبة أو مائعة, لا تطهر بحال كالبول والغائط ودم الحيض ونحو ذلك, وهذه الحكم فيها أنها لا تطهر مطلقاً.

وذهب بعض العلماء إلى أن النجاسة العينية إذا استحالت طهرت كما لو أوقد على الروث فصار رماداً، وسيأتينا الكلام إن شاء الله عن الاستحالة، سيأتينا من كلام المؤلف وسنتطرق لبعض المسائل المعاصرة المتعلقة بالاستحالة.

 

القسم الثاني: النجاسة الحكمية: وهي التي تقع على شيء طاهر فينجس بها, كالبول يقع على الثوب فيكون هذا الثوب نجساً نجاسة حكمية.

 

قال المؤلف -رحمه الله- (النجاسات الدم), ذكر أول النجاسات: الدم, والدم أطلق المؤلف الكلام في نجاسته وفيه تفصيل:

 

الدم الخارج من السبيلين، القُبل أو الدبر كدم الحيض هذا نجس, وقد حُكي الإجماع على نجاسته, ويدل لذلك حديث أسماء: عن دم الحيض يصيب الثوب قال رسول الله -صلى الله علي وسلم-: (تحتّه ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه). رواه ]مسلم:291[.

 

القسم الثاني: الدم الطاهر وهو دم السمك والدم الذي يبقى في الحيوان المذكّى بعد تذكيته كالذي يكون في العروق ونحو ذلك, والقسم الثالث: الدم الخارج من غير السبيلين كدم الرعاف والجروح والسن ونحو ذلك, هل هذا الدم نجس أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه نجس ويُعفى عن يسيره كما سنبين, وهذا هو قول المذاهب الأربعة (الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة), وقد حُكي الإجماع عليه, وممن حكى الإجماع الإمام أحمد --رحمه الله-- قال: "لم يختلف المسلمون في الدم أنه نجس", وحكى الإجماع على نجاسة الدم أيضاً: ابن عبد البر، والنووي، وابن رشد، وابن حزم، والعيني وغيرهم, فهذه الإجماعات التي حكيت على نجاسة الدم, واستدلوا بقول الله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)]الأنعام:145[ . والرجس هو: النجس, بل الرجس مبالغة في النجاسة.

 

والقول الثاني: أن الدم الخارج من غير السبيلين طاهر, وهذا قال به الشوكاني، وصديق حسن خان، وقال به من المعاصرين: الألباني، وأيضا الشيخ محمد ابن عثيمين رحمهم الله تعالى جميعا. واستدلوا بآثار رُويت عن بعض الصحابة تدل على أنهم لا يرون نجاسة الدم:

 

قصة الصحابي الذي رُمي بسهم وهو يصلي فمضى والدم يسيل منه, وآثار أخرى رويت عن بعض الصحابة, وقالوا: إن الأصل في الأشياء الطهارة ولم يعلموا دليلاً يدل على نجاسة الدم, وأما الآية إنما سيقت في بيان ما يحرم أكله (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) ولا تلازم بين التحريم والنجاسة, فقد يكون الشيء حراماً وليس نجساً كما سبق, ثم إن المراد بقوله: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) قالوا: يعني خبيث لا يحل أكله, والرجس قد يطلق على النجاسة المعنوية, كقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)]التوبة:28[, هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة, حقيقة أن القول بالإجماع يغلق البحث في هذه المسألة, خاصة الذي نقل الإجماع هو الإمام أحمد, والإمام أحمد من المتشددين في مسائل الإجماع, والأقرب -والله أعلم- هو القول الأول بالإجماع على نجاسة الدم, وفعل الصحابة فإنه يُحمل على الدم اليسير الذي سيأتي الكلام في المعفو عنه, أو على حال الضرورة ونحوها, لولم يكن في المسألة إجماع لكان دلالة أدلة القول الثاني أقوى, لكن الإجماع مشكلة, قد تكون حكاية النووي وابن عبد البر يعني فيها ما فيها، لكن حكاية الإمام أحمد ثقيل في حكاية الإجماع, وعلى هذا -والله أعلم- القول الأول هو القول الأقرب للإجماع على نجاسة الدم.

 

قال: " وقَيءُ غيرِ المأكول " أي: من النجاسات قيءُ غيرِ المأكول, وذلك لخبثها وقذرها, وإذاً لأنه إذا حرم أكلها فقيئها كذلك, يكون محرماً ونجساً, وألحق بعض العلماء بقيء غير المأكول: قيء الآدمي, وقالوا: إنه نجس، ولكن ليس هناك دليل ظاهر يدل على نجاسة قيء الآدمي, والأصل في الأشياء الطهارة, والقول الراجح أن قيء الآدمي أنه طاهر, ومن ادعى النجاسة فعليه بالدليل, ولا دليل, وقياس القيء على الدم قياس مع الفارق, الفارق الكبير بينهم, ولأن خروج القيء قد تعم به البلوى, وخاصة الامهات مع الأطفال الرضع, فإن الأم عندما تمسك طفلها الرضيع فربما تقيأ فتعم بذلك البلوى, والقول الراجح أن قيء الآدمي طاهر وليس نجساً.

 

قال: "والمسكر " أي: الخمر, والمؤلف يرى أن الخمر نجسة, وهذه المسألة أيضاً اختلف فيها العلماء, هل الخمر نجسة أم طاهرة؟ اختلفوا على قولين:

القول الأول: أن الخمر نجسة, وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم, والذي عليه المذاهب الأربعة, الحنفية, المالكية, الشافعية, الحنابلة, واستدلوا بقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)]المائدة:90[ ولكن هذا الاستدلال محل نظر؛ لأن الله تعالى قد قرن بالخمر ما هو متفق على أنه ليس نجساً نجاسة حسية, كالميسر والأنصاب والأزلام, وعلى ذلك فيكون المقصود بالرجس هنا النجاسة المعنوية.

 

القول الثاني: أن الخمر طاهرة وليست نجسة, وهذا ذهب إليه ربيعة شيخ الإمام مالك, وذهب إليه الصنعاني والشوكاني, ومن المعاصرين الشيخ محمد بن العثيمين -رحمهم الله تعالى جميعاً-, قالوا: لأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على نجاسة الخمر, والأصل في الأشياء الطهارة, والاستدلال بالآية ذهبت مناقشته, قالوا: وما يدل لذلك أيضاً أنه لما حرمت الخمر أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإراقتها, فجرت بها سكك المدينة, ومعلوم أنها لو كانت نجسة لما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإراقتها في الطرق خاصة وأن كثيراً من الناس في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- يمشون في الطرقات بدون نعال, لو كانت نجسة لكان في هذا تلويث لهم بالنجاسة. والقول الراجح هو القول الثاني, وهو أن الخمر طاهرة وليست نجسة, وأقوى دليل أنه لا يوجد دليل على النجاسة, والأصل الطهارة هذا أقوى دليل, وهناك أدلة اخرى لم نذكرها لضيق الوقت ولضعفها مثل الاستناد لقول الله تعالى عن نهر الجنة: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)]الإنسان:21[. قالوا يعني: يفهم منها أن شراب أهل الدنيا من الخمر ليس بطهور, لكن هذه ليست دليلًا, لكن قد يقال: يقصد بذلك الطهارة المعنوية، وليس هناك دليل ظاهر يدل على نجاسة الخمر.

 

حكم التطيب بطيب دخل فيه كحول:

حكم التطيب بالطيب المشتمل على كحول, الكحول هو الغول, الذي ذكر الله تعالى في قوله: (لَا فِيهَا غَوْلٌ)]الصافات:47[, وهو أصل مادة الإسكار, وحُرِّفت فأصبحت يقال: كحول, مادة الإسكار يسمى (الكحول الإيثيلي) هذه مادة الإسكار, الآن معظم الأطياب فيها الكحول, فعلى قول الجمهور ليس له أن يتطيب به, وعلى القول الراجح لا بأس إذا تطيب الإنسان بهذه الأطياب، حتى ذكر لي بعض الإخوة – لا أدري عن صحة هذه المعلومة- يقول: حتى عطر العود فيها كحول، فهل أحد منكم يعرف ذلك؟

 

هذا هو الذي سمعت حتى عطر العود  فيه كحول، لكن الحمد لله ما دام رجحنا القول بطهارة الخمر يرتفع الحرج . لا تجد دليلا صريحا صحيحا يدل على نجاسة الخمر. فالقول الراجح أنه ليس بنجس، مع أن شربه من الموبقات المهلكات.

 

قال (والخارج من سبيل) المقصود بالسبيل القبل أو الدبر وبعضهم يعبر عن السبيل السبيلين، وبعضهم يقول سبيل، إذا قيل السبيل أو السبيلين فالمقصود بهما القبل أو الدبر، وسُمي سبيلا لأنه طريق يخرج من الخارج من البول أو الغائط، لكن المؤلف لما ذكر هذا وهو أن الخارج من السبيل أنه نجس استثنى مستثنيات:

 

الاستثناء الأول قال "سوى ريح " فالريح ليست نجسة وإن كان خروجها ناقضًا للوضوء؛ لأنها عند الفقهاء هي بنفسها ليست نجسة, هذا المستثنى الأول.

 

المستثنى الثاني: قال: "ومني طاهر" قوله: "ومني طاهر" معطوف على ريح, يعني سوى مني طاهر, والطاهر يشمل الآدمي, ويشمل كذلك الطاهر من الحيون وما يؤكل لحمه, وعلى هذا فالمؤلف يرى أن مني الآدمي طاهر, وهذه المسألة اختلف فيها العلماء في طهارة مني الآدمي ونجاسته على قولين:

القول الأول: أن المني طاهر, وهذا هو المروي عن جمهور الصحابة وإليه ذهب الشافعية والحنابلة, المني طاهر هو مذهب الشافعية والحنابلة.

 

والقول الثاني: أن المني نجس, وإليه ذهب الحنفية والمالكية.

وأصحاب القول الأول وهم القائلون بأن المني طاهر استدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لقد رأيتني أفرك المني من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يصلي فيه) [أبوداود: 372، وأحمد: 24936، وصححه الأرناؤوط] الحديث في الصحيح, معلوم أنه لو كان نجساً لم يُكتفَ بفركه, الفرك لا يزيل النجاسة, أرأيت البول لو فُرك هل تزول نجاسته؟ لا تزول, قالوا: ولأن الأصل في الأشياء الطهارة, ولم يَرد دليل ظاهر يدل على نجاسة المني, ولأن المني هو أصل الأنبياء والرسل والأولياء والصديقين والشهداء والصالحين وعباد الله المتقين, أيهم أعلى درجة الصديقين ولا الشهداء؟ الصديقين, يعني أعلى درجة بعد النبوة الصديقية, وهؤلاء يبعد جداً أن يكون أصلهم نجساً, هذه أدلة القول الأول.

 

أما القول الثاني وهم الحنفية والمالكية القائلون بنجاسة المني, وقد استدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه). رواه] البخاري:228[, في رواية أخرى في الصحيحين, (أغسل المني من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...) [ابن حبان: 1382، وأبو عوانة: 528، وصححه الأرناؤوط]. قالوا: فغسل المني دليل على نجاسته ولكن هذا الاستدلال محل نظر؛ إذ أن الغسل ليس بدليل على النجاسة, فقد يُغسل الشيء لاستقذاره, أو لوسخه ونحو ذلك, والملابس إذا اتسخت فإنها تُغسل, فهذا أي: غسله لا يدل على نجاسته.

 

والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الأول وهو أن المني طاهر؛ لقوة أدلته خاصة حديث عائشة: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم...) والفرك لا يكون من نجس وإنما يكون للشيء الطاهر.

 

ومن اللطائف في هذا ما ذكره ابن عقيل الحنبلي: "إن رجلين كانا يتناظران في طهارة المني أو نجاسته، أحدهما يقول: أنه طاهر والأخر يقول: إنه نجس, ومر عليهم أحد الناس فقال: فيم تتناظران؟ فقال الذي يقول بطهارته: إنني مدة وأنا أسعى لإقناع هذا الرجل بأن أصله طاهر فيأبى إلا أن يكون أصله نجساً", هذه من اللطائف التي ذُكرت.

 

والقول الراجح أن مني الإنسان أنه طاهر, وهكذا أيضاً مني ما يؤكل لحمه فإنه يكون طاهراً كذلك؛ لأنه ليس هناك دليل على نجاسته, بل إن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر كما سيأتي, فإذا كان بوله وروثه طاهراً فمنيه كذلك من باب أولى.

قال: "وفضلة مأكولٍ" هذا هو الاستثناء الثالث, استثنى إذاً من الخارج من السبيل: الأول الريح, والثاني المني الطاهر, والثالث فضلة مأكول, والمراد بالفضلة يعني: البول والروث, يعني بول وروث المأكول, كأن المؤلف يقول: وبول وروث ما يؤكل لحمه, لكن عبر عن ذلك بالمأكول, وبول وروث ما يؤكل لحمه إذاً أيضاً محل اختلاف بين الفقهاء, والقول الراجح أنه طاهر, كما قرر ذلك المؤلف --رحمه الله--, ومما يدل لذلك ما جاء في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر العُرنيين أن يشربوا من أبوال الصدقة وألبانها. الحديث في الصحيحين. فلو كانت نجسة ما أمرهم بشربها فهي طاهرة, أيضاً في الوقت الحاضر ذكر فيها فوائد طبية من بعض الأمراض بل في الإعجاز النبوي في التداوي بأبوال الإبل, ولا زال الآن بعض أرباب الإبل يضعون البول مع حليب الإبل ويرون فيها فائدة كبيرة, فإذاً هذا هو الدليل الأول الذي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- العُرنيين يشربون من أبوال الإبل, وأيضاً مما يدل لذلك أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع طاف على بعيره في المسجد الحرام, فإنه -عليه الصلاة والسلام- بدأ الطواف ماشياً ومن حج معه قرابة مئة ألف كل يريد أن ينظر إلى طواف النبي -عليه الصلاة والسلام-, فلما غشاه الناس ما استطاع أن يُكمل الطواف, فأمر أن يؤتى ببعيره فأكمل بقية الطواف على بعيره, وهكذا أيضاً السعي على بعيره, ولو كان بول وروث البعير نجساً لما طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعيره؛ لأنه يحتمَل أن يخرج بول أو روث من هذا البعير في المسجد الحرام الذي قد أمرنا بتطهيره (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)]البقرة:125[. وأيضاً جاء في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أم سلمة أن تطوف على بعيرها.

 

وأيضاً مما استدلوا به أيضاً ما جاء في صحيح مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أمر بالصلاة في مرابض الغنم) [مسلم: 360]. هذه الأدلة كلها تدل على أن بول وروث ما يؤكل لحمه أنه طاهر وليس نجساً ودلالتها ظاهرة.

 

التوفيق بين طهارة بول وروث الإبل وبين النهي عن الصلاة في معاطن ومبارك الإبل:

فإن قال قائل: أليس ورد النهي عن الصلاة في معاطن الإبل, هذا النهي ثابت ومحفوظ, فكيف توفق بين النهي عن الصلاة في معاطن الإبل وبين قولنا: إن بول وروث الإبل طاهر؟

 

نقول: الصلاة في معاطن الإبل أو مبارك الإبل ليس لنجاستها وإنما لمعنى آخر, قيل: إنها يخشي أن تؤذي, وقيل: إنها مواطن للجن, وقيل: غير ذلك, لكن ليس لأجل نجاستها جمعًا بين الأدلة، فإذًا النهي عن الصلاة في معاطن الإبل ليس لنجاستها بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر العرنيين أن يشربوا أبوالها, فإذا كانت نجسه لما أمرهم بشرب أبوالها.

 

قال: "والميتة"، إذن قبل هذا حتى نربط عبارة المؤلف السابقة،  لما قال (والخارج من السبيل) استثنى ثلاثة أمور: المستثنى الأول (الريح) المستثنى الثاني (مني طاهر) المستثنى الثالث: (فضلة مأكول) يعني بول وروث ما يؤكل لحمه، ثم انتقل بعد ذلك للكلام عن النجاسات، قال (والميتةُ) قوله: والميتة معطوف على "والخارجُ من سبيلٍ" فإذًا الميته معدودة من النجاسات، والميتة نجسة بالإجماع لقول الله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ )[الأنعام: 145], وقد حُكي الإجماع على نجاسة الميتة، فإذًا الميته نجسة, وهذا كما ذكرنا بالإجماع.

 

لكن أيضا استثنى المؤلف مستثنيات من الميتة: قال أولا: "سوى آدميٍ" يعني سوي ميتة الآدمي، فإنها ليست نجسة، أما المؤمن الميت طاهر وليس نجسًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن المسلم لا ينجس) [البخاري: 283، ومسلم: 372] هذا في الصحيحين، ولأن الله تعالى قد كرم بني آدم فقال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)[الإسراء:70].

 

 

أما الكافر هل هو نجس؟ هل ميتته نجسة أم لا؟ فمن العلماء من قال: إن الكافر نجس لعموم قول الله –تعالى-:(يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ )[التوبة:28].

 

القول الثاني: أن الكافر ليس نجسًا, إن ميتة الكافر ليست نجسة وأنها طاهرة كالمؤمن، وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر عبارة المؤلف؛ لأن المؤلف قال: " سوى آدمي" ولم يخص ذلك بالمؤمن, القول الثاني إذًا: أن ميتة الكافر أنها طاهرة وليست نجسة هذا هو القول الراجح, أما الآية الكريمة ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) فالمقصود بها النجاسة المعنوية, والدليل أن الله أباح طعام أهل الكتاب ونساءهم, ولم يرد الأمر بالتطهر منهم, هذا المستثنى الأول من الميتة.

 

قال: " سوى آدمي ومأكولةٍ", معني عبارة المؤلف: "ومأكوله": ومأكوله ميتة أي: ما يباح أكلها من الميتة هذا معناه وما الذي يباح أكله من الميتة السمك والجراد، والمؤلف يريد بذلك السمك والجراد؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في البحر: (هو الطهور ماءه، الحل ميتته) [أبو داود: 83، وأحمد: 7233] ويشمل كذلك جميع حيوانات البحر، (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ)]المائدة:96[,وميتة البحر حلال فيشمل إذًا قول المؤلف: "سوى آدمي ومأكوله", يشمل جميع الميتة التي يباح أكلها وهي: ميتة البحر، وكذلك أيضا الجراد؛ لأن الميتة التي يباح أكلها هي: ميتة البحر وكذلك الجراد.

 

قال: " سوى آدمي ومأكوله وشعر طاهر" وشعر طاهر هذا هو المستثنى الثالث أي: سوي شعر طاهر فإنه لا ينجس بالموت, والشعر الطاهر: هو شعر الحيوان المأكول, هذا هو الشعر الطاهر, أما غير المأكول فهذا ليس بطاهر, مثل الشعر: الصوف والريش, فهذا ما كان طاهرا في حال الحياة فإنه يكون كذلك طاهرا بعد الممات, هذا المستثنى الثالث.

 

قال: "وما لا نفس له سائلة" وما لا نفس قال الفقهاء: يراد بالنفس الدم، فيطلق لفظ النفس على الدم, وسائلة يعني: ليس له دم يسيل إذا قُتل أو جُرح, فإن هذا لا ينجس بالموت مثل الذباب والبعوض الصغير والنمل والحشرات الصغيرة التي ليس لها دم يسيل عموما, هذه ميتتها طاهرة وليست نجسة, الدليل علي ذلك, الدليل على أن ميتتها طاهرة وليس نجسة هو: حديث أبى هريرة -رضى الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء). أخرجه ]البخاري:3320[, ومدلولات هذا الحديث علي طهارة ما لا له دم سائل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بغمس الذباب, من المعلوم أن الذباب إذا غُمس في الإناء الذي فيه ماء حار سيموت, لو كان نجسًا ما أمر بغمسه فدل هذا علي أن ما لا نفس له سائلة, ما ليس له دم يسيل فإنه طاهر وليس نجس.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات