القول على الله بغير علم

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات:

 للشيخ: عبد الحي يوسف

 

من الفواقر التي تصيب الأمة في آخر الزمان انتزاع العلم بموت العلماء، وتصدر الجهلاء للقول على الله بغير علم، مع أن الله قد حذر من ذلك أشد تحذير، وكان رسول الله لا يفتي في المسألة إلا بعلم أو نزول الوحي، وهكذا كان الصحابة والتابعون، وصالحو الأمة من الأئمة وغيرهم. وللقول على الله بغير علم مظاهر كالتلاعب بأحكام الشريعة، ونسبة شيء لرسول الله لم يقله ولم يفعله.

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في سبيل ربه حق الجهاد، ولم يترك شيئاً مما أمر به إلا بلغه.

 

فتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وهدى الناس من الضلالة، ونجاهم من الجهالة، وبصرهم من العمى، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه، أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و  إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

 

أيها المسلمون عباد الله! من المصائب العظام، والطامات الكبار التي ابتلي بها المسلمون في هذا الزمان جرأة كثير من الناس على القول على الله تعالى بغير علم، يتصدر أحدهم للفتيا والتدريس، وبضاعته في العلم مزجاة، وخبرته بكتب أهله قليلة، ومعرفته بالواقع معدومة، ثم بعد ذلك تطير منه الفتاوى ذات اليمين وذات الشمال؛ فيضل بها خلق كثيرون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رءوساً جهالاً؛ فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ).

 

أيها المسلمون عباد الله! اعلموا أن القول على الله بغير علم حرام، القول في القرآن بالرأي حرام، الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام، أن تقوله ما لم يقل، أو أن تفسر كلامه بما لم يرد، هذا كله حرام، قال الله عز وجل:  قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وقال:  وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116-117]، وقال عز وجل:  وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].

 

مواقف في التورع عن الفتوى

موقف رسول الله عند سؤاله عما لا يعلم

إن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم كان إمام المسلمين وسيد العالمين، يسأل في المسألة فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، لما سئل صلوات ربي وسلامه عليه عن أحب البقاع إلى الله، توقف عليه الصلاة والسلام وما أجاب السائل بقليل ولا كثير من الكلام، حتى نزل عليه الوحي، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن أحب البقاع إلى الله المساجد، وإن أبغض البلاد إلى الله الأسواق ) ، وهو الذي علمنا صلوات ربي وسلامه عليه أن: ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ) ، قال الإمام الغزالي أبو حامد رحمه الله: ويدخل في ذلك قول المفتي بما لا يتحققه، وروايته الحديث الذي لا يثبته، إذ غرضه من ذلك أن يظهر نفسه، فهو يستنكف من أن يقول: لا أدري، وهذا حرام.

 

فينبغي للإنسان إذا كان لا يدري أن يقول على الملأ: لا أدري، قدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاءته امرأة سعد بن الربيع رضي الله عنه، فقالت: ( يا رسول الله! إن سعداً قتل يوم أحد وترك بنتين؛ فجاء عمهما فأخذ المال كله، ولا تنكحان إلا بمال، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله آية الميراث في سورة النساء:  يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ...[النساء:11] ، إلى أن قال:  وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12]؛ فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك العم، وقال له: أعط البنتين الثلثين، وأمهما الثمن، ثم شأنك بالباقي )، هكذا علمنا صلوات ربي وسلامه عليه.

 

موقف الصحابة من الفتوى بغير علم

وهكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أيها الناس! من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم.

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:  قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركت في هذا المسجد -يعني: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما منهم من أحد يسأل عن مسألة إلا ود لو أن أخاه كفاه، أي: تعرض على أحدهم المسألة فيحيل على الآخر، ثم يحيل الآخر على الآخر، حتى ترجع إلى الأول؛ فما كانوا يتصدرون للفتيا، ولا كانوا يريدون أن يعرفوا بين الناس بها؛ لأنهم يعلمون أنها مسئولية، وأن: ( أجرأهم على الفتيا أجرؤهم على النار ) ، كما خاطبهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

موقف التابعين والأئمة من الفتوى بغير علم

وهكذا من جاء بعدهم ممن سار على نهجهم كالأئمة الثقات الأثبات رضوان الله عليهم، كانوا أهل ورع في الفتيا، فهذا مالك إمام دار الهجرة الذي تضرب إليه أكباد الإبل، ويقصده الناس من المشارق والمغارب يسأله رجل من أهل اليمن عن ثمان وأربعين مسألةً، فيجيب في اثنتين وثلاثين بـ(لا أدري!).

ثلثي الأسئلة و مالك يقول فيها: لا أدري، قال الرجل: مالك بن أنس لا يدري! قال: نعم، قال له: أما تستحي؟ قال: لا؛ فإن الملائكة ما استحت حين قالت:  سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32] ، قال له الرجل: جئتك من اليمن وتقول: لا أدري! ماذا أقول للناس؟ قال له: قل لهم: مالك بن أنس يقول: لا أدري!

 

ولكن مالكاً بقيت القلوب تحبه، والأمة تتلقى أقواله بالقبول، والناس تخضع لرأيه، وتثق بعلمه؛ لأنه خاف الله عز وجل، ولم يقل على الله ما لا يعلم.

دخل رجل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو شيخ الإمام مالك رحمة الله على الجميع؛ فوجد ربيعة يبكي، قال له: ما يبكيك؟ قال: سئل من لا علم عنده فأجاب، وظهر في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق. قال ابن القيم رحمه الله: قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وتصدي من لا علم له للفتيا، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، ومد باع التكلف إليها، وهو بين العلماء منكر غريب، وليس له من علم الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب!

 

أقول: كيف لو رأى علماؤنا أولئك زماننا هذا! تصدى للفتوى كل من هب ودب، بغير علم ولا ورع ولا أدب، تجد الشاب حديث السن قليل العلم، الذي لا يفقه من القرآن قليلاً ولا كثيراً، ولم يقرأ من السنة شيئاً، بضاعته من العلم كتيب وقعت عليه يده، أو صفحات قرأها على شبكة المعلومات، أو كلاماً متطايراً سمع به عن فلان أو فلان من الناس، يتصدى للمسائل الكبار، حتى لربما يجرؤ على تكفير سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه والله طامة عظيمة!

 

خطر الجرأة على الفتوى بغير علم

يا معشر الشباب! ( أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ) ، يا معشر الشباب! كفوا ألسنتكم عن المسلمين، أقبلوا على ما ينفعكم، اشتغلوا بالعلم واجلسوا في حلقه، تعلموا التواضع، تلقوا العلم عن أهله من أجل أن تعرفوا ماذا قال ربنا، ماذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن العلم يؤخذ من أفواه الرجال الموثوقين العالمين العاملين؛ الذين شهد لهم سواد الأمة بالقبول، هؤلاء الذين يتلقى العلم عنهم، أما أن يتصدى كل إنسان ويهجم على القرآن ويهجم على السنة، بدعوى أنه ليس في الإسلام كهنوت، وليس في الإسلام رجال دين، نقول: هذه كلمة حق أريد بها باطل، نعم؛ ليس في الإسلام كهنوت، وليس في الإسلام رجال دين، لكن للإسلام علماء، قال الله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] .

 

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالقتل على جماعة من أصحابه، دعا عليهم لأنهم أفتوا بغير علم، ثبت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ( كنا في سفر، فأصابت رجلاً منا شجة؛ فأصبح جنباً، فقال لمن معه: أتجدون لي رخصةً أن أتيمم؟ قالوا: لا، كيف وأنت تقدر على الماء، فاغتسل الرجل فمات، قال: فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قتلوه قتلهم الله )، جعلهم قتلة لأنهم أفتوا بغير علم، ( ألا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يعصر -أو قال: يعصب- على جرحه بخرقة ويمسح عليها، ثم يغسل سائر جسده )، هذه فتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنكر على أولئك وهم صحابة كرام، أتقياء أعلام، قال عنهم: ( قتلوه قتلهم الله )؛ لأنهم أفتوا بغير علم.

 

يا معشر الشباب! اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ( إن أخوف ما أخاف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت عليه بهجته وكان ردءاً للإسلام وأهله، غير إلى ما شاء الله، ثم سعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك، قالوا: يا رسول الله! أيهما أحق بالكفر، الرامي أم المرمي؟ قال: بل الرامي )، هذا الذي يرمي الناس بالشرك، ويجترئ على المسلمين الموحدين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يجترئ عليهم، وهو لا يعرف شروطاً ولا موانع، لا يعرف عوارض الأهلية، ولا يعرف النصوص الشرعية، ولا كلام أهل العلم، هذا هو أحق بأن يرمى بما رمى به الناس.

 

قال سحنون رحمه الله: أجرأ الناس على الفتيا وأجسرهم عليها أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم؛ فيحسب أن الحق كله فيه، أي: أن الواحد منهم إذا قرأ صفحات أو سمع كلاماً لواحد من العلماء، يرى أن العلم كله عنده، والفهم كله عنده.

 

يا معشر الشباب! أقبلوا على ما ينفعكم، وإياكم ثم إياكم والقول على الله بغير علم، إياكم والجرأة على الفتيا، إياكم وإطلاق اللسان في أهل العلم ودعاة المسلمين أمواتاً وأحياءً، و( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ).

 

اللهم فقهنا في ديننا، وعلمنا سنة نبينا، وارزقنا الثبات واليقين، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وتوبوا إلى الله واستغفروه.

 

من مظاهر القول على الله بغير علم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين،  لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70] ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وآل كل وصحب كل أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين، أما بعد:

 

أيها المسلمون! فاتقوا الله حق تقاته:  وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].

 

 

التلاعب بأحكام الكتاب والسنة

واعلموا أيها الإخوة في الله أن من مظاهر القول على الله بغير علم: التلاعب بأحكام الكتاب والسنة؛ فتجد الواحد من الناس يسمع آية من القرآن، يسأل أحدهم عن معناها؛ فيقول الآخر: معناها كذا وكذا، من غير أثارة من علم ولا هدى ولا كتاب منير، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ )؛ فالقائل في القرآن بغير علم حتى لو أصاب الحق فهو مخطئ، لتسوره على العلم، وجرأته على القول على الله عز وجل، وقد عده رسول الله صلى الله عليه وسلم آثماً مذنباً.

 

نسبة شيء إلى رسول الله لم يقله

ومن مظاهر القول على الله بغير علم: أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، قال عليه الصلاة والسلام: ( سيكون في آخر الزمان ناس كذابون دجالون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فلا تصدقوهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم، إياكم وإياهم )؛ ولذلك كان واجب على الحاكم المسلم أن يمنع هؤلاء من أن ينشروا بين الناس الترهات والأباطيل، والخرافات والأساطير، ومن أن ينشروا بين المسلمين ثقافةً لا أصل لها، ومن أن يجترئوا على التكفير والتبديع والتفسيق، والحكم على الناس بالنفاق، والاجتراء على الدماء، وما إلى ذلك من الطامات العظام.

 

هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين، من فقهه الله في الدين، يدخل المسجد يوماً فيجد رجلاً يعظ الناس ويخوفهم، فقال له علي رضي الله عنه: هل علمت الناسخ والمنسوخ؟ فقال الرجل: لا، قال له علي : هلكت وأهلكت، ثم أمر بمنعه من الحديث في المسجد. هذا الذي لا علم عنده بالناسخ والمنسوخ قد منعه علي رضي الله عنه من الحديث في المسجد.

 

يقول مجاهد بن جبر رحمه الله: جاء رجل يقال له: بشير العدوي إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ فوقف أمامه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، و ابن عباس معرض عنه لا يستمع إليه، فقال له: يا ابن عباس ! ما لك لا تسمع لحديثي، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معرض عني؟! قال له ابن عباس وهو الفقيه العالم الثبت الثقة الذي يميز الخبيث من الطيب: كنا إذا قال الرجل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغت إليه آذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول صرنا لا نقبل إلا ما نعرف. يعني: ليس كل من آتاه الله فصاحةً، ولا كل من طالت لحيته أهلاً للحديث في دين الله، وليس كل من تصدى لتدريس الناس أهلاً لذلك كما قال الأول:

 

تصدر للتدريس كل مهوس جهول تسمى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس

 

هكذا هو الحال؛ إذ كل من لم يجد عملاً قال: أنا أحدث الناس، أنا أدرس الناس، ثم يأتي بالضعيف والموضوع والمختلق المكذوب، ويقول في كتاب الله ما لا يعلم، وينشر بين الناس فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان.

 

يا معشر الشباب! يا من تخصصتم في العلوم التجريبية! أيها الأطباء! أيها المهندسون! يا من تدرسون الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وغيرها من التخصصات النادرة والعلوم النافعة! اعلموا أن الأمة بحاجة إليكم، أقبلوا على هذه العلوم التي تنفعون بها أمتكم، إن المسلمين بحاجة إلى عالم الذرة، بحاجة إلى عالم الرياضيات، بحاجة إلى عالم الكيمياء والفيزياء، ومن قال لكم: دراسة هذه العلوم حرام، فقد كذب على الله، وضلل الأمة، وأراد أن يصرف الشباب عن النافع المفيد، وأراد أن يجهل الناس، وهذا قول من لا خبرة له بالواقع، ولا علم عنده، ولم يلتمس النصح للمسلمين، أقبلوا على هذه العلوم، لا تقتحموا كتب العقيدة وكتب التفسير من أجل أن تقرءوا قراءةً سريعة ثم تخرجوا على الناس بالفتاوى التي لا خطام لها ولا زمام، هذا والله حرام.

 

لنترك كل علم لأهله، لمن تخصصوا فيه، لمن أفنوا أعمارهم، لمن يعرفون دقائقه، لمن يستطيعون الوصول إلى المسائل في مظانها، لمن يستطيعون التمييز بين المقبول والمردود، وبين الضعيف والقوي من أقوال أهل العلم، اتركوا هذا لأهله، وتعلموا التواضع، إذا جهل أحد مسألةً فلا يستنكفن من السؤال فيها، والرجوع إلى أهل العلم، والتواضع لهم والنزول على أقوالهم.

 

هذا الذي تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من تكبر وشمخ بأنفه، وظن أن ذكاءه الذي أوصله إلى الجامعة كفيل له بالاستغناء عن العلماء وسؤالهم، فهذا عما قليل يضل ويضل، كم من أناس كانت عقولهم نيرة، وأفهامهم ثاقبة، وكان يشار إليهم بالبنان في علومهم التي تخصصوا فيها، فلما أصابهم الكبر أصيبوا بنكسة الأبصار والعياذ بالله؛ فنكست أبصارهم وبصائرهم.

 

يا معشر الشباب! لا تضيعوا أعماركم، أقبلوا على علومكم، اجتهدوا في جامعاتكم ومدارسكم، واستحضروا نيةً صالحة.

 

أسأل الله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا إلى خير العلم وخير العمل.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.

 

اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اجعل بلادنا آمنةً مطمئنةً سخيةً رخيةً وسائر بلاد المسلمين، اللهم جنبنا الزلازل والمحن وسائر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً.

 

اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصراً ومعيناً يا أرحم الراحمين.

 

اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن بنى هذا المسجد المبارك، ولمن عبد الله فيه، ولجيرانه من المسلمين والمسلمات.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات