الجرأة على الفتيا

عبد الله بن عبد العزيز التميمي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ الإفتاء منصب عظيم 2/ تورع السلف عن الفتوى 3/ وجوب الحذر من القول على الله بلا علم.

اقتباس

وإن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري ما حكم الله فيه، أو يقول عنه بأنه حرام وهو لا يدري ما حكم الله، وهذه جناية وسوء أدب مع الله عز وجل، إذ كيف يعلم العبد أن الحكم لله ثم يتقدم بين يديه فيقول في دينه وشرعته ما لا يعلم؟! لقد قرن الله القول عليه بلا علم بالشرك به..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الإفتاء منصب عظيم، به يتصدى صاحبه لبيان ما يشكل على العامة من أمور دينهم ويرشدهم إلى الصراط المستقيم، لذلك كان لا يتصدر لهذا المنصب العظيم إلا من كان أهلاً له.

 

وإن من الواجب على العباد أن يتقوا الله –تعالى-، وألا يتكلموا إلا عن علم وبصيرة، وأن يعلموا أن الله وحده له الخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للخلق إلا الله، ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله، فالله وحده هو الذي يوجب الشيء؛ وهو يحرمه، وهو الذي يندب إليه ويحلله..

 

ولقد أنكر –سبحانه- على من يحللون ويحرّمون بأهوائهم: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [يونس:58-60]، وقال سبحانه: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل:117].

 

وإن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري ما حكم الله فيه، أو يقول عنه بأنه حرام وهو لا يدري ما حكم الله، وهذه جناية وسوء أدب مع الله عز وجل، إذ كيف يعلم العبد أن الحكم لله ثم يتقدم بين يديه فيقول في دينه وشرعته ما لا يعلم؟!

 

لقد قرن الله القول عليه بلا علم بالشرك به فقال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33].

 

إن القول على الله بلا علم يورد صاحبه الموارد، ولقد أدّب الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36]، وأَمَره حين سئل عن الساعة أن يقول: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) [الأعراف: 187].

 

وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يقول: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلّني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم"!

 

وكان عمر -رضي الله عنه- تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها، قال ابن سيرين: "لم يكن أحد أهيب مما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر".

 

وقال ابن مسعود: "أيها الناس، من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم".

 

سأل رجل ابن عمر عن مسألة فطأطأ ابن عمر رأسه ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع مقالته؛ فقال له: يرحمك الله، أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله تعالى ليس بسائلنا عما تسألونا عنه. اتركنا رحمك الله حتى نتفهم مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به.

 

وقال نافع: كان ابن عمر يجلس للناس عند مقدم الحاج؛ وكان يردّ أكثر مما يفتي.. ولقد جاءه رجل –يعني ابن عمر- يسأله عن شيء، فقال: لا علم لي به. ثم التفت إلى من حوله بعد أن قفّى الرجل فقال: نِعْم ما قاله ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال: لا أعلم.

 

وسئل -رضي الله عنه- عن شيء فقال: لا أدري، ثم أتبعها بقوله: أتريدون أن تجعلوا من ظهورنا لكم جسوراً في جهنم أن تقولوا: أفتانا ابن عمر بهذا؟!

 

وعلى هذا النهج القويم والطريق المستقيم سار التابعون بإحسان والسلف الصالح رحمهم الله أجمعين، فلقد سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أحسنها، فقال له أصحابه: ألا تستحي أن تقول: لا أعلم، وأنت فقيه أهل العراقين؟! قال: ولكن الملائكة لم تستحي حين قالت: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32]؟!

 

وقال القاسم بن محمد: "ما نعلم كل ما نُسأل عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعرف حق الله عليه خير له من أن يقول ما لا يعلم".

 

وجاء رجل من أهل المغرب إلى الإمام مالك في المدينة فسأله عن مسألة فقال: لا أدري، فقال: يا أبا عبدالله؛ تقول: لا أدري؟! قال: نعم، وبلّغ من وراءك أن مالكاً يقول: لا أدري.

وكان الإمام أحمد يُسأل؛ فكثيراً ما يقول: لا أدري.

 

أيها المسلمون.. إن من التناقضات جرأة كثير من الناس على إصدار الفتاوى الشرعية مع أنهم يجهلون كثيراً ولم يُعرفوا بالعلم ولا مجالسة أهله، بل إنهم زادوا المصيبة وبالاً وشناعةً عندما قاموا يخطّئون العلماء الراسخين، فنصبوا أنفسهم فقهاء ومحدثين، بل ومجتهدين مطلقين.

 

وفي المقابل تجد هذا الصنف من الناس يمسكون ألسنتهم عن الخوض في الأمور الطبية والمعمارية؛ فلا يقبلون وصفة ولا دواء إلا من طبيب حاذق، ولا يشرع أحدهم في مشروع معماري إلا برأي مهندس عارف، بل ويزجرون من تكلم في أمر الطب والبناء وهو جاهل بذلك.

 

إن هذا لشيء عجاب! فما كل هذا التناقض؟! أيحتاطون لأمر دنياهم ويفرّطون في أمر دينهم؟!

 

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "يا لله العجب! لو ادعى رجل معرفة صناعة من صنائع الدنيا ولم يعرفه الناس بها ولا شاهدوا عنده آلاتها؛ لكذّبوه في دعواه ولم يأمنوه على أموالهم ولم يمكّنوه أن يعمل فيها ما يدّعيه من تلك الصناعة. فكيف بمن يدّعي معرفة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما شوهد قط يكتب علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يجالس أهله ولا يدارسهم؟! فيا لله العجب! كيف يقبل أهل العقل دعواه ويحكّمونه في أديانهم يفسدها بدعواه الكاذبة؟!"اهـ.

 

اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع بأحسنه: "أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب".

 

بارك الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

إن الفتوى جمرة تضطرم، فاسمع ما شئت من فتاوى مُضجَعَةٍ محلولة العقال، مبنية على التجري لا التحري، تُعْنت الخلق وتُشجي الحلق، لا تقوم على قدمي حق، بل ولا على قدمي باطل حق. يأنف أحدهم من التجاسر على صرف المستفتي بلا جواب فيتجاسر على القول على الله بلا علم؛ ويفتي اجتراراً من معلومات عفى عليها الزمن، ولا يدري كيف يستلّها من مطاوي الكتب، بانياً على الظن؛ والظن أكذب الحديث.

 

بل تراه –وسبحان الفتاح العليم- يشرع في الجواب قبل استكمال السؤال ويلتفت يميناً وشمالا، ويَحِفّ ويَرِفّ على الحضور مختالاً بجوابه الإنشائي المهزول، يفتي في وقت أضيق من صدر اللئيم، بما يتوقف فيه شيوخ الإسلام وأئمته الأعلام:

وقال الطانزون له: فقيهٌ *** فصعّد حاجبيه به وتاها

وأطرق للمسائل أي بأني*** ولا يدري لعمرك ما طحاها

 

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا".

 

وقال بشر الحافي: "من أحب أن يُسأل فليس بأهل أن يُسأل".

قال ابن القيم: "قال بعض العلماء: قلّ من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قلّ توفيقه واضطرب في أمره. وإن كان كارها لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه وعَسُر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره: كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاحُ في فتاويه وجوابه أغلب"اهـ.

 

دخل رجل على ربيعة بن أبي عبدالرحمن فوجده يبكي؛ فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه؛ فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. ثم قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السرّاق.

 

فالله المستعان..كيف لو رأى ربيعة أهل زماننا؟ وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثّبه عليها ومدّ باع التكلف إليها؟ وتسلّقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة؟ وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب؛ وليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب. ولا يبدي جواباً بإحسان، ويقول: كذلك يقول فلان بن فلان، يمدّون للإفتاء باعاً قصيرة وأكثرهم عند الفتاوي يكذلك اللهم ارزقنا الفقه في الدين؛ والاقتداء بهدي سيد المرسلين.

 

 

 

المرفقات

على الفتيا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات